"أين أنت يا مكتب عنبر، أين أنت يا عهود الصبا، رحمة الله على أيامك، على تلك "المربعات" و"القاعات" و"الفرنكات" و"المصبات" على ذلك الفن الشامي الأصيل، على مكتب عنبر الذي كان جنة من جنات الشام".
"وما كلفي من تلك المنازل بأرضها وجدرانها ولا بسقوفها وأركانها ولا بصحنها وإيوانها ولا بوردها وريحانها، ولكن على من غَبَرَ من سكانها".
هذا ما قاله القاضي السوري الأديب علي الطنطاوي، في معرض حديثه عن مكتب عنبر.
وحلْقة جديدة من صفحات مشرقة، ومن دمشق مرة جديدة، وهذه المرة من أزهرها وجامعتها، من قلب دمشق القديمة التي أنارت الدنيا وحكمت العالم، وحديث عن مكتب عنبر.
تسحرك دمشق بكل دقائقها وتفاصيلها، حاراتها وبيوتها، معالمها وتاريخها، ومكتب عنبر واحد من شواهد تاريخ دمشق المؤثل، مازال قائماً يروي قصة التاريخ ويقف شاهداً على الدور الحضاري والتاريخي الذي تقدمه دمشق، أقدم عاصمة في هذه الدنيا.
ضم مكتب عنبر خيرة المتعلمين، وكان منبر نور من أواخر القرن الثامن عشر وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، وما زالت له مكانته في قلوب عشاق الأصالة والعراقة والعلم والمعرفة.
كان المكتب مدرسة التجهيز، وداراً للمعلمين، وموئلاً للوطنية، ومصدر الحركات الشعبية، ومنه انطلقت الثورة السورية الكبرى عام 1925.
وفي عام 1935 تم تأهيل مجموعة من المعلمين المؤقتين، وإحداث صف سمي صف "التعليم العالي"، عُين له الدكتور "خالد شاتيلا" مديراً، وتم إنجاز مبنى مدرسة التجهيز "ثانوية جودت الهاشمي- اليوم"، فنقل إليه طلاب "مكتب عنبر"، الذي تحول بعد ذلك إلى مقر لقصر الثقافة العربية.
أثره في النهضة
مكتب عنبر معلم أثري يقع في حي المنكنة، في قلب دمشق القديمة، شرق المسجد الأموي، ويعتبر المنزل الأكبر تقريباً بالمقارنة بمنازل المدينة القديمة، بُني وصُمم في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، على يد يوسف أفندي عنبر.
وهو بناء متميز ومتقن، يعد نموذجاً للبيت الدمشقي، يحوي 40 غرفة موزعة على طابقين، ويعد من أجمل البيوت الدمشقية القديمة، وصرحاً حضارياً هاماً، ومركزاً تعليمياً رائداً، كان له أثر كبير في النهضة العلمية والثقافية، وقد تخرج فيه أبرز وأهم مَن تقلدوا المناصب في دمشق وبيروت.
بدأت مؤسسات الدولة في سوريا بالعودة للعربية لتكون اللغة الرسمية للبلاد في عهد الملك فيصل الأول عام 1919م، بعد خروج البلاد من عباءة الدولة العثمانية.
كان مكتب عنبر من أول المؤسسات المعربة، ودرَّس فيه نخبة من المربين العرب، منهم: الشيخ عبد القادر المبارك، جودت الهاشمي، محمد البزم، كامل نصري، عبد الرحمن سلام، محمد الداودي، محمد علي الجزائري، رشيد بقدونس، شكري الشربجي، أبو الخير القواص، سليم الجندي، مسلم عناية، جميل صليبا، جودت الكيال، يحيى الشماع، عاصم البخاري.
وكان لهؤلاء الفضل في محو الآثار التركية، التي حاول "الاتحاد والترقي" فرضها على البلاد العربية، وعودة العربية، وبعث التراث العربي، وسمي المكتب آنذاك "مدرسة التجهيز" ودار المعلمين.
كان طلاب المكتب يدرسون فيه علوم القرآن الكريم، العلوم الدينية، الفقه، اللغة العربية، ترجمة اللغة التركية، اللغة الفارسية، علم الثروة "الاقتصاد"، علم الجغرافيا والفلك، الحساب والجبر، الزراعة، الكيمياء والفيزياء والميكانيكا، علم طبقات الأرض، النباتات الحيوانات، أصول مسك الفاتر، وحسن الخط والرسم.
خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا كان الضابط المتقاعد شريف رمو، ومصطفى تمر، وجودة الهاشمي وعبد الحميد الحراكي، وشكري الشربجي، مديرين على المكتب بعد الحرب العالمية الأولى.
فيما بعد هُجر ونُسيَ وأُهمل المكتب الذي كان منارة علم وعمل ودار علماء وأدباء، ثم أصبح عام 1988 مقراً لمديرية دمشق القديمة، وفي عام 2012 افتتحت محافظة دمشق مركزاً لخدمة المواطن في مكتب عنبر.
مُحزِنٌ أن ينتهي حال مَعلمٍ أثري تاريخي علمي إلى هذا الحال المؤسف المخزي، وهو يضاهي متحف اللوفر في مكانته وقيمته، بل هو أعلى منه شأناً وأعز، ففيه تخرّج أعلام، علماء وأطباء ومفكرون يصعب عدّهم.
ونذكر فيما يأتي أسماء بعض منهم: "محمد الداوودي، عبد القادر المبارك، سليم الجندي، محمد البزم، جودة الهاشمي، محمد علي الجزائري، مصطفى وهبي التل، جميل صليبا، جودة الكيال، يحيى الشماع، علي الطنطاوي، ظافر القاسمي، كاظم الداغستاني، عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، أنور العطار، شكري القوتلي، حسن سبح، وجيه السمان، رياض العابد، محمد عربي الأسود، أمجد الطرابلسي، بدوي الجبل، زكي المحاسني، شكري فيصل، سعيد الغزي، نزيه الحكيم، محمد بطاح المحيسن".
قالوا عن مكتب عنبر
يقول المؤرخ الدكتور قتيبة الشهابي: عندما وقعت معركة "ميسلون" كان طلاب مكتب "عنبر" في عطلتهم الصيفية، وعندما انصرفت العطلة واستؤنفت الدراسة كانت فاجعة "ميسلون" وانهيار الدولة الفتية واحتلال البلاد من المستعمر الفرنسي، ونكوص الحلفاء عن وعودهم باستقلال البلاد العربية التي قطعوها لشريف مكة.
فلم يكن من حديث بين الطلاب إلا الفاجعة وآثارها وسبيل الخلاص منها، ولم يبدأ ذلك همساً كما كان متوقعاً، وإنما بدأ بأصوات مجلجلة عالية بين الطلاب أنفسهم، وبين الطلاب وبعض أساتذتهم، لا بل دفعت الحماسة بعض الأساتذة إلى أكثر من الحديث.
وقد تهيّب الفرنسيون "مكتب عنبر" ولم يُدخلوا إليه أستاذاً فرنسياً إلا عام 1924، وتلك ظاهرة تستحق التسجيل، لأن "فرنسا" قد جاءت بمستشاريها إلى دوائر الدولة ووزاراتها منذ اليوم الأول للاحتلال.
وكتب الأستاذ ظافر القاسمي في مؤلفه القيّم "مكتب عنبر": "عام 1925 مرّ "بلفور" بدمشق، يوم كان وزيراً لخارجية "بريطانيا"، كنت يومئذ في مدرسة التطبيقات الملحقة بمكتب عنبر، وقد باكرت المدرسة منذ الصباح، فوجدت بعض الرفاق قد سبقني إليها، وتجمعوا يحدث كبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم عن "بلفور" ووعده.
وما زلت أذكر أن طلاب مكتب "عنبر" تظاهروا، وانضم إليهم الناس سريعاً وكأنهم كانوا يترقبونهم، وانقسمت المظاهرة إلى قسمين، قصد أحدهما "الجامع الأموي"، وأُكره سدنته على إغلاق أبوابه جميعاً، لأنه قد شاع أن "بلفور" سيزور الجامع، فأراد الطلاب من ذلك الحيلولة دون أن يدنس هذا المكان المقدس بزيارته، وألغيت الزيارة فعلاً.
وانطلقت مظاهرة ثانية في الشوارع والأسواق، وكانت نداءات الطلاب وهتافاتهم تشق عنان السماء، تُردد "فلسطين" عربية، فليسقط وعد "بلفور"، وكان العامة يرددون هذه الهتافات على النحو الذي استطاعوا ترديده.
إن هؤلاء العامة وثقوا بأبنائهم طلاب مكتب "عنبر"، لأنهم لا يتظاهرون إلا لأمر وطني يعود على البلد كله بالخير، ولأنهم لا يحتجون إلا على ظلم نازل بالناس فلا جناح عليهم أن يرددوا ما يبدو لهم صواباً أو خطأً، ويكفي أنهم قد أغلقوا متاجرهم ودكاكينهم وخرجوا من بيوتهم ليشاركوا في هذا التظاهر الوطني، ذلك فضلٌ لمكتب "عنبر" على الحركات الوطنية في البلاد.
وفي تقديمه لكتاب القاسمي يقول علي الطنطاوي: لقد كان مكتب عنبر جنتي التي خرجت منها، ثم لم أعد إليها، فأرجعتني إليها يا أخي ظافر بكتابك، أطير من فوق أسوارها العالية وأبوابها الموصدة، بجناحين من ذكرى وخيال، حتى أدخلها مرة ثانية، فأعيش فيها في حلم ممتع فانٍ.
ومما قاله فخري البارودي في مذكراته عن مكتب عنبر: كان مكتب عنبر المدرسة الإعدادية الوحيدة في دمشق، يتراوح عدد طلابها ما بين الخمسمئة والستمئة، الطلاب النهاريون يتعلمون مجاناً، بينما الليليون أو الداخليون يدفعون أجرة الطعام والنوم".
ويقول بعض الدمشقيين: لقد كان مكتب عنبر أول من علّم الناس من هو "بلفور" ووعده، وأول من نبّه الناس إلى مأساة فلسطين.
ومجدداً نعود معاً إلى أديب الشام وقاضيها، علي الطنطاوي، وبمقتطف من ذكرياته نختم الحديث عن مكتب عنبر، الذي سكن الفؤاد مذ رأيته أول مرة: "أين أنتِ يا عهود الصبا، ومرتع الأحلام، تعالي انظري ماذا صنعت الأيام بتلك الأحلام.
لقد انتزعت قلبي من صدري، فعادت به إلى بيوت دمشق، إلى ذلك الفن الشامي الأصيل، الذي قفز من فوق البحر، فوصل الشاطئ الغربي في إسبانيا، بالشاطئ الشرقي في الشام، وحمل عبقرية العمران إلى بلاد المغرب والإسبان، فامتلأ بسحرها كل مكان، وبقيت فيه إلى الآن".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.