حينما أقام الأمويون دولتهم، لم يكن أمامهم بُدٌّ من إعمال السيف في الرقاب؛ لتثبيت عرشٍ ظنّه كثيرون لا يتمتّع بما يكفي من شرعية لحُكم دولة الإسلام بأسرها. مآسٍ كواقعة الحَرة وكربلاء تورّط فيها أحفاد معاوية؛ لإطفاء جذوة الثورة المتوقّدة في نفوس الهاشميين الذين اعتبروا دوماً أنفسهم الأحق بوراثة مُلك النبي ودينه.
بمرور الزمن أثبت الأمويون أنهم لن يتخلّوا عن الإمارة أبداً حتى لو كان الثمن قتْل حفيد النبي ورفع رأسه على أسنّة الرماح أو حرق الكعبة أو إهراق دماء المعارضين أنهاراً، وهو ما خفَّ من حِدة رغبة الهاشميين الطامحين إلى العرش قليلاً، بعدما رأوا سيوف الأمويين لا ترحم أحداً.
أهم أفرع الهاشميين الذين تبنّوا سياسة المهادنة هم العباسيون المنحدرون من نسل العباس عم النبي، والذين تبنّى قادتهم خطة طويلة الأجل اقتضت الكمون لسنواتٍ طويلة في هدوء ودِعة، بينما يخوض الأمويون حروباً ضروساً مع معارضيهم تُنهك الطرفين معاً حتى تأتي اللحظة الحاسمة التي يلتقط فيها بنو العباس ثمرة الخلافة ناضجة بقليلٍ من التعب، وهو ما تحقّق في نهاية الأمر.
العباسيون الأوائل: زُهاد سُلطة
لم يُظهر الآباء المؤسِّسون لذلك الفرع من دوحة العائلة الهاشمية أي رغبة مُبكرة في تولّي زمام أمور المسلمين، ففور وفاة النبي لم يسعَ العباس، عم الرسول، إلى تقلُّد الأمور، وإنما طلب من علي بن أبي طالب، التقدُّم للخلافة قائلاً له: "يا ابن أخي، ابسط يدك أبايعك"، وهو الموقف ذاته الذي حافَظ عليه ابنه "حَبْر الأمة" عبد الله بن العباس.
وعلى الرغم مما عُرف عن الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب من توقيره الجمّ لعبد الله بن عباس، فإنه لم يستعمله قط؛ فلم يولّه ديواناً ولا قلّده أي إمارة وإنما أبقاه بجواره مستشاراً عند الحاجة. وهو ما فعله من قبله أبو بكر، وحافظ عليه من بعدُ عثمانُ بن عفان، كأنما استقرّ رأي الثلاثة الكبار على الاستفادة من عِلمه في الفتوى والقضاء بعيداً عن السياسة.
وفي أحد النقاشات بين عمر بن الخطاب وابن عباس كشف له الأول عن رأيه بأنّ بني الرسول أجمعين يجب ألا يتولوا أي سُلطة، لأنها -بحسب اعتقاده- ستضعهم في منزل المساءلة وهو مقام قد يهزُّ من صورتهم أمام الناس ومن ثم صورة الدين لاحقاً.
هذا الوضع تغيّر في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، فبعدما آزَره العباسيون في لحظات حُكمه الأولى فاعتبرهم أركاناً أساسية لدولته؛ فولّى عُبيد الله بن العباس على اليمن وأمره بقيادة الحج بالناس عامي 36هـ و37هـ، كما ولّى قثم بن العباس على مكة فظلَّ والياً عليها حتى دان الأمر لمعاوية وعيّن والياً جديداً بدلاً منه.
وبالمثل أيّد عبد الله بن عباس علياً على طول الخط، فعيّنه والياً على البصرة ثم شاركه موقعة الجمل ثم صفّين وقاتل أهل الشام قتالاً شديداً، وأكثر من انتقاد معاوية حتى كتب له الأخير يُطالبه بالكفِّ عنه وموادعة أهل الشام.
عقب وفاة علي، عاد ابن عباس إلى مكة حيث أعلن الكفَّ عن محاربة معاوية ومسالمته وبايعه خليفةً، كما تردّد عليه في الشام أكثر من مرة فأكرم وفادته، وكان ابن عباس ضمن الجيش الأموي الذي قام بأول محاولة لغزو القسطنطينية عام 49هـ بقيادة يزيد بن معاوية.
وعقب وفاة معاوية وتولّي يزيد، الأمر من بعده، بايعه ابن عباس خليفة وعارَض أي محاولة للخروج عليه ومن ضمنها محاولة الحسين بن علي، الذي نصحه بالبقاء في الحجاز؛ خوفاً من غدر أهل العراق.
ذلك الحياد استمرّ عليه ابن عباس بعد وفاة يزيد بن معاوية وإطلاق ابن الزبير دعوته للاستيلاء على الحُكم فرفض دعمه، فأمر ابن الزبير بنفيه إلى الطائف، وفي هذا المكان البعيد عن بؤر الصراع الرئيسية في مكة والمدينة، عاش معتزلاً كافة الفِتن حتى تُوفي في ظِل خلافة عبد الملك بن مروان سنة 68هـ، بعدما أنجب ولداً سماه عليّاً.
الطريق إلى الشام
تمتّع علي العباسي بكثير من المجد والبهاء حتى قيل بحقّه إنه "أجمل قرشي على وجه الأرض وأكثرهم صلاةً". توجّس الأمويون منه خِيفة فاستدعاه الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الشام وأمره بالبقاء إلى جواره.
ووفقاً لمرويات أخرى فإن قرار سفر علي بن عبد الله بن عباس إنما خرج من عبد الله نفسه، قائلاً له: "الحقْ بِابن عمّك عبد الملك، فإنه أقرب وأخلق للإمارة، ودعِ ابن الزبير، وإيّاك وإيّاه".
فضّل الخليفة عبد الملك ألا يُقيم علي العباسي في دمشق؛ خوفاً من أن يفتتن الشاميون به، فانتقى له مكاناً قريباً غير بعيدٍ عنه وفي المقابل يدنيه عن أعين الدمشقيون، وهو الحُميمة. رغب الأمويون من هذه الخطوة في إبقاء علي بن عباس وأهله تحت أعينهم.
ولم يغب عن الخليفة عبد الملك أن يطلب من علي العباسي تغيير كُنيته "أبا الحسن"؛ حتى لا يُشبّهه الناس بعلي بن أبي طالب (كُنية الإمام علي نفسها)، فغيّرها إلى "أبي محمد".
في الحُميمة عاش علي العباسي -وأهله- مُكرّماً في عهد عبد الملك، وبنَى العباسيون دوراً ومسجداً كبيراً كشفت بعض أعمال الحفريات الحديثة عن آثارٍ لها حفظها باطن الأرض حتى اليوم.
واعتاد الخليفة عبد الملك استدعاء علي العباسي لمسامرته من وقتٍ لآخر، وكان يهتمُّ بإهدائه الجواري والأموال، كما كان يقبل شفاعته دوماً في أي مَظلمة، وهو الحال الذي استمرَّ حتى مات الخليفة.
وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك كان علي العباسي يدخل عليه وبصحبته ابناه أبو العباس وأبو جعفر (سيُصبحان خليفتين عباسيين لاحقاً)، فيرحّب بهما هشام ويفسح لهما مكاناً على سريره ويقضي لهما حوائجهما مهما كانت.
شرارات الخلاف
تغيّر هذا الوضع في عهد الوليد بن عبد الملك، الذي بلغه أن عليّاً بدأ يدعو لنفسه بالخلافة فاستدعاه إلى قصره وأمر بجلده مرتين.
يقول الدكتور حسين عطوان في كتابه "الدعوة العباسية: تاريخ وتطور"، إن هذا التنكيل بكبير البيت العباسي أرعب بقية أبناء الإمام علي وأحفاده، فاستكانوا واشتغلوا بالجهاد وقتال الروم، وأقاموا في ثغور الشام ليصرفوا الوليد عن اتهامهم ويحولوا بينه وبين العنف.
هذه السكينة المصطنعة أتت أُكُلها ونجحت في خداع الخليفة المتحفّز الوليد، وعندما نُصح بالفتك ببقية العباسيين باعتبارهم أدهى خصومه رفض، لأنهم "قومٌ صامتون مسالمون، لم يُشغّبوا عليه ولم يسعوا للإطاحة به"، معتقداً أنه أمِن شرّهم بما فعله بقائدهم علي العباسي.
محاولات تحسين العلاقات
يقول وسيم رفعت العاني في كتابه "العباسيون من الدعوة إلى الدولة"، إن العلاقة بين الأمويين والعلويين تحسّنت نسبيّاً في نهاية العهد الأموي؛ ففي ظِل حُكم خلفاء مثل سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك، ازداد الوِصال بينهم وبين قادة العلويين.
اعتذر الخليفة سليمان عبد الملك لعلي العباسي عما تعرّض له من تعذيب في عهد الوليد، وأعاده إلى مكانته وأكرمه، كما أمر سليمان المنابر بالكفِّ عن سبِّ الخليفة علي بن أبي طالب، ثم قرّب إلى مجلسه العلوي عبد الله بن الحسن، كما اعتاد إكرام وفادة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي الحنفية.
أما عُمر بن عبد العزيز فلقد أغدق العطاء ليس على العلويين فحسب وإنما على بني هاشم أجمعين؛ وهو ما دفعهم إلى توجيه كتاب شُكر للخليفة، بسبب أفعاله البيضاء بحقِّهم.
إلا أن هذا التحسُّن لم يمنع من اندلاع بعض ثورات علوية محدودة لم يُكتب لها النجاح، مثل حركة زيد بن علي ضد الخليفة هشام بن عبد الملك، وحركة عبد الله بن معاوية بن عبد الملك بن جعفر بن أبي طالب ضد الخليفة الأموي إبراهيم بن الوليد.
وكان من اللافت أن العباسيين تمسّكوا بادعاء الاستضعاف خلال تلك الثورات ورفضوا دعم العلويين فيها أمام الأمويين؛ أملاً في إضعاف كلا الطرفين معاً، وهو ما قاله الإمام العباسي محمد بن علي لأحد عمّاله: "حذّر شيعتنا التحرّك في شيءٍ مما تحرّك فيه بنو عمّنا من آل أبي طالب، فإن خارجهم مقتول وقائمهم مخذول، وليس لهم في الأمر نصيب".
سعى العباسيون لكسب أكبر وقت ممكن من الوقت حتى تتمكن ماكيناتهم الدعائية الهائلة من اكتساح عقول وقلوب الخرسانيين بعيداً عن الشام الموالي لبني أمية والعراق الذي لا يستقرّ على حال.
كما جرت سريعاً محاولات التبرير الفقهية لهذه المساعي المحمومة، ولما كان من المستحيل الاكتفاء فقط بقرابة العباسيين إلى النبي بسبب انتساب غيرهم من بني هاشم إليه، استُدعيت آراء فقهية تجعل الأمر في ذرية العبّاس حصراً، أكثر هذه التوجهات تطرفاً هو ما ابتدعته الفرقة الراوندية التي ادّعت أن النبي نصّ على تعيين العباس ثم أحفاده أئمة لأمته من بعده، وبالطبع فور قيام الدولة توسّعت هذه الآراء بشكل ميكانيكي فملأت آلاف الكتب التي تغنّت بفضائل العباسيين واعتبارهم ذرية استثنائية أتت لإنقاذ الأرض ومَن عليها من الظلم والجور.
الصدام الدموي
عقب وفاة محمد بن علي العباسي سنة 125هـ، أوصى بالإمامة لولده إبراهيم الذي استمرّ في تطوير أداء دعاته السريين؛ ليضمن انتشار صيت أعمالهم في كافة بقاع ما وراء النهر.
محاولة التودّد الأموية الأخيرة لبني العباس ناقشها الخليفة الأخير مروان بن محمد في بلاطه، بعدما عرض عليه مُستشاره عبد الحميد الكاتب أن يطلب الخليفة مصاهرة الإمام إبراهيم العباسي ويزوّجه إحدى بناته، وهو ما رفضه مروان، معتبراً أن ذلك سيكون اعترافاً منه للصديق قبل العدو بعجزه عن دفع خطر العباسيين، وقد يؤلّب أهل الشام على الأمويين.
وبالعكس، أمر مروان بن محمد عمّاله بالقبض على إبراهيم الإمام ثم سجنه في حران بصحبة جماعة من بني أمية، بعدما وقعت بين يديه رسالة وجّهها إبراهيم إلى أبي مسلم الخراساني بشأن بعض تعليمات قيادة رجال خراسان. لم يخرج الإمام إبراهيم من السجن حيّاً وإنما مات فيه سنة 131هـ.
لم تنقذ هذه المقتلة دولة الأمويين من الضياع، وإنما كانت بداية لظهور الرايات السود علناً بعد عقودٍ من الخفاء، رفعها العباسيون معربين عن حُزنهم على وفاة إمامهم إبراهيم، بينما هم كانوا يروّجون مدلولاتها السياسية الداعية إلى الإطاحة بالأمويين وتنصيب آل البيت بدلاً منهم.
تولّى أمر العباسيين من بعد إبراهيم أخوه أبو العباس الذي فرَّ بأهله من الشام إلى الكوفة، وهناك خرج إلى مسجدها الجامع، حيث بُويع بالخلافة في 13 ربيع الأول سنة 132هـ، معلناً نهاية الدولة الأموية، وهي النهاية التي تحقّقت فعلياً عقب انتصار العباسيين بمعركة الزاب في جمادى الآخرة من العام نفسه.
مصادر إضافية
العباسيون من الدعوة إلى الدولة، وسيم رفعت العاني، ص16
العهد السري للدعوة العباسية، أحمد عُلبي، ص18
الثورة العباسية، فاروق عُمر فوزي، ص48
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.