كيف تُفسد معاركنا الهامشية قضايانا الجادة؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/18 الساعة 08:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/18 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
لوحة جدارية في غزة بصورة الصحفية الراحلة شيرين أبو عاقلة / الأناضول

لا تعد جريمة اغتيال الإعلامية المناضلة شيرين أبو عاقلة أول قضية يساء التعاطي معها في المنصات الإلكترونية، ففي كل مرة تتمكن قضية جادة من فرض نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي مقاومة حجم التفاهة والابتذال الذي يعج بهما هذا الفضاء، منتزعة مساحة من الاهتمام اللائق بها، إلا ويسارع البعض إلى استغلال الزخم المثار حولها لتمييع النقاش وتحويره في الاتجاه الذي يعيدنا إلى سيرتنا الأولى؛ مما يسرع في إطفاء جذوة الغضب ويمنع من استثماره في إحداث أي تغيير وإن كان تغييراً جزئياً.

ما حدث من سجال بخصوص الترحم على شيرين أبو عاقلة مخزٍ وفاضح لبعض العقليات السائدة التي لا تنتعش إلا على وقع التأزيم، والتي شوشت على ردود الأفعال الغاضبة مما اقترفته أيدي الاحتلال، في الوقت الذي كان الأوجب فيه التركيز على فضح جريمة ارتكبت بحق إنسانة وهبت حياتها كلها لتوثيق جرائم تماثل تلك التي راحت ضحيتها؛ وعلى فرض أن هناك من تجاوز حداً شرعياً في التفاعل معها وأسبغ على الصحفية مكانة لم تبلغها، فقد كان من الحكمة ألا نوقف موجة التضامن معها ونتراشق فيما بيننا، والأجدى أن نؤجل هذا النقاش فيما بعد لتوضيح وتصحيح أية مخالفات، إن وقعت في هذه المسألة.

المشكلة أن القوم يعتبرون فعل الترحم خطيئة عظمى لا تحتمل السكوت عنها، ولو أنهم اكتفوا بتوضيح موقفهم الشرعي مع الانخراط في حملات التضامن مع شيرين أبو عاقلة لتفهمنا الأمر، لكن أغلبهم يضع فلسطين في أدنى أولوياته رغم قدسيتها ومكانتها الإسلامية البارزة، وما يفضح انتقائيتهم هو أن فعل الترحم على غير المسلمين لا يستفزهم حين يصدر من الحكام العرب؛ حيث الطاعة التامة لهم، فيلتمسون لأنفسهم عذر الخرس عما يعتبرونه كلمة حق، لكنهم أبداً لا يقبلون التماس العذر وإن لغاية أكبر وهي فضح من يحتل القدس والمسجد الأقصى.

المفارقة أننا نترك الانتصار للمظلوم في النقطة التي انتهك فيها حقه، فننتقل إلى إحداث تقييم شامل للشخص المعني، فيتحول الضحية إلى متهم، كما وقع مع الناشط السياسي نزار بنات الذي تمت تصفيته في مسالخ السلطة الفلسطينية، والذي استحضرت مواقفه الخلافية السابقة بعد لحظة إعدامه، فتحول الكثيرون من مساءلة السلطة إلى جلد الرجل، فكان ذلك بمثابة حبل نجاة أعطي للجلادين.

ثمة ظاهرة لا تقل غرابة عما سبق؛ لأنها تصيب من يفترض بهم أنهم في ذات الخندق ويحملون نفس الهم، حيث تدفع الأحداث بأشخاص محددين إلى الواجهة، فيسلط عليهم ضوء الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد لا يكونون الأكثر استحقاقاً لتمثيل القضية التي ينتسبون إليها، وهو ما يجرئ البعض على الطعن فيهم معترضاً على تصدرهم للمشهد، ولعل الجميع يتذكر ذلك السجال العقيم حول عهد التميمي قبل بضع سنوات، والذي يتجدد هذه الأيام بالخصوص مع شريحة "المؤثرين الاجتماعيين" في الشبكة العنكبوتية الذين يتهمون بأنهم يسرقون الاهتمام من المناضلين الصادقين.

نفهم التخوف من خطورة تسرب بعض الأدعياء للمشهد انطلاقاً من المعايير التسويقية المعتمدة حالياً في تلميع الشخصيات، مثل المظهر الخارجي، أو القدرة التواصلية، أو الانتماء لتوجه يتماهى مع لوبيات التأثير العالمي، لكن لا يمكن شن حروب شعواء على كل من نال نصيباً من الاهتمام ومن المتابعة دون بينة حتى قبل أن يصدر منه ما يصادم الثوابت، ذلك أن افتعال معارك معهم له نتائج عكسية؛ إذ يدفع إلى الاحتراب الداخلي، ويستنزف من الوقت ومن الجهد، ومنهم من تأثيره إيجابي في الشرائح التي يتواصل معها. وفي كل الأحوال فإننا لا نزكي هذا الواقع المختل، لكن تصحيحه لا يكون إلا بإعادة الاعتبار لمن همشهم الإعلام، والتعريف بما بذلوه من غير طعن أو لمز أو غمز بالفئة الأولى حتى تعود الأمور إلى نصابها.

هناك أيضاً من يصاب بالغيرة حين يهتم الناس بملف دون ملفه فيحاربه رغم عدالته، ولعل خروج أحد الإعلاميين السوريين في مأساة الطفل المغربي ريان، والذي استكثر عليه الاهتمام القياسي الذي حظي به إلا نموذج للمعارك التي لا ينتصر فيها أحد، والتي تعبر عن خفة وعن سطحية غير لائقة؛ فالمفروض أن ينصر المظلومون بعضهم البعض، وحتى إن رأى بعضهم أحقية مظلوميته على غيرها في المواكبة الإعلامية، فليس من الحكمة أن يصطدم مع أطراف لم تؤذه ممن تنتمي لنفس معسكر المستضعفين، كما أن المعروف أن انتصار أية قضية عادلة سيشكل حافزاً لباقي القضايا المماثلة لها للنسج على منوالها. 

إننا ندفع ثمناً فادحاً جراء وَلَعِنا بتلك المعارك الهامشية التي تمزق أوصال جسدنا وتجعلنا فريسة سهلة لدعاية الأعداء، وما ذلك إلا بفعل سيادة الذاتية وداء الشخصنة، ولو أننا تجردنا لرسالتنا وركزنا على القيم التي نناضل من أجلها، لأمكننا ترتيب سلم أولوياتنا، وإعطاء كل قضية حجمها الطبيعي الذي يتناسب مع مستوى أهميتها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنس السبطي
كاتب رأي مغربي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد