الخاتون هي الزوجة الأثيرة والمحظية المقربة لسلاطين السلاجقة، والسلاجقة قوم أتراك من قبائل الغُزّ أو الأوغوز القادمين من تركستان، تلك المنطقة الشاسعة في وسط آسيا من حدود الصين في أقصى الشرق إلى شواطئ بحيرة قزوين الشرقية في أقصى الغرب، ومن هذه المنطقة وفي الربع الأخير من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي دخلت أفواج من هؤلاء إلى الإسلام حين عرفوه من السامانيين جيرانهم، ثم من الغزنويين الذين سيطروا على كامل على هذه المناطق في بدايات القرن الخامس الهجري.
وقد استطاع هؤلاء الذين ينتمون إلى جدّهم الأعلى سلجوق بن دقاق الغُزّي التركي أن يسحقوا الغزنويين بقيادة سلطانهم مسعود بن محمود بن سبكتُكين في معركة داندنقان الشهيرة سنة 431هـ/1039م، وتمكنوا من السيطرة على خراسان التي تضم اليوم مناطق شاسعة من أفغانستان وتركمانستان وشرق إيران، واتخذوا من هذه المنطقة الاستراتيجية منطلقاً لهم حتى استطاع قائدهم وسلطانهم الكبير طغرل بك أن يمد يد العون للخلافة العباسية التي كانت تحت نير الاحتلال البويهي واستطاع دخول بغداد سنة 447هـ/1055م ليبدأ عصر الإمبراطورية السلجوقية الذهبي في مساحة جغرافية هائلة من حدود الصين إلى سواحل البوسفور!
وعلى الرغم من إسلام هؤلاء الأتراك على المذهب السنّي الحنفي والشافعي، فقد ظلوا يحتفظون بالكثير من عادات القبيلة قبل الإسلام، وعلى رأسها احترامهم وتقديسهم لوضع المرأة الذي كان له دور رسمي أو قانوني، مقارنة بغيرها من نساء العباسيين والأمويين والبويهيين وغيرهم، فإذا كان لدينا العديد من الأمثلة على نفوذ النساء في تلك العصور، وهو نفوذ كان طاغياً من وراء ستار، فإن دور ونفوذ المرأة السلجوقية "الخاتون" كان قانونياً علنياً مستوحى من عادات وتقاليد القبيلة التركية منذ ما قبل الإسلام!
فكيف كان نفوذ "الخاتون" في عصر السلاجقة العظام؟ وما أبرز الأدوار التي لعبنها؟ وهل حقاً كان لديهن جيوشهن الخاصّة بهنّ؟ بل والإقطاعات التي كانت تُدر الثروات الكثيرة كل عام؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية ..
إقطاع ملكة نساء العالم!
مُنحت الأميرات السلجوقيات من بنات السلاطين والنساء السلاجقة اللاتي احتللن مكان الزوجة الأولى لقب "خاتون" وهي المرأة الشريفة رفيعة القدر والمنزلة، وقد أصبح مصطلح "خاتون" مرادفاً لكل زوجات السلاطين أو الأميرات السلجوقيات، كما تميزت زوجات السلاطين بلقب إضافي وهو "الملكة" و"ملكة نساء العالم"، فعلى سبيل المثال حين خاطب سفير الإمبراطور البيزنطي إسحاق كومنين (ت 1059م/451هـ) القادم لعقد هدنة مع السلطان طغرل بك سنة 449هـ لم يجد أمامه إلا أن يوسّط زوجة السلطان الخاتون الترنجان لعقد هذه الهدنة، وكان مما جاء في رسالته إليها: "عبد مولاتنا الملكة الجليلة والخاتون الكريمة".
وحين أرسل الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله (ت 487هـ/1094م) إلى تركان خاتون زوجة السلطان السلجوقي الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان خاطبها بقوله: "[الخاتون] الدار العالية الشاهنشاهية السلطانية الملكية الجلالية الخاتونية ملكة نساء العالم". ولا شك أن إطلاق هذه الألقاب وتوسّط الخلفاء والإمبراطورايات الكبرى لدى الخواتين أو الخاتون لم يكن من فراغ، بل لثقلهم السياسي والعسكري في بنية الدولة السلجوقية.
وللعب هذا الدور فقد كان للخواتين مؤسسات إدارية ومالية وعسكرية تابعة لهن وهذا مما لم نره في أية دولة من دول الإسلام الأخرى بهذه الصورة الدقيقة والمنظّمة والقانونية في بنية الإمبراطورية السلجوقية (447- 590هـ)، ولدعم أدوارها السياسية والعسكرية في الدولة، مُنحت الخواتين الإقطاعات الحربية، وهي الأراضي الزراعية الخصبة والشاسعة التي كُنّ يتسلمن ريعها ومكاسبها السنوية لتغطية نفقاتهن الشخصية والعسكرية، فحين انتصر السلطان طغرل بك على البويهيين والفاطميين في فتنة البساسيري الشهيرة، وأنقذ الخلافة العباسية من الانهيار والاحتلال الفاطمي، شرط على الخليفة العباسي القائم بأمر الله أن يزوجه ابنته فاطمة، وكانت تلك الزيجة الأولى من نوعها بين قائد تركي وأميرة عباسية عربية هاشمية.
وبهذا أصبحت الأميرة فاطمة "الخاتون"، ومن ثم اشترط الخليفة منح ابنته جميع إقطاعات الخاتون "المتوفاة" الترنجان زوجة طغرل بك السابقة، بما فيها مدينة واسط وبعقوبا وغيرها من مدن ونواحي العراق التي كانت تقع ضمن هذه الإقطاعات الزراعية الرابحة. ومن خلال هذه الإقطاعات الزراعية والخراجية أصبحت لدى الخواتين الثروات الهائلة التي كُنّ يستخدمنها لتهدئة وقيادة ليست جيوشهم الخاصة فقط، بل وفي بعض الأحيان جيوش السلطنة كلها التي كانت تقدر أعدادها بمئات الآلاف من العساكر، وكانت تُركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه من أشهر من "بذلت الأموال الطائلة" للجنود السلاجقة كما يقول مؤرخ السلاجقة الراوندي.
ديوان وقوات خاصة!
ولأجل إدارة هذه الإقطاعات والثروات المالية الهائلة كانت للخاتون إدارة "ديوان" خاص بها، سُمي "الديوان الخاتوني"، وهو أول ديوان أو وزارة أو إدارة تتبع لزوجات السلاطين في التاريخ الإسلامي، وكان يُلقّب في المخاطبات الرسمية المرسلة إليه من الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء وغيرهم بألقاب منها "الدار" و"الدار العالية" و"الدار العزيز"، بل إن الموظفين والعسكريين الذين عملوا فيه نُسبوا إليه حتى مماتهم، مثل فروخ الخاتوني، وأبو طاهر الخاتوني، والأمير أرقش الخاتوني، وصلاح الدين صالح الخاتوني، وكان رجالات الإدارة الخاتونية ممن لا يتغيرون بشكل سريع وذلك لأن هذه الإدارة على تماس مباشر مع حريم السلطان، وبالتالي لا يجوز إدخال إداريين جدد بشكل متواصل إلى هذه المؤسسة، وكان مدير هذا الديوان يُلقب بالوزارة وهو مسؤول مباشرة أمام الخاتون عن إدارته بكل جوانبها وتفاصيلها ورجالها.
والأغرب من هذا أن الخواتين/زوجات السلاطين الأثيرات ثبت أنه كان لديهنّ قوات عسكرية تابعة لهنّ، ولا تأتمر إلا بأمرهن، فكان للخاتون الترنجان زوجة السلطان الشهير طغرل بك أعداد لا تُحصى من الجنود، وقد حددت المصادر السلجوقية أن جيش تركان خاتون زوجة السلطان ملك شاه كان يبلغ عشرة آلاف مقاتل، وهو العدد نفسه الذي كان يتبع لكوهر خاتون عمة السلطان ملكشاه، وكان يصدر للخاتون منشور من السلطان بتبعية هذه الجيوش لها، وكانت رواتبهم يتم صرفها من إدارتها المالية المستقلة وإقطاعاتها التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً لعظم شأنها واتساع مساحتها، كما يقول المؤرخون!
النفوذ السياسي وصراع العروش
ولهذا السبب لعبت الخواتين أدواراً سياسية مفصلية في مساعدة أزواجهن وأبنائهن على تسيير شئون السلطنة أو لسحق الأعداء والمنافسين على العرش، وقد نجحن في ذلك نجاحاً باهراً، فقد عُرفت عن الترنجان خاتون زوجة السلطان طغرل بك الأولى أنها كانت امرأة سديدة عاقلة تفرض سُلطتها على طغرل بك شخصياً، وكان يفوض أمره إليها، وكان سامعاً مطيعاً لها، والأمور مردودة إلى عقلها وسندها، ولعبت دوراً عظيماً في الحفاظ على عرش طغرل بك وسلطانه أثناء نزاعه مع أخيه الأمير إبراهيم ينال السلجوقي الذي أراد الانقلاب على طغرل بك الذي كان في بغداد والاستيلاء على العاصمة السلجوقية آنذاك همذان.
هنالك وضع طغرل بك مع زوجته الترنجان خاتون مع القادة المؤيدين له خطة عسكرية تتلخص في تقسيم الجيش إلى قسمين: الأول بقيادة طغرل بك إلى همذان، والثاني بقيادة الترنجان خاتون وابنها أنوشروان والوزير السلجوقي الكندري لحماية بغداد، لكن حين جاءت أنباء وقوع هزيمة زوجها طغرل بك ومحاصرته في همذان من قبل أخيه المتمرد إبراهيم ينال، ووصول رسالة طغرل بك إلى زوجته يطالبها بنجدته، اتجهت الخاتون بقيادة جيشها الخاص على الفور إلى همذان في إيران، وكان وصولها إلى هنالك سبباً قوياً في انقلاب دفة الحرب لصالح زوجها طغرل بك، فقد اتفقت مع طغرل بك أنها ستعلن وصولها إلى همذان ليطمع في مهاجمتها إبراهيم ينال كونها تحمل معها خزائن السلطان، فتكون بمثابة الخديعة والطُّعم لإبراهيم ينال.
وهو ما تم بالفعل؛ إذ خرج إليها ينال وفي ذات اللحظة انطلق السلطان المحاصَر طغرل بك من همذان بجيوشه فأصبح ينال بين الترنجان خاتون وقواتها من الأمام وطغرل بك وقواته من الخلف، وانتهت الحرب بمقتله سنة 450هـ/1058م، وبهذه الجرأة تمكنت الترنجان من إنقاذ زوجها السلطان الشرعي طغرل بك من أسوأ مأزق تعرض له طوال حياته السياسية، وذلك بفضل خطتها العسكرية وقواتها المسلحة الخاصة، ثم أموال الدولة التي حافظت عليها وقدمتها إلى طغرل بك الذي كان يحتاجها للإنفاق على جيشه.
أما خاتون السفرية زوجة السلطان ألب أرسلان ابن أخ طغرل بك فكانت ملازمة له في جميع حملاته العسكرية ومعاركه، وكانت هي الأخرى ذات نفوذ كبير، فحين حاصر زوجها حلب، وهدد حاكمها الأمير محمود بن مرداس بالدمار والقتل، أعلن هذا الأخير خضوعه لسلطة السلاجقة مقابل الأمان على نفسه، وعلى أن يبقى أميراً على حلب تابعاً للسلطنة، لكن ألب أرسلان شرب في إحدى الليالي حتى سكر، كما يذكر المؤرخ الحلبي كمال الدين بن العديم في "بغية الطلب في تاريخ حلب"، وأمر وهو في سكره ذاك أن يُقتل الأمير المرداسي الذي كان يُلقبه بالأمير البدوي، ولم تفلح محاولات وزيره الشهير نظام الملك الطوسي ولا الأمراء العسكريين الآخرين من تهدئته، عند هذه اللحظة لم يجد الوزير نظام الملك الطوسي إلا اللجوء إلى السيدة الخاتون!
يقول المؤرخ ابن العديم الحلبي: "فمضى خواجا (نظام الملك الطوسي) الى جانب السُّرادق (المعسكر) الى خاتون فقال، بادرينا يا خاتون والا الساعة يتْلَفُ العسكر وينهبُ بعضُه بعضاً، فقامت تمشي إليه. فقال لها: خاتون ما جاء بك؟ فقالت: نَم أنتَ سكران. وتفرقوا، فلما أصبحَت قالت له: ما تحتشم تفتح عليك باب غدر! قال: لا إن شاء الله! قالت: البارحة أردتَ تُحضر الأمير البدوي وتضربَ رقبته، وأنتَ قد أعطيته أمانك، هذا وأنت تريد تفتح مصر وما دونها، وفعلت كذا وكذا بخواجا بزرك (نظام الملك)! قال: والله ما معي علم من هذا جميعه"، واعتذر لها وأنقذت الخاتون الموقف بقوة شخصيتها، وإطاعة السلطان لأوامرها في هذا الظرف العصيب الذي كاد ينقلب إلى حرب أهلية داخل الجيش السلجوقي!
وحين تُوفي السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان سنة 485هـ، تدخلت الخواتين في صراع على السلطة سعياً منهن لرفع أبنائهن إلى السلطنة، وكانت تركان خاتون أكثرهن قوة ومالاً وإقطاعاً وجيشاً، واستطاعت بعد سلسلة من الحروب والمعارك، بقوتها الإدارية والمالية والعسكرية أن تفرض ابنها محمود بن ملكشاه سلطاناً على عرش السلاجقة، رغم أنف الجميع وعلى رأسهم الوزير الشهير نظام الملك الطوسي الذي كان قد قُتل على يد الباطنية الحشاشين وهو معارض لهذه التولية!
تلك بعض من مشاهد قصة نفوذ الخواتين أو سيدات القصور في الإمبراطورية السلجوقية التي كانت تمتد من حدود الصين إلى البحر المتوسط، لم تكن تحكم من وراء ستار كما كانت بعض النساء في عصر العباسيين وغيرهم، بل كانت لها سلطة قانونية شرعية معترف بها، وجيش يأتمر بإشارتها وأوامرها، ومواقف مفصلية في مسيرة الدولة السلجوقية أعظم دول وإمبراطوريات الأتراك في العصور الوسيطة، تلك الدولة التي خرج المماليكُ والأيوبيون والعثمانيون من رحمهم وإدارتهم التي تشكلت في جزء مهم منها على يد الخواتين!!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.