بعد أقل من ثلاثة أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا تستعد فنلندا والسويد لطيّ صفحة عدم الانحياز العسكري، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 75 عاماً في فنلندا، وإلى القرن التاسع عشر في السويد، وبعد قطيعة مع حيادهما في تسعينات القرن الماضي مع انتهاء الحرب الباردة، عبر إبرامهما اتفاقيات شراكة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، يُعزز البلَدَان الشماليان تقاربهما مع الكتلتين الغربيتين، حيث أعلنت فنلندا رسمياً ترشيحها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، قبل اجتماع حاسم للحزب الحاكم في السويد لبحث القيام بالخطوة نفسها، بهدف تقديم طلب مشترك محتمل للبلدين.
حيث قالت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين "نأمل أن نتمكن من إرسال طلباتنا هذا الأسبوع مع السويد، لأن لديهم إجراءات خاصة بهم، لكنني آمل أن نتخذ القرارات في وقت واحد".
ويشكل ذلك تحولاً جرى تدريجياً منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط 2022، وسرعة تأييد متزايد من الرأي العام في البلدين للانضمام إلى الحلف، واتخذت فنلندا المبادرة أولاً قبل السويد، التي لا تريد أن تصبح الدولة الوحيدة المطلة على بحر البلطيق غير العضو في الناتو.
تشترك الدولة الاسكندنافية في حدود برية طولها 808 أميال مع روسيا، وقد سارت بحذر في السياسة الخارجية بين موسكو والغرب لعقود عديدة. تبنّت فنلندا سياسة الحياد خلال الحرب الباردة، ما يعني أنها ستتجنب المواجهة مع روسيا، وفي المراحل الأولى من الحرب العالمية الثانية نجح الفنلنديون في صدّ غزو سوفييتي، فيما أصبح يُعرف باسم "حرب الشتاء".
لكن حيادها الطويل الأمد الذي يعتز به العديد من الفنلنديين قد يكون على وشك الانتهاء بسبب الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا، وإعلان فنلندا في بيان مشترك صادر عن الرئيس ساولي نينيستو ورئيسة الوزراء سانا مارين، عزمها الانضمام إلى "الناتو"، لتمهد الطريق أمام نمو الحلف الأطلسي بينما تتواصل الحرب الروسية الأوكرانية، وعقب ذلك أعلنت السويد نيتها تقديم طلب مماثل للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مشيرة إلى أنها أعدت جميع الخطط الخاصة بطلب العضوية، ما يعني أن فكرة الحياد بين الشرق والغرب التي كانت تتبناها أكبر دولتين من الدول الاسكندنافية في بحر البلطيق أصبحت من الماضي.
تاريخ البلطيق
تتمتع كل من فنلندا والسويد بتاريخ طويل من عدم الانحياز والحياد فيما يتعلق بالأمن والدفاع، رغم أن تاريخهما مع روسيا لا يخلو من الصراع، وأن استراتيجيات السياسة الخارجية لكليهما كانت واضحة بشأن التهديد الروسي، فقد اختارت فنلندا والسويد البقاء عسكرياً غير منحازين وخارج الناتو.
ففي الماضي كان كلا البلدين يفضل اتباع سياسة أمنية متوازنة تجاه روسيا، فمن ناحية يتعاونان بشكل متكرر في المسائل الدفاعية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ودول شمال أوروبا الصديقة، عبر ترتيبات "صغيرة" مثل التعاون الدفاعي لدول الشمال أو قوة المشاة المشتركة بقيادة المملكة المتحدة، من ناحية أخرى وحتى بعد العدوان الروسي الأوّلي على أوكرانيا في عام 2014، سعى كلاهما إلى الحفاظ على حوار قوي مع موسكو، وتجنب استفزازها، لأنها مصدر قلق خاص لفنلندا، التي تشترك في مسافة 832 ميلاً (1300 كيلومتر)، الحدود البرية مع روسيا، بينما السويد لا تشترك في حدود مع روسيا، رغم أنها تمتلك جزيرة جوتلاند، ذات الأهمية الاستراتيجية في بحر البلطيق.
لكن لم يمنع هذا النهج المتوازن فنلندا والسويد من تطوير علاقة وثيقة مع الناتو في العقود الأخيرة، فانضم البَلَدان إلى "شراكة الناتو من أجل برنامج السلام" في 1994، وأسهما في العمليات والبعثات التي يقودها الناتو في البلقان وأفغانستان والعراق.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا سرّع الناتو تعاونه مع هلسنكي وستوكهولم فيما يتعلق بتبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق السياسي، تمت دعوة كلا البلدين لحضور اجتماعات وزراء الخارجية والدفاع لحلف الناتو، وكذلك القمة الاستثنائية في 24 مارس/آذار 2022، كما شاركت القوات المسلحة الفنلندية والسويدية في تدريبات الناتو الأخيرة على الجناح الشرقي للقارة الأوروبية.
هل أجبرت التهديدات الروسية فنلندا والسويد للانضمام للناتو؟
لقد صرحت روسيا مراراً وتكراراً بأنها ضد أي توسع لحلف الناتو في شرق أوروبا، وكان ذلك أحد الأسباب التي قدمها الكرملين لغزو أوكرانيا، حيث صرح الرئيس الأوكراني زيلينسكي برغبته في الانضمام إلى الناتو قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
تظهر استطلاعات الرأي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/شباط، أن غالبية الفنلنديين يؤيدون الآن الانضمام إلى الناتو، ومن المرجح أن يستفيد حلف الناتو من موقع فنلندا الجغرافي وقدراتها العسكرية، حيث صرح الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ بالفعل بأن انضمام فنلندا لحلف الناتو سيلقى ترحيباً كبيراً.
وتغيّرت استراتيجية فنلندا تجاه مسألة الحياد، رداً على الغزو الروسي، فقد أظهرت استطلاعات الرأي العام الأخيرة تحولاً واضحاً: أشار استطلاع في مارس/آذار إلى أن ما يصل إلى 62% من المواطنين الفنلنديين يؤيدون الآن الانضمام إلى التحالف، بينما عارض 16% فقط الخطوة.
ويعد هذا تغيّراً كبيراً عن نسبة 21% التي كانت مؤيدة في استطلاع عام 2017، ووجدت دراسة استقصائية حديثة أن المشاعر متطابقة تقريباً بين البرلمانيين الفنلنديين. الأحزاب الرئيسية التي عارضت تقليدياً عضوية الناتو وحزب الوسط والاشتراكيين الديمقراطيين تعيد تقييم موقفها، لكن بصورة عامة تشير التقارير إلى أن حزب تحالف اليسار الصغير هو الوحيد الذي بقي معارضاً، يؤكد القسم الخاص بعضوية الناتو أن فنلندا ستصبح أكثر أماناً تحت مظلة الدفاع الجماعي لحلف الناتو.
لقد نظر الشعب السويدي تاريخياً إلى آفاق عضوية الناتو بشكل أفضل من الرأي العام الفنلندي، فتظهر استطلاعات الرأي الماضية دعماً ثابتاً للشعب السويدي للانضمام لحلف الناتو، ويتراوح بين 31 و37%، وأظهر استطلاع للرأي حديث بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أن نسبة 59% من الشعب السويدي تدعم الانضمام للناتو، حيث تدعم أحزاب المعارضة من يمين الوسط العضوية، ويبدو أن الديمقراطيين السويديين من أقصى اليمين يعيدون التفكير في موقفهم المناهض لحلف شمال الأطلسي، ومع ذلك فإن الديمقراطيين الاشتراكيين الذين حكموا لفترة طويلة، والذين يقودون السويد حالياً في حكومة أقلية من حزب واحد يعارضون باستمرار عضوية الناتو.
قيام فنلندا، الخميس الماضي، بالتقديم المبكر للانضمام إلى الناتو وضع ضغطاً قوياً على السويديين للانضمام، لأن بلادهم قد تصبح بعد ذلك عرضة للمحاولات الروسية للترهيب، حتى لا تحذو حذو فنلندا، وبالفعل أعلنت الحكومة السويدية عن نيتها الانضمام لحلف الناتو، بعد إعلان فنلندا بساعات، الخميس الماضي، عزمها تقديم طلب انضمام إلى حلف "الناتو"، مشيرة إلى أنها أعدت جميع الخطط الخاصة بطلب العضوية، وصرحت وزيرة الخارجية السويدية آن ليندي، في بيان، أنه ليس من الممكن للسويد أن تقف مكتوفة الأيدي، بعد أن اتخذت فنلندا قرار التقدم لعضوية الناتو.
وأضافت أن بلادها أعدت جميع الخطط الخاصة بتقديم الطلب المحتمل لعضوية الناتو، مشيرة إلى أن العملية يمكن أن تتحرك بسرعة كبيرة إذا استوفت السويد المعايير.
إن قيام فنلندا والسويد بتقديم الطلب للحلف في هذا التوقيت مناسب جداً لقمة الناتو التاريخية، في شهر يونيو/حزيران 2022 في إسبانيا، حيث ستتفق دول الحلف أيضاً على وضع مفهوم استراتيجي جديد لتوجيه أنشطة الحلف في العقد القادم.
ما طبيعة الرد الروسي على انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو؟
الوضع الجيوسياسي في شمال أوروبا آخذ في التغيّر، حيث يتحول بحر البلطيق إلى بحيرة تابعة للناتو، وهذا يغير موقف دول البلطيق نفسها، ومن المتوقع الأيام القادمة تقوية الأسطول البحري الروسي في بحر البلطيق، لأنه بانضمام فنلندا والسويد للناتو سيتضاعف طول الحدود الروسية مع دول الناتو، ومن المتوقع أن يزداد حجم تواجد القوات الروسية على طول هذه الحدود، وبالتالي ستزداد النفقات الروسية على الدفاع بتحريك قوات أكبر على طول هذه الحدود، وبالتالي سيشكل هذا ضغطاً جديداً على الاقتصاد الروسي.
بالإضافة إلى أنه سوف يتغير ميزان القوى في مجلس القطب الشمالي تماماً، بحيث لا تكون روسيا في هذا المجلس في جهة وأعضاء الناتو من جهة أخرى، ومن المحتمل أن يبدأ سباق تسلح جديد في منطقة القطب الشمالي، وهو بالطبع أمر غير سارّ لروسيا.
بعد 24 ساعة من إعلان فنلندا والسويد نيتهما تقديم طلب الانضمام لحلف الناتو أعلنت روسيا تحذيرها من انضمامهما للحلف، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، السبت 14 مايو/أيار 2022، في بيان صادر عن الكرملين: "إن إنهاء السياسة التقليدية للحياد العسكري سيكون خطأً، حيث لا يوجد تهديد لأمن فنلندا".
إن الرد الروسي قبل الموافقة على الانضمام الرسمي لفنلندا والسويد للناتو سيكون قبل انضمامهما، وتتم حمايتهما رسمياً بموجب ضمان الدفاع الجماعي لحلف الناتو، حيث بدأت روسيا بالفعل في تهديد فنلندا خطابياً، وانتهاك المجال الجوي الفنلندي، وشن هجمات إلكترونية على المواقع الحكومية.
السؤال هو ما إذا كانت هذه المحاولات الروسية للضغط على فنلندا قد تنذر بتحولها لحرب تقوم بها روسيا على فنلندا، لكن من رأيي يعتمد هذا على نية روسيا وقدرتها على القيام بذلك، لا سيما بالنظر إلى الضرر الكبير الذي لحق بالاقتصاد الروسي من خلال العقوبات الغربية، بالإضافة إلى أن الجيش الروسي يقوم بحرب شرسة خسر فيها الكثير في أوكرانيا.
فيما يتعلق بالنية الروسية لمهاجمة فنلندا، من المحتمل أن بوتين قد أدرك منذ فترة طويلة أن السويد وفنلندا متحالفتان بشكل وثيق مع الناتو بدون عضوية رسمية، لذلك فإن الغزو لن يحقق الكثير بخلاف العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية، التي أصبحت تعاني منها روسيا، بالإضافة إلى الخسائر العسكرية في أوكرانيا، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع روسيا من غزو أوكرانيا.
أما فيما يتعلق بالقدرة الروسية على غزو فنلندا، فيجب أن ننظر إلى الخسائر العسكرية الروسية الفادحة في أوكرانيا، حيث تتعرض روسيا لحرب استنزاف طويلة الأمد كما ذكرت في مقالي السابق "تسليح ضخم ودعم غير محدود لأوكرانيا.. هل نجح الغرب في الإيقاع بروسيا في فخ "حرب الاستنزاف"؟"، حيث تشير خسارة السفينة الحربية الروسية موسكفا، طرادها الصاروخي في البحر الأسود، إلى احتمال وقوع المزيد من الخسائر الكبيرة، ومع ذلك لا تزال القوات الروسية التقليدية كبيرة وذات قدرة عالية، بما في ذلك القوات البرية والجوية في المنطقة العسكرية الغربية، وأسطول بحر البلطيق وقوات الصواريخ في كالينينغراد وخليج فنلندا، والأسطول الشمالي في شبه جزيرة كولا، للتعامل مع أي تهديد هجومي محتمل،
لكن في المقابل أشار الناتو بالفعل إلى أنه سيقدم ضمانات أمنية لمواجهة التهديد الروسي لشرق أوروبا، فالمناقشات جارية الآن في بروكسل، لتحديد الشكل الذي ستتخذه للتشكيلات العسكرية التي تركز على شمال أوروبا، والدور الذي ستلعبه هناك، مثل قوة المشاة المشتركة، باعتبار فنلندا والسويد عضوين في الاتحاد الأوروبي، فإن فنلندا والسويد مشمولان من الناحية النظرية بشرط المساعدة المتبادلة للاتحاد الأوروبي المنصوص عليه في المادة 42 من معاهدة الاتحاد الأوروبي.
الخاتمة
من الواضح أن انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو سيشكل تهديداً كبيراً لروسيا، فبعد سيطرتها الكاملة لمدة 75 عاماً على بحر البلطيق ستصبح جميع الدول المطلة على البلطيق تابعة لحلف الناتو، بالإضافة إلى أن فنلندا ستكون أحد مراكز المواجهة المستقبلية بين الغرب، ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
روسيا ستكون بمفردها في مجلس القطب الشمالي في مواجهة دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف الناتو، والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا إن دل فإنه يدل على أن شرق أوروبا سيصبح لسنوات قادمة ساحة المواجهة الرئيسية بين الشرق، ممثلاً في روسيا، والغرب ممثلاً في الولايات المتحدة وحلفائها، وتستدعي هذه التحركات صراعاً واسعاً وشاملاً قد يؤدي إلى مواجهة دولية في المستقبل، إن لم تتراجع روسيا خطوة إلى الخلف، مع تزايُد التفوق الغربي، سواء أكان عسكرياً أم جغرافياً أم اقتصادياً، لكن يبقى السؤال المحير: هل لم تتوقع روسيا هذه التحركات، أم أنها كانت تتوقعها وحسبت لها حساباتها؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.