اغتيال مراسلة الجزيرة في فلسطين، الزميلة شيرين أبو عاقلة، شكَّل الحدث الأبرز الذي اهتزت له الضمائر الحية في العالم، لبشاعته ودلالاته وتداعياته، وكانت جنازتها بمثابة الحدث الذي غطَّى حتى على رحيل رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وغطى على الحرب في أوكرانيا لأيام، لكن بالمقابل كشف عن جبن وخذلان أنظمة عربية مطبعة، لم تقوَ على تقديم التعازي، فما بالك بالتنديد بالجريمة المزدوجة للاحتلال الإسرائيلي في حق الإنسانية. الجريمة الأولى كانت عند إعدام الصحفية شيرين رمياً بالرصاص، والثانية عند قمعت سلطات الاحتلال مسيرة تشييع جثمان الفقيدة في مشاهد أخرى صادمة، انتقدها الإسرائيليون والأمريكان وحلفاؤهما، لكنها لم تحرك مشاعر أنظمة عربية مطبعة، بل مطيعة، لم تتردد قبل أيام في التنديد بالعمليات الفدائية التي يقوم بها الفلسطينيون دفاعاً عن وطنهم وكرامتهم وحقهم في الوجود.
بعضهم لم يكتفِ بالصمت، بل راح في البداية يتبنى الرواية الإسرائيلية التي تُشكك في هوية القاتل وتتهم الفلسطينيين بقتلها، قبل أن يتراجعوا بعد أن اعترفت حليفتهم وسيدتهم إسرائيل، وراح البعض الآخر من جهة أخرى يخوض في عقيدة الفقيدة وديانتها، وجواز الترحم عليها من عدمه، واعتبارها شهيدة أم ضحية، عوض التركيز على كونها إنسانة، وعلى صفتها الصحفية، وجنسيتها الفلسطينية وهويتها العربية، والتركيز على التنديد بالمجرم الذي لا يفرق بين الفلسطيني المسلم والمسيحي، ولا العربي والأعجمي، ولا يفرق حتى بين المقاوم والمطبع، ولا يكتفي بقتل الفلسطيني، بل ينغص عليه مراسم دفنه.
كل ذلك وقع عشية ذكرى النكبة التي تصادف إعلان قيام دولة إسرائيل بعد قتل وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين سنة 1948، وتتوالى النكبات بعد ذلك، وتتوالى الثورات والانتفاضات والتضحيات الجسام لشعب يرفض الاستسلام جيلاً بعد جيل.
شيرين قُتلت مرتين، لكنها لم تمُت، بل كشفت مجدداً عن الموت المتكرر للأحياء من العرب، وهم على قيد الحياة، يتنفسون الذل والهوان ولعنة شعوبهم والبشرية جمعاء، ليس فقط بصمتهم، بل بدعمهم لكيان غاصب وظالم، يستثمر أيضاً في الصمت العربي والدولي، فيتجرأ على مزيد من العدوان والتقتيل والتهجير لشعب يعاني منذ 74 عاماً، لكنه لم يستسلم، بل أصبح هو أمل الأمة والمنقذ لها، وهو الحاجز الذي يحول دون انقضاض إسرائيل على ما تبقى من هذه الأمة، بعد أن تغلغل في أوساط الأنظمة المطبعة، التي بلغ بها الهوان درجة اعتبار إسرائيل صديقة وحليفة خوفاً منها، وطمعاً في رضا حليفتها أمريكا، التي تمكنت من فك الحصار على إسرائيل، وزيادته على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة على حد سواء.
اغتيال شيرين أبو عاقلة والاعتداء على جنازتها سيشكل نقطة تحول كبيرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونقطة تحول أخرى لتلك الصورة النمطية التي كانت تعتبر الإنسان الفلسطيني إرهابياً ظالماً، والإسرائيلي مسالماً ومظلوماً. وحتى تلك التي أريد لها أن تصور المطبع خادماً لمصلحة الفلسطينيين انكشفت أيضاً، وتبين أنها عملية استسلام وليست سلاماً، ستنعكس على أصحابها سلباً، بعد أن تبيّن لشعوبها ونخبتها الخيط الأبيض من الأسود، وتبين للفلسطينيين أن عليهم الاعتماد على أنفسهم، والتركيز على وحدتهم من خلال بلوغ المصالحة الوطنية بين كل مكونات المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، حول مشروع موحّد يخدم غاية واحدة، هي تحرير الأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية.
ودعت أمواتا يعتقدون أنهم على قيد الحياة، ودعت أموات الضمائر والنفوس من العرب والعجم المطبعين والمتواطئين، وبقيت حية في نفوس وعقول أحرار العالم الذين سيدرسون شجاعتها وبطولتها على مدى ثلاثة عقود كمراسلة، كانت فيها رسالتها الإعلامية بطولة، وسقوطها في ميدان الشرف بطولة، وجنازتها أيضاً بطولة، لم يحظَ بها الملوك والأمراء والرؤساء، فعاشت بطلة وماتت بطلة، لكنها لم ترحل لأنها اختارت الصحافة كي تكون قريبة من الإنسان، رغم إقرارها بعدم قدرتها على تغيير الواقع، لكنها على الأقل تمكنت من إيصال ذلك الصوت إلى العالم، وهي المقولة التي تركتها تدرس في معاهد الإعلام وكل مدارس الحياة لكل الأجيال، عوض اعتماد صيغة الخبر المبني للمجهول للتعتيم على الجاني، مثلما فعلت بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية للأسف في تغطيتها للجريمة.
الإسرائيليون اعتقدوا أنهم قتلوا صحفية فلسطينية عربية كانت تكشف جرائمهم كل يوم في فلسطين، لكنهم قتلوا في أنفسهم ما تبقى من إنسانية، وقتلوا في نفوسنا ما تبقى من احترام لبعض الأنظمة العربية، وقتلوا أيضاً كل رغبة وإرادة في العيش بسلام على أرض السلام، فأحيوا بذلك روح المقاومة والنضال والكفاح في نفوس أحرار العالم، لتقديم مزيد التضحيات في سبيل تحرير وطن ليس ككل الأوطان، وشعب ليس ككل الشعوب، لدرجة أننا صرنا نحمد الله على وجود فلسطين؛ لأن شعبها هو الذي سيُحرر الأمة من ذلها وهوانها وبعض حكامها المتصهينين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.