متلازمة “باربوسا البرازيلي”.. الوجه البشع للعبة الجميلة

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/19 الساعة 08:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/19 الساعة 08:31 بتوقيت غرينتش
ماركوس راشفورد (رويترز)

ما بين 16 يوليو/تموز 1950 و7 أبريل/نيسان سنة 2000 تمتد 50 سنة كاملة من الألم والمعاناة، كانت بداية القصة الحزينة في يوم مشمس من أيام شهر يوليو في ريو دي جانيرو البرازيلية؛ حيث كانت الأهازيج تهز أركان ملعب ماراكانا الشهير، والمناسبة هي نهائي النسخة الرابعة من كأس العالم سنة 1950، كانت الدقيقة 79 من المباراة، واللاعب الأوروجوياني، إدواردو غيشيا، يتوغل من الجهة اليمنى للملعب، وبدلاً من أن يمرر الكرة عرضية نحو منطقة الجزاء كما كان يتوقع صديقنا وبطل هذه القصة الحارس البرازيلي، مواكير باربوسا، خادع الجميع وسدد الكرة نحو الزاوية اليسرى لمرمى السيليساو، ورغم محاولة باربوسا للتصدي مرت الكرة ودخلت الشباك، ودخل معها باربوسا التاريخ بصفته أكثر اللاعبين نحساً وتعرضاً للظلم، بعد تحميله مسؤولية الخسارة كاملة، خصوصاً أنه كان اللاعب الأسود الوحيد في الفريق، فيومها خسرت البرازيل كأس العالم، وخسر باربوسا سمعته وحياته، وحتى إن عادت البرازيل لتفوز بالكأس العالمية في خمس مناسبات إلى غاية مونديال سنة 2002، لم ينجح باربوسا في استعادة حياته ولا رد الاعتبار لنفسه، وأصبح في نظر البرازيليين مسبب الأحزان ومبكي بلد بأكمله والنحس الأزلي، وتوفي سنة 2000 وهو منبوذ، ليس لأنه كان الحارس الذي أخطأ فقط، بل لأنه كان أيضاً أسود، في بلد عُرف حينها بعنصريته وتمييزه المقيت بين البيض والملونين.

لكن الأمر لم يتوقف عند باربوسا البائس، بل استمرت كرة القدم اللعبة الجميلة في إبداء وجهها العنصري القبيح، فمرة أخرى وفي شهر يوليو /تموز كذلك، ولكن هذه المرة في نهائي كأس أمم أوروبا لسنة 2020 بين إيطاليا وإنجلترا المؤجلة إلى سنة 2021، انتهى الوقتان الرسمي والإضافي بالتعادل الإيجابي بين الجانبين، وكان لزاماً اللجوء للضربات الترجيحية لحسم هوية البطل، وكان أن ضيع من الجانب الإنجليزي كل من راشفورد، وسانتشو، وبوكايو ساكا، والقاسم المشترك بينهم أنهم سود، ومرة أخرى وكما حدث مع باربوسا، حملهم الكثير من الإنجليز مسؤولية تضييع اللقب، وانتشرت الهتافات والتغريدات والمنشورات والتعليقات التي تسيء إلى اللاعبين الثلاثة بشكل عنصري فاضح، لتفصح كرة القدم من جديد عن جانبها المظلم في مهد اللعبة، ورغم تصدي رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وعدد كبير من المسؤولين والرياضيين، وأفراد الأسرة الحاكمة، لتلك الحملة الشرسة على اللاعبين السود الثلاثة في فريق الأسود الثلاثة، لم تمحَ ذكرى تلك الهجمات العنصرية لتُصنَّف ضمن أسوأ المحطات في تاريخ كرة القدم.

ظاهرة العنصرية، خاصة ضد السود في ملاعب كرة القدم، ليست بالجديدة، ولا يتوقع نهايتها أو التغلب عليها في القريب العاجل، فمنذ العقود الأولى لظهور اللعبة وانتشارها عالمياً، عمدت عدة فرق إلى حرمان السود من الانضمام لصفوفها، وبعد أن فرض اللاعبون السود أنفسهم على عالم كرة القدم، خاصة منذ تألق الجوهرة السوداء بيليه، لم يكن ذلك نهاية للمتلازمة العنصرية المزمنة المرافقة لكرة القدم العالمية، فقد كان أولئك اللاعبون الهدف الأول للهتافات والتصرفات العنصرية من المدرجات، وازداد الوضع سوءاً بعد توجه اللاعبين الأفارقة للاحتراف في صفوف الأندية الأوروبية بفضل مستواهم الفني الكبير، ولكن كان من نصيب الكثير منهم رمي حبات الموز، وأصوات القردة وعبارات عدائية من قبيل "عد إلى الأدغال"، ولم يشفع المستوى الكبير للعديد منهم أمثال جورج ويا، الحاصل على لقب أحسن لاعب في العالم سابقاً، وديدييه دروجبا، وغيرهما، لمنح الاحترام اللازم لأولئك اللاعبين كبشر أولاً ثم كمحترفين في مقام ثانٍ.

هذا ما طرح مسألة أخلاقية عميقة تعكس تدهوراً قيمياً خطيراً، فاحترام الإنسان لذاته بغض النظر عن لونه وجنسه ومكان مولده وغيرها من معايير التفرقة الأخرى، لا تزال غاية بعيدة المنال في عالمنا المعاصر، حتى في الدول التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وتكافؤ الفرص، فلعنة اللون وسيادة المظهر لا تزال تهيمن على الروح والمخبر والتماثل في المشاعر والأحاسيس رغم فوارق اللون، لا يزال الجلد هو الفيصل في الحكم على الناس والتفريق بينهم، على الرغم من أننا جميعاً متشابهون تحت الجلد، وهذا ما يشكل ضربة موجعة ليس للصورة البراقة للعبة التي طالما وصفت باللعبة الجميلة، ولكن للروح الإنسانية ككل، ففي مختلف الرياضات، وفي مختلف المجالات، وفي مختلف الشوارع والأزقة، تنتشر العنصرية والنظرة التمييزية إلى الأفراد، سواء من حيث لونهم أو جنسهم أو ديانتهم أو عرقهم، وهو ما يعد حطّاً من قيمة الإنسان التي يكتسبها بمجرد كونه إنساناً، بغض النظر عن أية عوامل تفرقة وتمييز مصطنعة من طرف البعض، وليست في صلب السمة الإنسانية التي تسمو على أية حواجز أو معوقات أو منغّصات، فمتى تتخلص البشرية من تلك الرؤى الضيقة والمقيتة؟ أم أن "متلازمة باربوسا" ستبقى تطارد الكثيرين لمجرد اختلافهم في اللون، سواء داخل ملاعب كرة القدم أو أي رياضات أخرى أو في أي مجال من مجالات الحياة؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالقادر دندن
مؤلف وأستاذ جامعي من الجزائر
تحميل المزيد