لم أشاهد مسلسل فاتن أمل حربي، ولست مهتمة بتفاصيله، ولا أعرف من هو كاتبه، ولكني مهتمة جداً بالقضية الإنسانية التي أثارها فيما يتعلق بحضانة الأم.
فقبل سنتين كنت في السوق لحاجة ضرورية حين اتصل بي رقم دولي لا أعرفه، فرددت على الفور تحسباً لكونه أمراً مهماً، وإذا به محامٍ شاب مَرَّتْ أخته بزواج قاسٍ، تلته محنة طلاق، وتريد حالياً تعويض ما عانته بزواج آخر، فهددها طليقها بسحب حضانة طفلها منها، فوقعت في صراع مرّ: "أُحرم من حضانة ابني، أم من نعمة الزواج والعلاقة والاستقرار النفسي؟!".
وبدأ المحامي بشرح القضية، ولماذا اتصل بي أنا شخصياً؟ فقال: "القانون الأردني يُسقط حضانة الأم بمجرد زواجها، فقلت ربما هي قوانين وضعية، وذهبت وكلي أمل وتفاؤل لمركز الفتوى ولكبير القضاة في عَمَّان، فقالوا نفس الكلام، فسألت مشايخ البلد وأساتذة الشريعة في الأردن فصادقوا على شرعية ما ورد بالقانون، فقلت لنفسي لعلهم متمسكين بمذهب معين أو بفتوى محددة وهناك سعة… فهل يوجد قول آخر بالمسألة، أم حقاً هي محسومة؟". واستفاض وشرح كم أقلقته تلك القضية، لدرجة أنه يفكر بالتخصص فيها والمنافحة عنها حتى يتغير القانون أو يهلك دونها، انتهى كلامه.
وبناء على هذه الواقعة يتبيّن أن "إسقاط حضانة الأم إذا تزوجت بأجنبي" هو حكم وفتوى فقهية، وليس قانوناً وضعياً أو قضائياً، أو سوء تطبيق، كما قد يظن البعض أو قد يشاع. فقد اتفق الفقهاء (بل ذَكَرَ ابن المنذر أنه إجماع) على أن "حضانة الأم تسقط بمجرد زواجها من أجنبي عنه"، وأنها عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة تسقط بمجرد العقد عليها!
وهكذا تسقط "الدعوة للتعدد" التي شاعت هذه الأيام بالأوساط السورية بحجة "تربية أولاد الأرامل والمطلقات"، لأن القانون والفتوى السائدة "تسقط حضانتها"، وستبقى المرأة في خيار صعب: فإما الحرمان من العلاقة أو الحرمان من الأبناء.
على أني سأناقش هذه الفتوى التي تحولت لقانون، من زوايا متنوعة، وما أثبته الفقهاء أنفسهم (ثم بدا وكأنهم نقضوه):
1- اتفق الفقهاء الأربعة وغيرهم أن الحضانة من عمل النساء، ومن تخصصهن، وأنهن الأقدر عليها لأنهن أشفق وأرفق بالمحضون، وهن بها أليق وأهدى إلى تربية الصغار فيُقَدمن على الرجال؛ وبناء عليه رتبوا الحاضنات: الأم فأم الأم.. على اختلاف بين المذاهب، على أن الأولوية لهن فيها، وإذا سقط حق الأم فيها لم تنتقل للأب عند الجمهور وإنما إلى أم الأم، وخالفهم الحنابلة فقالوا بانتقالها إلى الأب.
2- ولكن جعل الحضانة للأب يتناقض مع التخصصات، ومع الشفقة التي أقرها الفقهاء أنفسهم فمن واجبات الحاضنة حفظ الصغار وتوجيههم وحمايتهم مما يضرهم أو يؤذيهم، وتغذيتهم وتنظيفهم، وغسل ثيابهم، وتعهد مرضهم ونومهم ويقظتهم، وهذا يتعذر على الآباء بسبب طبيعة تكوينهم وهذه ناحية.
أما الناحية الثانية: لنفرض أن الأب عطوف وشفوق ولديه البال الطويل والمقدرة على رعاية الصغير وحمايته، وتأمين كل ما يحتاجه. فماذا يصنع مع دوامه وغيابه الطويل عن الطفل، وهل يمكنه الاستيقاظ ليلاً لأجل رعايته؟ وحتى لو كان عمل الأب من البيت فهل يمكنه التفرغ للصغير، والبقاء معه 24 ساعة كما تفعل الأم، وكيف سيخرج للصلاة وللضرورات؟
3- إذن الأب يحتاج لسيدة معه (زوجة، خادمة…)، فإذا استعان ببعضهن فكيف يُعتبر هو الحاضن إذا غاب كل اليوم، ونابت هي عنه، في توجيه ورعاية الطفل؟!
4- إن المذاهب فصلت من الأحق بالحضانة، ولا يوجد أي مذهب -رغم اختلافهم بالترتيب- جعل الحضانة لزوجة الأب أو للخادمة.
وأقصد "الفقهاء أنفسهم لم يذكروا زوجة الأب مع الحاضنات"، ثم قالوا: "لو قُدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ولا تقوم بها، وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة هنا للأم قطعاً"، وكأنهم بذلك وافقوا ضمنياً على احتفاظ الأب بأولاده مع زوجة أجنبية، وهذا تناقض، وإن كانوا قد استثنوا (إلا إذا أُذوا) فمن سيراقب ويقرر؟! والأولاد غالباً ما يتأذون.
وللأسف بقيت هذه المخالفة الشرعية (الحضانة لزوجة الأب)، حتى بعد ما رأوه من ظلم زوجات الآباء على مر العصور… وبقيت رغم أن كثيراً من الآباء يسافرون ويغيبون، ويبقى الصغار مع امرأة أجنبية، ولا أحد يعرف إن كانت تسيء أو تحسن (حتى والدهم مُغيب).
وتلك التفرقة بين الأم والأب عند الزواج بأجنبي أو أجنبية: من الميل والتحيز لصالح الرجل (والذي كثر الكلام عنه في هذا العصر)، فنرى الشروط والتقييد يلحق المرأة في الفقه، في حين يتمتع الأب بالمزايا كاملة حتى في مسألة هي من لب تخصص المرأة وبشهادة الفقهاء أنفسهم.
فإذن ينبغي أن يتساوى الأب مع الأم عند الزواج من أجنبي أو أجنبية عن الطفل، وبالتالي ممكن للأم أن تحتفظ بطفلها كما يحتفظ هو، بل هي أولى بالاحتفاظ بها، لأن مهمتها وهي الحاضنة الأصلية، ولأنها ستكون مع طفلها 24 ساعة، وهي أرحم به من زوجة والده، وأشفق عليه فتحميه من زوجها الجديد، كما أثبت الواقع، حيث أكد لي المحامي -الذي اتصل بي- أن نسبة إيذاء أزواج الأمهات في الأردن أقل من نسبة إيذاء زوجات الآباء بكثير.
5- وإن الحضانة كما قرر الفقهاء ليست حقاً لله، وإنما "هي حق للمحضون بشكل أساسي ولمصلحته"، وأكثر ما يحتاجه الطفل الصغير هو حنان وحب واهتمام أمه، ومن المؤلم أن ترعى المرأة أولاد زوجها من امرأة سابقة، وتُحرم من أولادها (فالزوج الذي يتزوج امرأة سبق لها الزواج -غالباً- يكون له أطفال، وتزوج لكي يؤمن لأطفاله الرعاية والعناية والحنان والخدمات)، وهكذا تُحرم كلتا المرأتين من أولادهما لتربي أولاد زوجها، بدل أن تُعطى كل أم أطفالها ليأخذوا من حنانها ويكونوا في رعايتها.
وإن الله تعالى وصف أم موسى بفراغ قلبها حين حرمت من طفلها، واستنكر النبي صلى الله عليه وسلم أن تفجع حمرة (نوع من الطيور) بوليدها، وأمرهم أن يردوا لها الفرخين، فكيف بامرأة من بني آدم؟!
6- والأهم أن سقوط حق الحضانة عن الأم إذا تزوجت ليس محل اتفاق، بل محل خلاف وفيه تفصيلات، فعلامَ أبرزوا هذا القول حتى وصلنا وكأنه إجماع؟ وهكذا يكون الميل والتحيز أيضاً بالخيارات الفقهية، فتكون هناك سعة، ويُنقل لنا القول الذي ليس لصالحنا على أنه الوحيد؟ ويؤخذ به بالمحاكم والقضاء، وإذا جاءت أم تناقشهم به لتضم وليدها اتهموها بالمروق من الدين وهي مسلمة ملتزمة.
فلقد نقل ابن القيم في (زاد المعاد) الخلاف على أربعة أقوال، سأذكر منها اثنين:
الأول: الحضانة لا تسقط عن الأم بحال، وهو قول الحسن، وابن حزم.
والثاني: روي عن أحمد: "إذا تزوجت الأم وابنها صغير أُخذ منها. قيل له: والجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين. وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى عنه: أنها أحق بالبنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ". واختار ابن القيم أن حضانة الجارية لا تسقط إذا رضي زوج الأم واستدلوا ببنت حمزة، لما حكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضانتها إلى جعفر لما قال "بنت عمي وخالتها عندي".
ومن الميل لصالح الذكور في بعض الفتاوى: "تخيير الصبي بين أمه وأبيه، وإجبار البنت على أبيها"، والحمد لله أن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما استنكروه وردوا الفكرة بقولهم: "الصبي ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب فلا يصح تخييره".
7- وإن الذين أسقطوا الحضانة اعتمدوا على حديث: "أنت أحق به ما لم تَنكحي"، وعلّلوا إسقاطها بأمرين اجتهاديين، وسأذكرهما مع الرد عليها:
الأول: إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة، وتعارضت مصالح المحضون مع مصلحة الزوج.
والجواب: وإن هو إلا افتراض بلا دليل، والمرأة قدراتها هائلة بإدارة الأولاد والزوج والبيت، والمؤلم أنهم يعتبرون من الطبيعي أن تنشغل المرأة عن زوجها الجديد بأولاده من امرأة أخرى غيرها، وغلط كبير أن تنشغل بابنها.
وإن الرجل المسلم لمأمور بأن يحنو على اليتيم، ويسعى على الأرملة والمسكين وله أجر عظيم، فكيف لو أعان رجل زوجته باحتضان ابنها، فهذا من المروءة والنخوة المتوقعة من رجل تزوج امرأة لها طفل.
ثم وما الضير لو قصرت قليلاً بواجباته لقاء قيامها بأمومتها، وهل يحتاج الزوج امرأته 24 ساعة؟! أوليس بالغاً وعاقلاً ويستطيع القيام بشؤونه؟! ألا تكرمه هي برعاية أهله، فلِمَ لا يكرمها برعاية بنيها؟
ولا تنسوا أن الزوج الجديد جاء مكان والد الطفل، فلماذا يشغلها طفلها عن زوجها الجديد، ولم يكن يشغلها عن والد طفلها الأصلي؟!
الثاني: الخوف من إيذاء الزوج الأجنبي للطفل، إذ ليس عنده صلة رحم تدفعه إلى الحنوّ عليه والشفقة به.
والجواب:
درجنا على أن الفقهاء يعتبرون الكمال ورجاحة العقل والصبر في الرجل، ويؤكدون ذلك في كل مناسبة، لكن في قضية الحضانة بدلوا، وافترضوا أن كل زوج سيكون ظالماً! وهذا من "الميل والتحيز" لأن النتيجة ستكون لصالح الرجل أباً، وبالتالي لاضطرار المرأة أماً للتخلي عن ابنها.
وهناك من أضاف أمراً ثالثاً، أن الأب قد يأنف أن يُربى ابنُه أو بنته عند رجل آخر، والجواب: الأم أيضاً تأنف من نفس الموضوع وتتألم، ولكن وللأسف لا تؤخذ مشاعرها بعين الاعتبار، كما تؤخذ مشاعر الأب.
وأما من ناحية الاستدلال الفقهي في الحديث:
– فالحديث لا يوجد غيره في هذا الباب، فهل يفيد حقاً أن الحضانة تسقط مطلقاً؟ أم أنها قابلة للأخذ والرد؟
فإن ما جاء بالقرآن أقوى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم"، فهي دليل قاطع على أن زوج الأم يربي فعلاً في بيته، وتجلس البنت في حجره، ما يدل على صغر سنها. وإن ما فعله النبي عليه السلام مع أولاد أم سلمة تطبيق حي لتلك الآية: "إنَّ لي بنْتاً وأنا غَيُورٌ، فقالَ: أمَّا ابْنَتُها فَنَدْعُو اللَّهَ أنْ يُغْنِيَها عَنْها، وأَدْعُو اللَّهَ أنْ يَذْهَبَ بالغَيْرَةِ".
وإن "أمامة" التي اختصم فيها جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب، كل يريد أن تكون في بيته؛ فقال جعفر: ابنة عمي وخالتها "أسماء بنت عميس" تحتي، وقال زيد بن حارثة: "ابنة أخي" لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قد آخى بين زيد بن حارثة وبين حمزة بن أبي طالب، وقال علي: "أنا أخذتُها وهي ابنةُ عمي". فقضى الرسُولُ بأن تكون عند جعفر. فحضنها وهو أجنبي عنها.
هذا بعض ما جاء بالفقه من خلاف، ومن أدلة الجواز. وإننا نتأمل من الفقهاء والقضاة إعادة النظر بالمسألة وبالقانون، والرفق بالأطفال وبأمهاتهم، خاصة بعد كثرة الطلاق، فالصغار يحتاجون لأمهم ولا أحد يغني عنها، وأمهم تحتاجهم وتحتاج لسكن مع زوج ولعلاقة خاصة، ومن الضروي أن ينشأ الصغار نشأة سوية مع أم هادئة مستقرة (لا أم مريضة تشعر بالحرمان وتتعصب عليهم). فالمصلحة في بقاء حضانتها ولو تزوجت بأجنبي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.