بعد الإخفاق الفرنسي الشامل.. هل تنجح روسيا في إحكام قبضتها على مالي؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/26 الساعة 08:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/26 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
احتجاجات سابقة ضد التواجد العسكري الأوروبي في مالي/ getty images

التحركات الأخيرة التي تجري بين باماكو وموسكو تحمل وراءها رسائل عديدة، فالدولة التي أضحت تشكل بؤرة الاهتمامات الأمنية والاستراتيجية في المنطقة، باتت واحدة من المناطق الرئيسة لإدارة الصراع على النفوذ.

منذ أكثر من عقدين، تربعت منطقة الساحل جنوب الصحراء على قائمة المناطق التي ترفع مستوى التحدي الأمني للسياسات الدولية؛ وذلك لأسباب عدة، منها ضعف مقومات الاستقرار السياسي، وهشاشة الدولة، ونشاط الحركات الإرهابية (تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي منذ 2006، وتنظيم الدولة سنة 2015)، وعدم قدرة الدول المحيطة على تأمين حدودها معها (الجزائر، النيجر، بوركينافاسو).

المعطى المتحول، الذي زاد من تعقيد المعادلة في المنطقة، يمكن أن نلمسه في مؤشرين اثنين، هما حركية الانقلاب على السلطة؛ إذ لا يتم البدء في ترتيب مسار سياسي، لتسليم السلطة من العسكريين إلى المدنيين عبر آلية انتخابية متوافق حولها، حتى يحدث انقلاب يعيد الصراع السياسي إلى نقطة الصفر، فيما يرتبط المؤشر الثاني، بتغير خارطة الفاعلين الدوليين، وبالأخص تراجع الدور الفرنسي بعد انسحاب قواتها من مالي وإعلان سلطة الانقلاب عن إنهاء الاتفاقات الدفاعية معها، وبروز الدور الروسي إلى الواجهة.

عملياً، لا بد من الإشارة إلى أن التحدي الإرهابي الذي تواجهه مالي، هو ما كان يبرر لدى أي سلطة البحث عن دعم أجنبي، يتمثل أساساً في نفوذ عسكري، يمكِّن السلطة من بناء شرعيتها من جهة، وتبرير قدرتها على الحفاظ على الأمن والاستقرار في مواجهة الجماعات الإرهابية.

تعزَّز النفوذ الفرنسي في مالي ما بين 2013 و2015، وذلك من خلال فعالية العمليات العسكرية التي قام بها الجنود الفرنسيون والماليون، خاصة في عملية فرسال التي حققت نجاحات كبيرة باستعادة مدينة غاوا وتومبكتو ومطار كيدال بعد أن سيطر عليها الطوارق المتمردون إضافة إلى الجماعات الجهادية. لكن الإخفاقات التي مني بها الجنود الفرنسيون والماليون، بعد ذلك، دفعت في اتجاه توسيع دائرة النفوذ العسكري في المنطقة، فتم الانعطاف إلى فكرة المواجهة الإقليمية للإرهاب من خلال إشراك قوى عسكرية إقليمية في مكافحة الإرهاب ودعم استقرار مالي.

تطور الوقائع في هذه المنطقة يشير إلى حصول إخفاق شامل، فلا الأمم المتحدة نجحت في إحلال الاستقرار السياسي في مالي، من خلال عمليتها (مينوسما سنة 2014)، ولا فرنسا حافظت على فعالية عملياتها العسكرية ونجحت في إنهاء التحدي الإرهابي (فشل عملية برخان رغم بعض النجاحات الجزئية التي حققتها)، ولا الجزائر نجحت في تحويل اتفاق السلام الذي وقع على أرضها بين الحكومة المالية والمتمردين الطوارق في إحلال السلام وتحصين الداخل المالي من الاستهداف الذي تمثله الجماعات الإٍرهابية؛ إذ تزايدت في مرحلة ما بعد 2015، الهجمات على القوات المالية والأجنبية، واتجهت الجماعات الجهادية إلى توحيد كياناتها بهدف تقوية استراتيجيتها وإضعاف أي خيار إمكانية لاستتباب الأمن وإحلال الاستقرار السياسي بمالي.

وإذا كانت هذه الخلفية مفيدة في فهم خلفيات القلق الذي يتمخض داخل البنية العسكرية في مالي، ويفسر سبب قيام انقلابات مفاجئة، تقضي على أي أمل في ترتيب وضع سياسي مستقر، ينقل السلطة إلى المدنيين، فإن الوجه الآخر من المشكلة، يكمن أساساً في طبيعة العلاقة التي تربط السلطة القائمة بالفاعل الأجنبي، وحدود الثقة المرسومة، وتأثير ذلك على استقرار السلطة نفسها.

يبدو في الظاهر أن سبب الانقلابات المتواترة في مالي يكمن في عدم حصول توافق داخل المؤسسة العسكرية حول طبيعة العلاقة مع الفاعل الأجنبي، وأن الخطر الإرهابي، لا يغطي مطلقاً على هذا الخلاف الضامر، وأنه على العكس من ذلك يُستعمل ذريعة لإخفاء هذا الصراع. ما يعزز هذا الافتراض، التفسيري، مؤشرات عدة، منها أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند استقبل استقبال الفاتحين في العاصمة المالية عندما نجحت عملية فرسال في استعادة المدن الثلاث الرئيسية المالية، لكن هذا الود لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما طالب قادة الانقلاب في مالي بإنهاء الاتفاقات الدفاعية مع فرنسا، واتهامها بالتحرك من وراء دوافع استعمارية، ومنها أن هذه الانقلابات لا تحصل إلا في اللحظة التي يقترب فيها الوفاء بتعهد تسليم السلطة إلى المدنيين، مما يفسر توتر علاقة المؤسسة العسكرية مع الفاعل الأجنبي، إما بسبب شعورها بفقدان السلطة، أو وجود مؤشرات لديها بنوايا الفاعل الأجنبي لإقامة سلطة مدنية تخدم المصالح الأجنبية بالدرجة الأولى، ومنها أن سلطة الانقلاب في كل الموجات الانقلابية، لم تكن تتعامل مع القوى الإقليمية بنفس الطريقة التي تتعامل فيها مع الفاعل الأجنبي، فقد ظلت العلاقة بين مالي والمغرب، من جهة، وبين مالي والجزائر من جهة أخرى، مستقرة، لم يغيرها شيء، رغم موقف هذين البلدين من شرعية الانقلاب، ودعوتهما إلى ضرورة الإسراع في ترتيب خارطة حل سياسي تسلم فيه السلطة إلى المدنيين.

 تحرك السياسة الروسية في المنطقة، تجري على أرضية صلبة فيما يبدو، فهي من الناحية الجيوستراتيجية، تتحرك عبر شريك استراتيجي، يمكنها من الوصول إلى العمق المالي (الجزائر التي لها حدود ممتدة مع مالي)، وهي من الناحية السياسية، تستثمر حاجة مالية متعددة الأبعاد (أمنية لمواجهة الإرهاب) وسياسية (لمواجهة الفرض الدولي والإقليمي لشرعية الانقلاب) و(عسكري لتعويض النفوذ الفرنسي وتقوية الأداء العملياتي للقوات المالية) وأيضاً اقتصادي تجاري (لتلبية الأمن الطاقي والغذائي).

طبيعة العلاقات بين مالي وروسيا تطورت بشكل كبير، فمن طلب خدمات أمنية (مستشارين روس بلغة قادة الانقلاب، وخدمات شركة فاغنر الأمنية بتعبير معارضيها) إلى تنسيق استراتيجي، يؤمن لروسيا نفوذاً في هذه المنطقة الحساسة في غرب إفريقيا.

الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية المالي لموسكو، تشرح بشكل واضح هذه الأبعاد، فهناك رهان يتعدى حاجة مالي، إلى دور أكبر لهذه المنطقة، في تأمين الطاقة والغذاء لإفريقيا من روسيا.

روسيا تبحث في هذه الظرفية عن فك العزلة، وعن مناطق نفوذ تحاول من خلالها إثبات قدرتها على التمدد وفك عزلتها، وأن لها شركاء متعددين في كل قارة، لا سيما في آسيا وإفريقيا، وأن الاستراتيجية الأمريكية لعزل روسيا قد فشلت، لكن، في الجوهر، لا يبدو أفق هذا التمدد الاستراتيجي الروسي واضحاً، وذلك لاعتبارات أمنية وسياسية واقتصادية.

بالاعتبار السياسي والاستراتيجي، لا تملك روسيا في هذه المنطقة سوى شريك واحد موثوق هو الجزائر، في حين، يعارض زعماء منطقة غرب إفريقيا شرعية الانقلاب ويدعون إلى تعيين رئيس وزراء مدني جديد في مالي وضرورة عدم تجاوز الفترة الانتقالية مدة 18 شهراً وتنظيم الانتخابات الرئاسية في شباط 2022.

أما بالاعتبار الاقتصادي، فقد قررت مجموعة الإيكواس (المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) تعليق عضوية مالي بها، وربطت استعادة عضويتها بضرورة الاستجابة لهذه الاشتراطات السياسية.

أما بالاعتبار الأمني، فقد أثبتت تطورات العلاقة بين مالي وروسيا في زمن حرب موسكو على كييف، أن خطوة اجتماع في مراكش خُصص لمكافحة داعش في إفريقيا، لم يكن منفصلاً أو معزولاً، بل كان جواباً على هذه التحديات الاستراتيجية الجديدة، والتي صار لها انعكاس واضح على واجهة أمنية.

من المفيد في هذا الاجتماع الذي اندرج ضمن التحالف الدولي لمكافحة داعش، الانتباه إلى ثلاث سمات أساسية؛ الأولى هي الحضور الإفريقي الوازن، لا سيما من دول غرب إفريقيا، والثانية هي الحضور الأمريكي الأوروبي، بل وحضور الحلف الأطلسي، والثالثة هي تعيين جغرافية التحدي الأمني في إفريقيا، وبالتحديد في الساحل جنوب الصحراء، أي في المنطقة التي تسعى فيها روسيا لتوسيع نفوذها بدعم جزائري.

الحاصل، أن بإمكان روسيا أن تجد في حاجة السلطة في مالي ذريعة لتوسيع نفوذها، وبإمكانها أن تضمن نفوذاً أمنياً وعسكرياً بها، لكن، استمرار هذا الدور يتوقف على أدوار عدة، لم تتوفق فرنسا ومختلف الفاعلين الأجانب والإفريقيين فضلاً عن بعض الفاعلين الإقليميين في تحقيقها.

روسيا ليست معنية مطلقاً بفكرة تسليم السلطة إلى المدنيين، لكن شريكتها الاستراتيجية (الجزائر) تدرك أن التحديات التي تواجه النفوذ الروسي في المنطقة، تتطلب الجواب عن هذا السؤال، وتتطلب معه أجوبة أخرى تخصّ، تحقيق حالة مستدامة للاستقرار السياسي، ومواجهة التحديات الأمنية (الإرهاب)، وتخصّ تلبية حاجيات المنطقة من الغذاء والطاقة، بعد أن أضحت الحرب الروسية على أوكرانيا تهدد مناطق عديدة في إفريقيا بالمجاعة، وتخص أيضاً تعبئة المحيط الإقليمي للتنسيق مع استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب في المنطقة.

ثمة شك في إمكانية أن تنجح روسيا في هذا المسار متعدد الأبعاد، لكن، ربما تفكر روسيا في علاقات مصلحية محدودة؛ فك عزلة سلطة الانقلاب في مالي، مقابل فك عزلة روسيا في إفريقيا، ودعم أمني وعسكري لسلطات مالي، مقابل تمكين روسيا من منفذ لمنتوجاتها النفطية والغذائية في إفريقيا، حتى تظهر بصورة الفاعل الأجنبي الذي يقوم بدوره في تلبية الأمن الغذائي في العالم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
تحميل المزيد