أول رئيس جزائري يزور تركيا منذ 17 عاماً.. ما أهداف زيارة تبون لأردوغان وانعكاسات ذلك على المنطقة؟

عدد القراءات
1,176
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/23 الساعة 12:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/23 الساعة 12:06 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون في أنقرة / الأناضول

إن فهم زيارة الرئيس الجزائري لتركيا، في دلالاتها وأهدافها، فضلاً عن انعكاساتها المركّبة على منظومة التحالفات الإقليمية عموماً، وما قد تلقيه من ظلال على المشهد التونسي على وجه الخصوص؛ لن يستقيم أبداً بالاقتصار على تأويل نصوص التصريحات، أو الاستغراق في رصد الإجراءات البروتوكولية للزيارة، أو حتى بمجرد ربطها ببعض مما سبقها خلال الأشهر الأخيرة من محطات دبلوماسية مهمة في المنطقة، كما هو الحال في أغلب ما تداولته النخب الإعلامية والسياسية التونسية، المستغرقة بطبيعتها فيما يصطلح على تسميته في العلوم السياسية بـ"الطبقة الهشّة من السياسة"، أي لحن الخطابات وصور اللقاءات، والتي لا تفضي في معظم الأحيان، لأكثر من تحليلات رغائبية، يفسّر فيها كل طرف المستجدات بما يتناسب مع إمكانية توظيفها لصالحه ضمن الصراع والتجاذبات الداخلية.

إذ إن الفهم الدقيق والموضوعي لمثل هاته التحولات في حقل العلاقات الدولية، يستدعي بداية الإلمام الواسع بالمحدّدات الاستراتيجية لكل من البلدين، مع اطلاع جيّد على الميكانيزمات الداخلية لصناعة القرار في كل من النظامين، وهذا ما سنحاول التطرق إليه بشيء من السرعة في هذه الورقة الموزّعة على مقالين، من خلال بعض الملحوظات أو الإثارات التي نراها ضرورية لتجويد وعينا بمعاني الزيارة المذكورة في هذا الجزء الأول:

1ـ هذه الزيارة هي الأولى لرئيس جزائري لأنقرة منذ 17 سنة (15 سنة في عهد بوتفليقة، مع سنتين في عهد تبون)، وهي تقريباً الفترة التي عايشت فيها الدبلوماسية الجزائرية ما يشابه الموت السريري، منذ مرض رئيسها الراحل عبد العزيز بوتفليقة، رحمه الله، فضلاً عن أن العلاقات بين البلدين قد عرفت بروداً لاعتبارات كثيرة ومتعددة منذ تأسست بين الجمهوريتين، أي منذ تأسيس الجمهورية الجزائرية في 1962.

ولعل موافقة هذه الزيارة للذكرى الـ60 لتأسيس الدولة الوطنية في الجزائر، كما أشار لذلك تبون في أكثر من مرة خلال وجوده بإسطنبول، تحمل رمزية ما، أو أريد في الحد الأدنى ترويجها دبلوماسياً وإعلامياً، كمؤشر عن تأسيس جديد للعلاقات بين البلدين، أو عن انعطافة استراتيجية كبرى فيها، توازي في أهميتها لحظة التأسيس.

رغم استئناف الدبلوماسية الجزائرية لنشاطها تدريجياً، منذ تولي بوقادوم لوزارة الخارجية في مارس 2019 إثر انتخاب السيد عبد المجيد تبون رئيساً، الا أن الصحوة الفعلية للدبلوماسية الجزائرية واتخاذها لنسق وخطوات جدية نحو استعادة أدوارها التاريخية، يمكن إرجاعه إلى تاريخ 25 يوليو/ تموز 2021، وهو تاريخ التزكية الرسمية للحكومة الجديدة، ومن ضمنها وزير الخارجية رمطان العمامرة. وقد ارتكزت هذه الانطلاقة على جملة من العوامل، لعل أهمّها:

– التقدم المهم الذي أحرزته وزارة بوقادوم في إعادة ترتيب الأوراق، وتحريك الملفات، وتمهيد الطريق نحو استئناف الفاعليّة.

– تقدم البناء السياسي الجديد لجزائر ما بعد الحراك، بإنجاز انتخابات رئاسية ومن ثم تشريعية، والوقوف على أبواب إجراء أخرى محليّة حينها.

– التقدم في إحراز المصالحة الداخلية بين أجنحة النظام القديم (مجموعة رئاسة الأركان بقيادة القايد صالح، مجموعة رئاسة المخابرات وعلى رأسها الجنرال توفيق، مجموعة رئاسة الجمهورية بقيادة السعيد بوتفليقة) مع النظام الجديد.

– وكذلك الأحداث الطارئة في الخاصرة الشرقية تونس، التي دقت نواقيس الخطر لدى العقل المؤسساتي للدولة الجزائرية.

انطلقت هذه الصحوة الدبلوماسية تحت عنوان مفتاحي، يكتسي إدراكه أهميّة شديدة في فهم السياسات الخارجية الجزائرية منذ 2020، وهو: "الجزائر الجديدة".

إذ إن هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة، معبرة عن قراءة جديدة للأدوار الخارجية للجزائر، أو هي بالأحرى عصارة ما تحصّل لدى العقل المؤسساتي الجزائري من قناعات، بعد قراءة معمقة لعشرية الربيع العربي في المنطقة، وما صاحبها على المستوى الدولي والتكنولوجي من تحولات وتحديات كبرى. الجزائر الجديدة بكل اختصار تسعى لإعادة التموقع الاستراتيجي على الساحتين الدولية والإقليمية، وذاك ما يستدعي منها لزاماً إعادة صياغة كل علاقاتها الثنائية، وحتى تلك متعددة الأطراف، مع كل الشركاء والفاعلين دون اي استثناء.

وقد ورد هذا المعنى على لسان لافروف خلال زيارته الأخيرة للجزائر، بحديثه عن انطلاق مرحلة إعادة صياغة العلاقات بشكل غير مسبوق. كما أن المعنى نفسه يظهر جليّاً أكثر، بمتابعة ما عرفته العلاقات الجزائرية مع الإمارات من انعطافة حادة بعد الحراك مثلاً، أو من خلال السعي الحثيث لوضع علاقات التعاون مع إيطاليا على طريق الارتقاء نحو الشراكة الاستراتيجية، وبشكل مشابه ولكن بقدر أقل من النجاح مع إسبانيا، وفي المقابل التوترات البينية المتكرّرة مع باريس، أو المحاولات المتذبذبة لطي صفحة الجفاء التاريخي مع القاهرة… إلخ.

في هذا السياق العام، تنزّلت ضرورة إعادة النظر في طبيعة العلاقات مع الجمهورية التركية، وإعادة صياغتها. ولكنّ هذا المعطى العام، قد كان في الحالة التركية معزّزاً بآخر ذاتي/شخصي لا يقل أهمية؛ إذ إن القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع ورئيس الجمهورية الجزائرية الحالي، عبد المجيد تبون، وهو البيروقراطي المخضرم، الذي تقلّب خلال العقود الـ5 الأخيرة بين مهام وخطط مختلفة في الدولة، وأهمها تلك التي تولى فيها في أكثر من حكومة وزارة السكن والعمران، التي تسنّى له من خلالها مراكمة تجربة جد إيجابية في العمل المشترك مع الأتراك. إذ تمكّن من تطوير شراكات وازنة مع عمالقة القطاع التركي الخاص بالمقاولات من ناحية، ومع الأجهزة الخارجية للجمهورية التركية الناشطة في المجال نفسه وعلى رأسها "التيكا" من ناحية أخرى.

حيث تحوّل مجال البناء والبنى التحتية والمقاولات الكبرى تحت إشراف تبون، الى المجال الرئيس لاستثمارات تركيا في الجزائر ولنشاط شركاتها فيها (تفوق 1200 شركة)، حتى دفع هذا التطوّر المطّرد تركيا، لتنال مرتبة المستثمر الخارجي رقم واحد في الجزائر، بحجم استثمارات يفوق الـ5 مليارات دولار، والتي من المنتظر الدفع بها إلى 10 مليارات في أفق السنوات القادمة.

 وعلى أهميّة هذا المعطى الصلب في التعاون الاقتصادي (تطور الاستثمارات وما تبعه/صاحبه من ارتفاع للمبادلات التجارية)، والذي مثّل مدخلاً رئيساً لإعادة صياغة العلاقات الثنائية بين الجمهوريتين، إلا أن هذه السنوات الطويلة من العمل والإنجازات المشتركة، قد راكمت لدى عبد المجيد تبون، إضافة لذلك، شبكة من العلاقات الشخصية الوطيدة والمتفرّعة مع الجانب التركي. كما أنّها بلا شكّ قد تركت بصمتها واضحة في تشكّل قراءات الرئيس الجزائري الجديد، لآفاق الشراكات الخارجية الممكنة لبلاده، وخاصة منها تلك الفرص المعطّلة في المنطقة، وبالتحديد في اتجاه "نمور الأناضول".

ومن هنا يروج أن عبد المجيد تبون منذ توليه الرئاسة وحتى قبلها كموظف سامٍ ووزير أو كرئيس حكومة (2017) سابق، قد بدأ فعلاً في النجاح في إيجاد داعمين للتوجه الجديد نحو تركيا، صلب البيروقراطيتين المدنية وخاصة العسكرية في الجزائر، التي مثلت منذ الاستقلال العنصر الرئيس في هندسة الاستراتيجيات الكبرى للجزائر وخاصة الخارجية منها.

وإن الشائع عن التيار المتحمّس للتوجه نحو تركيا في الجيش الجزائري لا يقول أبداً بأغلبيّته أو كثرة داعميه، ولكن المناخ العام أو الخط الرئيس في الجيش الجزائري ما بعد القايد صالح، ينحو نحو الأهواء الأوراسية دون أي شك، وذلك واضح ومعلوم عن رجل النظام القوي في الجزائر، رئيس أركان الجيش الحالي، الفريق سعيد شنقريحة (علاقات وثيقة مع الكرملين، نفور شديد من فرنسا، مع موقف حاد من المغرب)، ما ساعد في إدماج التطوير المناط بالعلاقات الجزائرية التركية، ضمن الرؤية العامة للجزائر الجديدة.

ربما تعتبر هذه الزيارة/الفترة اللحظة الأهم فعلاً، في التاريخ البيني للجمهوريتين، وأن علاقة كل منهما بالآخر تعيش خلال هذه الأيام ذروة استئنافها أو ولادتها الجديدة، منذ انهيار علاقة الدايات بالباب العالي بشكل فعلي تقريباً بخسارة معركة نافارين سنة 1827، التي تعتبر لحظة إذلال تاريخي مشترك، بل ولحظة مفصلية في تاريخ بحيرة العالم القديم (البحر الأبيض المتوسط) بانتهاء عصر "البحيرة الإسلامية" أو "بحر الخلفاء"، وانهيار البحرية الإسلامية بشكل غير مسبوق، منذ صعودها الأول في عهد الأغالبة قبل قرون خلت.

ومن ثم انهارت العلاقات تماماً باحتلال فرنسا للعاصمة الجزائرية في 1830 وانهيار حكم الدايات فيها. وهنا بالضبط يقع في تقديري، موقع هدية أردوغان ومعناها، والمتمثلة في: "رسالة من المجاهد الكبير الأمير عبد القادر الجزائري (رحمه الله) للخليفة العثماني".

إذ إنه وبعد سقوط العاصمة، لم يتمكن الفرنسيون من احتلال كامل التراب الجزائري (القارة الجزائرية) مباشرة، إذ قامت ثورتان لمقاومة الغزو الفرنسي تحولتا إلى دولتين، أو أن إحداهما بالأحرى مثلت بشكل أو بآخر امتداداً لدولة الدايات، حيث قادها أحد رجالهم الأقوياء في الشرق (أحمد باي) فاتخذ من قسنطينة عاصمة له، وأما في الغرب فقد قامت ثورة الأمير عبد القادر، والذي أسس بدوره لدولة في الغرب الجزائري لاحقاً.

ومن الطبيعي أن نتوقّع، أن طبيعة التنافس الذي قام بين الدوليتين الجزائريتين الناشئتين حينها والذي وصل إلى حدود الصراع أحياناً كثيرة، قد جعلت من الباب العالي في إسطنبول يقف داعماً للعلاقات مع أحمد باي على حساب الأمير عبد قادر. أو أن هذه السردية الرائجة على الأقل في الأوساط الأكاديمية الجزائرية. ويبدو أن الهدية، قد أرادت بالضبط تحريك هذا الموضع، الذي يمكن اعتباره حساساً في الذاكرة المؤسساتية للجمهوريتين. إذ إن الجمهورية الجزائرية أو الدولة الوطنية في الجزائر ومن قبلها ثورة نوفمبر، ترى جذورها وأبوتها التاريخية في الأمير عبد القادر، لا في أحمد باي، ولا تخفى في تاريخ جهاد الأمير عبد القادر في الجزائر، مشاعر المرارة من خذلان الخلافة العثمانية، لمقاومته وجهاده.

يبدو أن هدية أردوغان لتبون، قد أرادت افتتاح الصفحة الجديدة بين الجمهوريتين، بإضاءة تاريخية، تواسي ذاك الجرح القديم في الذاكرة، وتظهر جوانب أخرى إيجابية قد تكون مسهواً عنها في العلاقة الفعلية التي كانت قائمة بين السلطنة والأمير عبد القادر. وهذا ما يؤشّر على نيّة الأتراك الجادة كذلك في جعل هذه الزيارة، محطة تأسيسية رئيسة للعلاقة بين الجمهوريتين؛ إذ إن المدرسة الدبلوماسية السائدة في تركيا العدالة والتنمية على الأقل وكتابات عرابها البروفيسور أوغلو، تدرج الذاكرة التاريخية كعنصر ثابت ومرتكز صلب، ضمن معادلات هندسة الفعل الخارجي للدول.

طبعاً لا يمكن استغراب، عمق ودقة الوثيقة القادمة من أرشيفات السلطنة، فيكفي فقط أن نتابع الأعداد المتزايدة (منذ سنوات) للأكاديميين الجزائريين المنخرطين في الحقل البحثي التركي (جامعات، معاهد دراسات، مراكز بحثية، منتديات…)، وهو حضور وانخراط لافت ومتميز كمّاً ونوعاً، حتى نتوقع كثافة وعمق الجهود المبذولة من الطرفين، لتصميم السردية المتينة ووضع الأسس النظرية اللازمة، لتحقيق الوثبة الاستراتيجية في العلاقات بين الجمهوريتين.

لا يخفي الأتراك منذ إعلانهم عن استراتيجية "تركيا الكبرى" (Büyük Türkiye)، سعيهم الحثيث لإعادة مد الجسور نحو العالمين الإسلامي والتركي، من خلال البحث عن شركاء موثوقين، أو ما يسمى في الجيوبوليتيك بـ"دول المركز" في كل إقليم أو منطقة جغرافية. ورغم النجاحات المحترمة التي حققتها هذه السياسة بنسب متفاوتة في مناطق مختلفة من العالم (آسيا الوسطى، شرق آسيا، الخليج، القرن الإفريقي)، إلا أن تقدمها في شمال إفريقيا ظل ربما الأكثر تأخراً أو تعثراً.
ولذلك يبدو أن العقل الاستراتيجي التركي، كان يتابع باهتمام شديد ومتأهب، صعود تبون إلى سدة الحكم في الجزائر مع كل ما لهم لديه من رصيد، فكانوا شديدي الحرص على اقتناص اللحظة الدبلوماسية التي قد تكون فعلاً تاريخية، ليكون رجب طيب أردوغان أول رؤساء العالم زيارة لتبون من أجل تهنئته إثر انتخابه رئيساً، بعكس ما جرت به التقاليد الدبلوماسية النافذة في المنطقة منذ عقود من الزمن.

لقد مثلت تلك الزيارة في 2020 فعلاً تحولاً مفاجئاً في المنطقة، أربك الأجواء والحلفاء، فإذا بالإمارات توفد إلى الجزائر، على عجلة ودون سابق برمجة، وزير خارجيتها بعد يوم واحد من زيارة أردوغان. وما زيارة هذه الأيام في الحقيقة، إلا الجزء الثاني من ذلك الفصل، والذي عرف طيلة السنتين الفارطتين إعدادات مكثفة، لعل أبرزها وآخرها زيارة تشاووش أوغلو في 25 أغسطس/آب الماضي للجزائر، والتي أعلن خلالها، عن اقتراب انتهاء التحضيرات اللازمة لزيارة الدولة المنتظرة، والتي من المقرر خلالها إطلاق مجلس الحوار الاستراتيجي لأول مرة بين الجمهوريتين. وهنا وجب التفطن إذاً الى أن الزيارة لم تكن قراراً آنياً مرتكزاً على تطورات وسياقات ظرفية بالأساس، بقدر ما هي محطة وازنة وبارزة في مسار تراكمي استراتيجي من البناء، وأما السياقات الأخيرة في المنطقة والعالم، فقد هيأت لها المناخات وسهلت تسريع إنجازها لا غير.  

10ـ وهنا يكمن معنى مهم، في خصوص تموقع الجزائر الجديدة ضمن خارطة الأحلاف الإقليمية؛ فمنذ الزيارة المذكورة لأردوغان وما تبعها من قلق في الخليج والشرق الأوسط (ومن المؤكد في باريس كذلك)، فقد تفاعلت الدولة الجزائرية مع هذا السياق، من خلال التأكيد على معنى أصيل في دبلوماسيتها، منذ انخراطها من مواقع متقدمة في تأسيس دول عدم الانحياز، وأكدته سياساتها الإقليمية خلال السنتين الماضيتين، تحت عنوان "المسافة الواحدة".

إذ أجابت الجزائر على القلق المذكور، بجعل أول زيارة خارجية للرئيس تبون تتجه نحو الرياض، لموازنة تموقعها ضمن الصراعات القائمة حينها. ولا يقتصر هذا التوجه العام على سياسات الجزائر في المنطقة، بل يتعداها بوضوح للمسرح الدولي، فحين استقبالها لسيرجي لافروف خلال الأيام الماضية مثلاً، ورغم العلاقات التاريخية والشراكات المعمقة التي تجمعها بالكرملين، فقد استقبلت الجزائر، بعد ساعات فقط من مغادرته لها، جنرالاً ألمانياً رفيع المستوى برتبة مدير لقيادات الأركان في الناتو. وعلى غرار ذلك فقد استقبل عبد المجيد تبون، بعد ساعات من عودته من تركيا، وزير الخارجية السعودي، الذي أكد في تصريح له على توافق تام في قراءات المشهد الإقليمي بين البلدين الشقيقين. زد على ذلك، أننا لو رصدنا الموقف الجزائري طيلة الربيع العربي، لما وجدنا إلا قليلاً مما يمكن حمله على عدم التوازن أو الانحياز، نحو أحد المحاور الثلاثة (إيران – تركيا – الإمارات-إسرائيل) على حساب المحورين الآخرين، إلى درجة تجعلها تنزلق إلى صراعاتهم، حتى عرف عنها ما اصطلح المتابعون على تسميته بسياسة "شدّ الحبال".

11ـ وبالتالي لا يجب علينا أن نفهم هذا التطور الأخير في العلاقات الجزائرية التركية، كاصطفاف لمحور على حساب آخر بمنظور مع أو ضد، بقدر أن نتفطن، إلى أن السياق العام لإعادة ترسيم شبكة العلاقات الإقليمية في المنطقة، وخاصة جوانبه الخاصة بتذويب الجليد بين تركيا والمحور المصري السعودي الإماراتي من ناحية، ومساعي تدوير زوايا الخلاف بين تركيا ونظام الأسد في سوريا من ناحية أخرى. لقد سهلت هذه السياقات مهمة التقدم في العلاقات مع تركيا أمام صانع القرار الجزائري، فقد خفضت من انعكاساته على منظومة أحلافه التقليدية في العالم العربي، فبعد استقبال أردوغان في كل من الرياض وأبوظبي خلال الأشهر الماضية؛ فإنه ليس لأي من هاته العواصم أن تحتج أو تستاء، طبعاً إذا ما استثنينا القاهرة، وفيها مربط الفرس.

هذا لا يعني انتهاج الجزائر للحياد السلبي كما نفهم في تونس الحياد، إنما هي حريصة على الفعل والتأثير في المشهد الإقليمي من موقع متزن، يلائم بين المصالح، حيث تتقاطع الرؤى ويرسم خرائط التحالف مع كل طرف على قدر رقعة الربح المشترك معه. والقراءات التركية للمشهد الليبي لا شك تتقاطع بدرجة عالية مع نظيرتها الجزائرية، وبقدر ودرجة أقل ربما في المسألة التونسية. ولا شك كذلك أن سياسات القاهرة متعارضة تماماً مع كل ذلك، ونحن بذلك لا ننكر أن هاته الزيارة قد تفهم في جانب ما، على أنها مناورة دبلوماسية في سياق التجاذبات الأخيرة بين قصري الاتحادية والمرادية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتعدى معنى الدلالة الفرعية الهشة أو الدافع الثانوي العابر للزيارة، كغيره من الظرفيات الطارئة الأخرى، أو السياقات الملائمة العديدة، من قبيل:

– السياق الانتخابي في تركيا، والذي يجعل أردوغان حريصاً على التسويق لكل ما يمكن أن يُفهم تقدماً في فتح آفاق اقتصادية جديدة.

– المناكفة الدبلوماسية في سياق التنافس التركي الفرنسي.

– المناورة الدبلوماسية في سياق تعثر خطوات التطبيع بين أنقرة والقاهرة.

– تقارب المواقف التركية الجزائرية حيال الحرب الأوكرانية، وامكانيات تكامل مساعي كل منهما في الوساطة.

بالإضافة إلى كل ذلك؛ فإن مفهوم "صانع الاستقرار" المتداول بكثرة في الحقل الأكاديمي الجزائري خلال السنوات الأخيرة، لا يعكس فهم الأنتليجانسيا الجزائرية للأدوار الخارجية المنوطة ببلدهم فحسب، إنما هو في الحقيقة استدعاء تجديدي للعقيدة التاريخية للدبلوماسية الجزائرية، والذي راكمته أدوارها الرائدة ضمن مدرسة "دبلوماسية الوساطة"، حيث لعبت أدواراً تاريخية في:

– توقيع اتفاقية الجزائر 1975، والتي انتهى بمقتضاها النزاع الحدودي بين العراق وإيران.

– تحرير ركاب طائرة "دي.سي9 "، التي خطفها الإرهابي اليساري كارلوس في السنة نفسها.

–  الوساطة لتحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران 1981.

–  اتفاقية السلام بالجزائر سنة 2000، لتسوية الحرب بين إثيوبيا وإريتريا.

 ومن هنا فإن الجزائر الجديدة قد جعلت الرهان الأهم أمام صحوتها الدبلوماسية، متمثلاً في النجاح في استضافة القمة العربية في دورة تاريخية تحت إشرافها، لتحتضن ما يشبه التوافق الكبير في المنطقة، أو إعلان مرحلة جديدة تطوي ما صاحب عشرية الربيع العربي من صراعات متأججة في المنطقة، على شاكلة قمّة الانتفاضة 1988 غير العادية في الجزائر، التي مهّدت الطريق إلى إنهاء أزمة العلاقات العربية المصرية، بعودة هذه الأخيرة إلى الجامعة العربية بعد 10 سنوات كاملة من الغياب والقطيعة العربية.

كذلك فإن صانع القرار الجزائري يعي جيداً أن اتجاه المنطقة نحو فصل من الاستقرار، يكاد يكون نقطة توافق استراتيجي لجملة الفاعلين الدوليين، وخاصة ضمن القوى الغربية ذات النفوذ الأهم في المنطقة العربية، بما يجعل الجزائر أمام فرصة تاريخية فريدة، لإدماج استراتيجيتها الذاتية ضمن الاستراتيجية الدولية القائمة، ومن أجل التأثير في السياقات الإقليمية السائرة، بما يجعلها تنزل بثقلها وتعبئ كل أدواتها، لجعل القمة العربية التي ستحتضن محطة مفصلية، في تشكل المنظومة الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط الكبير، تحت عنوان "حلول إقليمية من أجل المشكلات الإقليمية".

ولذلك فلا يُنتظر أن تتزحزح الجزائر عن مسارها الوسط بين المحاور الإقليمية (السائلة بطبيعتها)، ولا هي تملك النية على تأبيد تجاذباتها مع القاهرة أو حتى التصعيد فيها فوق المستوى المعقول، فلا يستقيم بطبيعة الأشياء مشروع توافق أو استقرار في المنطقة العربية يتجاهل مصر أو يستثنيها. بل إن من طرائف الأمور أن يركز المدافعون عن الديموقراطية، وهم من يهمني أمرهم لأني منهم، على اختزال زيارة تبون لتركيا تقريباً في أنها صفعة لمصر، في حين أن انطلاقة مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة والقاهرة، قد احتضنتها الجزائر على أراضيها، عبر اجتماع أمني عالي المستوى لملحقين عسكريين مصري وتركي في 2018.

فما هي فضاءات وآفاق التعاون الجيوستراتيجي بين البلدين، وما هي انسحاباته الأهم على المشهد التونسي؟

نكمل الإجابة عن هذه التساؤلات في المقال القادم..

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أيمن عبيد
كاتب وناشط سياسي تونسي
كاتب وناشط سياسي تونسي
تحميل المزيد