انكماش حزب اللّه وفشل دعوات الحريري للمقاطعة.. قراءة أولية في نتائج الانتخابات النيابية بلبنان

عدد القراءات
1,791
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/17 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/17 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
الدعاية الانتخابية في لبنان/ رويترز

في عالم السينما، الأفلام "درجة ثانية" أفلام كانت رائجة حتى خمسينيات القرن الماضي، يتم إنتاجها بميزانية منخفضة أو حتى ضئيلة، وتوزيعها دون حملة دعائية، وغالباً ما كانت تشكّل النصف الثاني من عرض مزدوج (فيلمان بسعر واحد)، أي بعد جمعها في عرض واحد مع فيلم بميزانية جيدة. 

وقد أصبحت أفلام الدرجة الثانية، لا سيما بعد أن أهملت أستوديوهات هوليوود إنتاجها بعيد خمسينيات القرن الماضي، مرادفة للأفلام الرديئة ودون المستوى. 

الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان في 15 أيار/مايو 2022، انتخابات درجة ثانية.

مرشحون بأغلبيتهم درجة ثانية، يتنافسون بخطاب شعبوي درجة ثانية، بكاريزما درجة ثانية، في حملات انتخابية درجة ثانية، بأداء إعلامي درجة ثانية، بلوائح درجة ثانية، بشعارات درجة ثانية، بأفكار سياسية – هذا عندما توجد – درجة ثانية، في أوضاع معيشية درجة تحت الصفر، في بلد أصبح درجة ثانية.

 وإن تفاوت مستوى الأداء بين مرشح وآخر، إلا أن الجو العام الطاغي على أغلب الحملات الانتخابية وخطابها وعناوينها، بالإضافة إلى التحالفات الانتخابية، كان جواً سياسياً درجة ثانية. 

تدني نسبة المشاركة بالاقتراع 

فلا عجب، بعد كل ذلك، أن تكون نسبة المشاركة بالاقتراع درجة ثانية، أي متدنية، كما جاءت. فهي لم تتعدَّ الـ41.1%، وذلك بتراجع ثماني نقاط عن انتخابات 2018 (49.7%)، ما من شأنه أن يطرح إشكالية صحة تمثيل النواب الجدد للأمة (كما هو وارد في الدستور اللبناني)، أي مسألة مشروعية المجلس النيابي الجديد، لاسيما أن بعض الدوائر الانتخابية لم تتعدَّ نسبة الاقتراع فيها الـ30% إلا بقليل جداً، ولو كان المجلس شرعياً بما لا شك فيه. 

هل يعني ذلك أنّ المتخلفين عن الإدلاء بأصواتهم مُعفَوْن من أي مسؤولية، لا سيما عن عدم قيامهم بواجبهم الوطني؟ طبعاً لا، فالواجب الوطني كان يحتم على كل مواطن مقيم أن يقوم بواجبه بالاقتراع، لا سيما في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان، خصوصاً بعد إقبال المغتربين الكبيرعلى الاقتراع في الأسبوع الذي سبق. 

هل يعني ذلك أن خيار "المقاطعة" الذي دعا إليه أنصار سعد الحريري قد انتصر؟ طبعاً لا، فنسبة الاقتراع في بيروت الثانية مثلاً، حيث الثقل السني، أتت أعلى بثماني درجات عن انتخابات 2018 حين شارك، بكل قوتهم التجييشية، الداعون اليوم للمقاطعة.

ما يعنيه ذلك بشكل أساسي، هو أن العرض السياسي (بمعنى العرض والطلب) لمجمل اللوائح والمرشحين، لم يكن على مستوى تطلعات أغلبية (59%) المسجلين للاقتراع، وأنه لم ينجح في إقناعهم ولا التأثير بهم أو تحريكهم نحو صناديق الاقتراع، ففضلوا عدم المشاركة بالتصويت.

فوز قوى التغيير وسقوط رموز الحقبة السورية في لبنان

أما في التفاصيل، فلعل أبرز ما في نتائج هذه الانتخابات، هو أولاً فوز عدد معتبر من مرشحي "قوى التغيير" (المجتمع المدني)، لا سيما أن البعض منهم قد خرق في مناطق سيطرة حزب اللّه ما شكّل مفاجأة كبيرة. وسيخوّلهم عددهم، إن أرادوا، تشكيل كتلة نيابية ممكن أن يكون لها كلمتها في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً أنهم سيكونون صوت انتفاضة 17 تشرين (2019) داخل المؤسسة الدستورية الأم في الدولة اللبنانية. 

أما النقطة الثانية، فهي سقوط رموز الحقبة السورية في لبنان، من أمثال رئيس الحزب القومي السوري أسعد حردان في الجنوب، في عقر دار حليفه حزب اللّه، ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي في البقاع، والنائب السابق طلال أرسلان في عاليه، بالإضافة إلى تحجيم الثقل الانتخابي لآل فرنجية في الشمال.

 وفي ذلك، فإن انتخابات 2022 تشبه نوعاً ما انتخابات 2005 التي جرت بعيد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وانطلاق ثورة الأرز، وخروج الجيش السوري من لبنان، أي تلك الانتخابات التي شهدت سقوط رموز النظام السوري من أمثال طلال أرسلان، وإيلي الفرزلي، بالإضافة إلى سليمان فرنجية، والذين تمكنوا من العودة إلى الندوة النيابية في الدورات التي تلت، أي ابتداءً من دورة 2009.

تفاوت استقطاب العناوين السيادية بين الطوائف

من وجهة نظر سيادية، فقد أثبت الناخب المسيحي أنه الأكثر وعياً لهذا الشأن، والأكثر تنبهاً لأهمية التحديات السيادية ودقة المرحلة التي تنتظر لبنان من الناحية السيادية، لا سيما فيما يتعلق بالمخاطر التي يطرحها السلاح الخارج عن سلطة الدولة (سلاح حزب اللّه) كسبب أول لعدم إمكانية بناء الدولة، وللانهيار الحاصل، وكعائق أساسي لإمكانية الإصلاح الحقيقي والنهوض، فأعطى الناخبون المسيحيون أكثرية لكتلة سيادية ضمن النواب المسيحيين (قوات+كتائب+حركة الاستقلال)، خصوصاً لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي أصبح الحليف الأبرز للسعودية في لبنان. 

وكذلك فعل الناخبون الدروز الذين استطاعوا، من خلال تصويتهم للوائح الحزب التقدمي الاشتراكي، لا سيما في الشوف وعاليه ووادي التيم، فك الطوق الانتخابي المُحكم الذي كان هندسه حزب اللّه ضد وليد جنبلاط، لا سيما بواسطة طلال أرسلان ووئام وهاب.

أما سنيا، فخيار المقاطعة لم ينتصر، كما بيَّنا أعلاه. ولكن بالمقابل، لم يستطع أحد فعلياً (سيادياً كان أم مدنياً، من داخل الطائفة السُّنية أم من خارجها) ملء الفراغ السياسي الذي تركه سعد الحريري وتياره في لبنان عامة، وفي الشارع السني بشكل خاص.

صحيح أن المشاركة بالاقتراع قللت الخسائر بوجه الحزب وحلفائه، لا سيما في بيروت، وهذا أمر يحسب للشخصيات والقوى السياسية ضمن الطائفة السنية التي شكلت لوائح بفترة وجيزة، في محاولة لعدم ترك الساحة لحزب اللّه وحلفائه، بالإضافة لدور المرجعيات الدينية المسؤول، لا سيما مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، الذين كرروا الدعوة مراراً، منذ عزوف الحريري، لعدم تخلي اللبنانيين السنة عن دورهم وحضورهم السياسي، والمشاركة بالترشح والتصويت.

ولكن مشاركة السنة بالاقتراع لم تكن كافية على مستوى كل لبنان (خصوصاً في الشمال حيث جاءت متدنية بشكل كبير) للقول إنه يمكن الاستغناء عن سعد الحريري.

فالفوز في دائرة لم يقترع فيها أكثر من 30% من المسجلين (دائرة المنيةـ الضنيةـ طرابلس مثلاً) ممكن أن يجعل من الفائز نائباً، ولكنه لا يمكن أن يجعل منه زعيماً للسنة، لاسيما عندما يكون هذا الفائز تابعاً لزعيم من غير طائفة، كسمير جعجع. 

أما القوى التغييرية، فقد حققت الهيجيمونيا -أي الهيمنة الثقافية، بالمعنى الذي حدده الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي- من خلال خطابها وأدبياتها، لا سيما ضمن البيئة السنية في دائرة بيروت الثانية، ما خولها الحصول على عدة مقاعد نيابية فيها، وهذا إنجاز لا يمكن التقليل من أهميته. 

ولكن الفولكغايست، أي "روح الشعب" (بالمعنى الهيغيلي للتعبيرـ نسبة للفيلسوف الألماني هيغيل) السائد ضمن الطائفة السنية، سيما في بيروت، فيبدو أنه ما زال مع سعد الحريري، وقد تجلى بصمت العدد الأكبر من الناخبين السنة، هذا الصمت الذي كان هادراً خلال اليوم الانتخابي الطويل. والمقصود هنا ليس المقاطعة ولا الداعين إليها من تيار المستقبل، بل المقصود هو كل من لم يشارك بالاقتراع ليس التزاماً منه بقرار المقاطعة، بل لعدم اقتناعه بالعرض السياسي المقدم من كافة المرشحين والذي لم يستطع أن يحل حتى الآن محل العرض السياسي الحريري التقليدي، أو أن يملأ الفراغ السياسي الذي تركه الحريري بعد عزوفه.

هذا ما تقوله نسبة المشاركة التي تبقى منخفضة في مجموع دوائر الثقل السني، بالإضافة إلى شرذمة النواب السنة المنتخبين، وعدم قدرة أي قوة سياسية سُنية على حصد كتلة نيابية وازنة توازي ما كانت عليه كتلة المستقبل. 

انكماش حزب اللّه ضمن بيئته الطائفية 

أما حزب اللّه، فصحيح أنه استطاع، مع حليفته حركة أمل، الحفاظ على ثقل تمثيلهما ضمن الطائفة الشيعية، ولكنه من جهة أولى لم يستطع، رغم كل محاولاته الترهيبية قبيل الانتخابات وأثنائها، الحؤول دون خرق بعض المرشحين التغييريين في مناطق سيطرته، ومن جهة ثانية فقد أصبح ثقله النيابي محصوراً ضمن الطائفة الشيعية فقط، بعكس الدورات السابقة حين كان لحليف حزب اللّه المسيحي، أي التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، الصدارة في التمثيل المسيحي.

إن تقلص عدد نواب التيار الوطني الحر في هذه الانتخابات يضر بقوة حزب اللّه داخل مجلس النواب ويحجمها، كما يرفع، ولو نسبياً، الغطاء المسيحي عنه، لاسيما أنه قد أصبح لخصمه اللدود في الشارع المسيحي، أي القوات اللبنانية، الكتلة المسيحية الأكبر في المجلس.

بالمحصلة، هو مجلس نيابي بقوتين أساسيتين متخاصمتين، على أقصى طرفي نقيض الحياة السياسية، أي حزب اللّه والقوات اللبنانية، واللتين لكل منهما ارتباطاته الإقليمية (إيران/السعودية) المتناحرة فيما بينها على امتداد الإقليم، ومن ضمنه لبنان. 

ولكن لا أكثرية فعلية لأي فريق مما كان يعرف بـ8 و14 آذار في المجلس النيابي الجديد، تخوله التحكم وَحده بالمجلس النيابي الجديد وقراره. 

أما الخاسر الأكبر في المجلس الجديد، فهو الوسطية والاعتدال السياسي الحقيقي (ليس بمعنى التنازلات الذي دأب عليها الحريري وتياره)، وهي أمور تبدو غائبة في المجلس الجديد، لا سيما بوجود قوتين طائفيتين أساسيتين ستتصارعان داخله. 

لعل النواب التغييريين يشكّلون قوة اعتدال مبدئي وخطاباً عقلانياً حقيقياً في الوسط، بعيداً عن سياسة التحالفات "على القطعة" التي تتبدل حسب المصالح، والتي من المرجح أن يعود إليها النائب السابق وليد جنبلاط من خلال نوابه الحاليين داخل المجلس النواب. 

ولكن عدد النواب التغييريين القليل نسبياً بالمقارنة مع العدد الإجمالي للنواب، وبالنسبة لعدد نواب كل من المعسكرين المتخاصمين على طرفي نقيض المشهد السياسي اللبناني (حزب اللّه والقوات)، بالإضافة إلى نقص الخبرة السياسية لديهم، لن يكونا عامل قوة لتخويلهم لعب هذا الدور الوسطي، خصوصاً إن لم يوحدوا قواهم داخل كتلة نيابية واحدة داخل المجلس، وبقوا مشرذمين.

أما الأهم، فهو أن الامتحان قد بدأ الآن لجميع النواب، لا سيما للكتل التي تم التصويت لصالحها من باب معاقبة الأحزاب التي كانت مشاركة في السلطة في السنتين الأخيرتين، أي بعيد بدء الانهيار الكبير في خريف 2019. سيكون أول امتحان مع انتخاب رئيس لمجلس النواب، وتشكيل حكومة جديدة، بعد أن أدت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مهمتها الأساسية بإجراء الانتخابات النيابية، وقد نجحت نسبياً في ذلك، رغم الشوائب الكثيرة التي تخللت العملية الانتخابية.

ستكون كتلة القوات اللبنانية تحت أنظار المجتمع المسيحي الذي سيراقب إن كانت على قدر الثقة التي منحها إياها. أما مرشحو قوى التغيير (المجتمع المدني)، فقد أصبح جزء معتبر منهم اليوم مشرعين داخل الندوة البرلمانية، ما يخولهم التأثير المباشر على مجريات السياسة اللبنانية، ومحاولة التغيير الذي وعدوا به ناخبيهم الذين سيراقبون، بدورهم، مدى موافقة أداء نواب التغيير للوعود التي قطعوها للبنانيين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد