الأمر الطبيعي بعد الانتخابات النيابية هو أن يسلك البرلمان اللبناني الجديد مساراً طبيعياً وهادئاً إلى ولايته الجديدة، لحل المعضلات الاقتصادية والسياسية بالبلاد.
لكن شاءت المناكفات السياسية إرباك هذا المسار وجعله متعرّجاً، بمسارعتها إلى فتح معارك الأحجام السياسية والكتل التصويتية، ومعركة التباهي بمن كتلته هي الأكبر في المجلس، وسارعت إلى محاولة زرع "المعبر الإلزامي" إلى الولاية الجديدة، المتمثل باستحقاق انتخاب رئيس لمجلس النواب، بالمعوقات وبناء أسقف عالية من الشروط والمواصفات، التي ترى ضرورة أن تنطبق على رئيس المجلس القادم.
تلك المناكفات جرّت اصطفافات في مقابلها، ونتيجة ذلك، كما يبدو جلياً، ربط بدء ولاية المجلس الجديد بفتيل توتّر آيل للاشتعال، ولغة التخاطب المتبادلة على أكثر من جبهة سياسية أو نيابية، أطلقت في الأجواء الداخلية عاصفة من الغبار السياسي تُعزز المخاوف، التي أخذت تتصاعد منذ إعلان وزارة الداخلية نتائج الانتخابات، مع دخول لبنان في جو الانقسام والعداء القائم إلى عالم سياسي وبرلماني مجهول المعالم، لا بل ينذر بمرحلة هي الأصعب اقتصادياً ومالياً ومعيشياً.
وعملياً، فإنّ استحقاق انتخاب رئيس جديد للبرلمان سيتبلور بصورته النهائية في غضون ساعات قليلة، والمحسوم في نادي المرشحين لتولّي هذه المسؤولية مرشّح وحيد هو الرئيس نبيه برّي. والكلمة الفصل في هذا الاستحقاق ستكون بطبيعة الحال لحركة الاتصالات والمشاورات الجارية التي يجريها حزب الله مع حلفائه، لتأمين كتلة تصويتية كبيرة لبري، التي ستحسم وجهة الأصوات، وليس للأصوات الاعتراضية وحدها، التي استبقت هذا الاستحقاق بإعلان عدم تصويتها للرئيس بري، أي القوى التغييرية وحزبي القوات والكتائب ومجموعة من المستقلين.
لبنان يعيش مجموعة من الأزمات الاقتصادية والسياسية، على وقع واقع إقليمي قابل للانفجار في أي لحظة، سيؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار داخلي غير متخيل، في ظل حرب الاغتيالات والاختراقات من طهران إلى مأرب، وما يجري في الشمال السوري ليس بعيداً عن فوهة البركان المنتظر.
لذا كان من الأسلم أن ينتقل لبنان بعد استحقاق انتخابات مجلس نيابي جديد إلى نقاش فعلي ضمن السياقات السياسية والتسويات، على طريقة التقاسم والمحاصصة، إلى البحث عن خطة مركزية جدية للإصلاح والتعافي، وهذا ما جرى عكسه، وترجم بصراع مفتوح بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الطاقة وليد فياض، الذي سحب ملف الحلول الكهربائية والعروض الدولية المقدمة من على طاولة الجلسة الأخيرة للحكومة، ما انعكس توتراً سياسياً أراد من خلاله التيار الوطني الحر ابتزاز كل اللبنانيين بحقهم الطبيعي بالحصول على كهرباء.
لكن ما إن انتهت الانتخابات وحققت قوى الاعتراض خروقات بالجملة في المجلس النيابي، حتى بدأت القوى السياسية التقليدية بالعمل على إغراق تلك القوى في معادلات سياسية مكرسة منذ عقود، تتعلق بالمحاصصة والتسويات حول كيفية انتخاب رئيس للبرلمان، ومن سيكون، وفتح بازار الاتفاق على منصب نائب رئيس المجلس وهيئة المكتب. لينتقل النقاش بعدها أيضاً إلى البحث عن آلية تسمية شخصية لرئاسة الحكومة، وكيفية تشكيلها وطرق تسمية الوزراء فيها، وهذا ما يستمر إلى أن يحين موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، الذي قد يشهد فراغاً مفتوحاً وكبيراً في البلاد.
وهذا النقاش المحتدم أسكت احتدامه ما قاله جميل السيد من قصر بعبدا، عبر تفجيره قنبلة سياسية من العيار الثقيل، بقوله إن حكومة تصريف الأعمال القادمة لا يمكنها أن ترث صلاحيات رئيس الجمهورية في حال الفراغ الرئاسي.
يمكن فهم رسالة جميل من ناحيتين، إما فتح المقايضة أو التمهيد لتمديد ولاية رئيس الجمهورية إذا لم تتشكل حكومة مع نهاية العهد، وجرى استباق لكلام السيد بمواقف شبيهة لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، أشار فيها إلى وجود نية لعدم تشكيل حكومة وتجاوز الدستور، باعتبار الحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال كاملة الصلاحيات، منبّهاً إلى أن ذلك من شأنه أن يُسقط اتفاق الطائف، وهناك أسئلة تُطرح حول من سيكون المستفيد من عدم تشكيل حكومة جديدة، لذا فمن المؤكد أن ثمة قطعة مخفية في مكان ما تثير التساؤلات حول ما يجري طبخه خلف الكواليس، ويتعلق بالحكومة ورئاسة الجمهورية المقبلة.
بالتوازي وقبيل الوصول لأزمة رئاسة حكومة وجمهورية، يجري في الكواليس إنهاء أزمة اختيار رئيس المجلس النيابي، وهناك مساعٍ لإيجاد تسوية مناسبة، يقودها حزب الله مع التيار العوني وبعض المقربين منه، والرئيس بري يريد ضمان الدعوة إلى جلسة، عبر الوصول إلى الاتفاق. وهناك سيناريو يجري التداول به يفضي إلى أن يترك باسيل الحرية لنوابه للتصويت لبري، فيحصل الأخير على الأصوات اللازمة لتحقيق مبدأ الميثاقية الوطنية، أما في حال بقي باسيل على موقفه فيعني ذلك المزيد من فتح الأزمات على مصراعيها، مع ما يُحكى عن رغبة باسيل جلب برّي إلى "معادلة 2016″، أي تعطيل انتخابات رئاسة المجلس إلى حين ضمان فوزه بأكثرية واضحة المعالم، كعملية رد على ما جرى من تنازعات خلال العهد العوني، وهذا يعني في المحصلة الذهاب لنفق من التوترات السياسية، والتي قد تنعكس ميدانياً وشعبياً بين الجماهير السياسية، وستكون مرتبطة بمسار تشكيل الحكومة، ومن ثم انتخاب رئيس للجمهورية.
بالمقابل، لا يُخفي باسيل استعداده لعقد صفقة شاملة تتيح له العبور لمرحلة المسيحي الأول، عبر مقايضة اللامركزية الإدارية الموسَّعة، وتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، وعزل حاكم مصرف لبنان المركزي، وتعيين مقرب منه لهذا المنصب، مقابل انتخاب بري والموافقة على الصيغ المطروحة من قِبل الثنائي الشيعي للمرحلة المقبلة، ولكن المقايضة الحقيقية التي يرمي إليها باسيل هي: رئاسة الجمهورية، ولذلك هو ينادي بأنّ كتلته ستتألف من 21 نائباً، بانضمام حزب الطاشناق الأرمني للائتلاف البرلماني، ما يعني صعود كتلته لـ23 نائباً.
ومن أجل انتخابه رئيساً فإن باسيل حاضر لمساومة بري، بعد انعدام حظوظ سليمان فرنجية وخسارة تياره في الانتخابات، وتقلص كتلته من 4 نواب إلى نائب يتيم، ولاستكمال الصورة طرح تعديل الدستور لتكون أمام رئيس الحكومة المكلَّف مهلة شهر فقط من أجل تشكيلها. وبهذا الطرح هو يريد استعجال إنجاز الصفقة، لأنّ ولاية الرئيس ميشال عون باتت على وشك الانتهاء. وفي أي حال، عون لن يتيح الفرصة لولادة أي حكومة، ما لم يضمن حصة صهره في الكعكة السياسية.
سُنياً لا يزال الرئيس نجيب ميقاتي يخطط لعودته للسرايا الحكومية من بوابة البديل الجاهز، في ظل انسحاب الحريري واستحالة قبول حزب الله بفؤاد السنيورة ونواف سلام، لذا رفع ميقاتي السقف ضد رئيس الجمهورية ميشال عون وضد صهره باسيل، وفجّر فضيحة وزير الطاقة، على خلفية خطة الكهرباء، وقد يكون ميقاتي فتح النار على العهد بغية مقايضة عون وحزب الله، ليعود أكثر قوة على الطاولة، مقابل العودة إلى التناغم والانسجام في عدد من ملفات رئيسية ترتبط بكيفية توزيع الحصص الحكومية والحقائب، وحتى الثلث المعطّل، فيما يجري التداول باسم الوزيرة السابقة ريا الحسن لمنصب رئاسة الحكومة، مادام السعوديون يريدون تبديل ميقاتي ويرفعون الفيتو في وجهه، ما يعني التمهيد السني لعودة سعد الحريري، بعد نضوج تسوية رئاسية، وفي ظل تواصل العديد من القوى الإقليمية معه لإعادته لاعباً في الميدان اللبناني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.