شهر يونيو/حزيران القادم ونهاية اتفاق جنيف- أو بالأحرى- خارطة الطريق التي أُعدت في تونس من قِبل منتدى الحوار السياسي الليبي، واستناداً على مؤتمر برلين يناير/كانون الثاني 2020، وبهذا يصبح الوضع السياسي في ليبيا حرجاً لأبعد الحدود؛ إذ إن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة تتمترس في إقليم طرابلس، بينما تسيطر الحكومة الليبية برئاسة باشاغا على ما تبقى من البلاد بإقليمي برقة وفزان وأجزاء من إقليم طرابلس.
باشاغا حاول الوصول إلى مبنى طريق السكة (مبنى الحكومة في طرابلس)، لكنه فشل رغم تمتعه بشعبية ليست بالبسيطة وتنسيقٍ مع قوى عسكرية وسياسية وأمنية في طرابلس، إلا أن خشيته للانجرار للعنف نظراً لرفض قوات تتبع الدبيبة فكرة دخوله إلى طرابلس وإقصاء حكومة الوحدة الوطنية حال دون تحقيقه لمبتغاه وجعل جلسة الحكم معلقةً دون الوصول إلى قرار نهائي في القضية.
مع اقتراب الوصول إلى شهر يونيو/حزيران ونهاية مدة اتفاق جنيف، يخشى باشاغا وأنصاره أن يتم التمديد لحكومة الوحدة الوطنية كما حدث لحكومة السراج التي كانت مدتها سنة واحدة تحولت إلى 5 سنوات، أو عمر البرلمان الذي يمدد لنفسه دون توقف، أما على صعيد حكومة الوحدة وأنصارها فهم من الواضح أنهم عاجزون عن إقامة انتخابات نيابية، فيما عرف بمشروع عودة الأمانة، وأصبح مصيرهم مجهولاً لا يمكن التكهن بما يصير إليه، فالوحدة الوطنية لا تمتلك المال ولا تمتلك اعترافاً سياسياً حاسماً إلا من الجزائر، بينما انقسمت كل المواقف المحلية والدولية بين الطرفين.
البرلمان ومجلس الدولة يجتمعان في القاهرة لإقرار قاعدة دستورية وفق تباين كبير، فيرى مجلس النواب أن الانتخابات تكون رئاسية ومن ثم برلمانية، بينما يرى مجلس الدولة أن الأهمية والأحقية هي لانتخابات برلمانية من مجلس نواب ومجلس شيوخ؛ الأول في بنغازي والآخر في طرابلس، حتى لا يحتكر القرار النيابي بناء على القوى العسكرية أو التجاذبات السياسية، بينما تسعى البعثة الدولية جاهدة لرعاية هذا الحوار وفق انقسام حاد بين الخمسة الكبار في مجلس الأمن، ورفض سياسي محلي نسبي لدور المستشارة الأممية ويليامز التي لا تتمتع إلا بصفة مستشارة الأمين العام، وإن كانت تحظى بدعم أوروبا وبريطانيا والولايات المتحدة.
ويليامز أحبطت الاعتراف بحكومة باشاغا، ودخلت تحدياً مع توافق ليبي حدث في ظروف صعبة، لا مبررات واضحة لما قامت به إلا استمرار تسلط البعثة على القرار الليبي، وتنصيب مجلس رئاسي جديد، وفق ما ترى وما يتناسب مع هواها، مع استمرار الفرقة وتوسع الهوة بين المجلسين التشريعيين والقوى العسكرية والسياسية على الأرض، فتحاول جاهدة رعاية انتخابات لم نعرف حتى هذه اللحظة أي الحكومتين ستجريها، وإن كان حل الحكومتين موجوداً فلماذا تم استبدال فائز السراج (حكومة الوفاق) وعبد الله الثني (الحكومة المؤقتة) بحكومتي باشاغا والدبيبة وبينهما ما بينهما من اختلاف وتنازع.
حكومة باشاغا تسعى للحصول على الميزانية، وهذا الأمر قائم بشكل كبير؛ مما سينتج عنه انفضاض أنصار الدبيبة عنه، خاصة أن باشاغا يمتلك النفط والبرلمان والمؤسسة الوطنية، ويستطيع بواسطة حليفه عقيلة صالح (رئيس مجلس النواب) أن يتحكم في دور الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي، والتنسيق مع الأمريكان بهذا الخصوص، بينما يتجنب إراقة الدماء بشكل كبير، فرصاصة واحدة قد تشعل فتيل الحرب، وبالتالي يصبح التنازع مسلحاً، وقد تتغير خارطة الشعبية والحلفاء إلى أن تنتهي الأمور بحوار يعقب الحرب، كحوار الصخيرات أو جنيف 2021، وهذا ما سينهي حظوظ باشاغا في التسلم السلس للسلطة.
الموقف الدولي، بحسب ما يظهر من تصريحات رسمية، من الصعب أن يتكهن به المرء، لكن زيارات باشاغا لتركيا مؤخراً أذابت كثيراً من جليد العلاقات، بعد تشكيل الحكومة ومحاولته دخول طرابلس، إذ إن ما رشح عن معلومات تفيد بأن تركيا تريد توازناً في الحكومة بواسطة تعيين شخصيات بعينها، إضافة لوضع الاتفاقية الأمنية التجارية، ووضع المجلس الرئاسي، واستمرار التعاون العسكري مع طرابلس، والتمدد والعمل في شرق ليبيا دون قيود، وتطبيع العلاقات مع برقة وفزان، وهذا ما يعمل عليه سفير أنقرة في طرابلس، ناهيك عن أن تركيا من غير المنطقي أن تدعم خيار الانتخابات؛ لأنه لا يوجد عاقل من اللاعبين الدوليين مستعد للمقامرة بانتخابات قد توصل شخصيات جديدة لحكم ليبيا، والمقامرة دون ضمانات، حيث إن تسويق الدبيبة أصبح صعباً، فبالتالي فإن قبول حكومة باشاغا مع تعديل حكومي سيكون الأقرب للأتراك، لأنه مهما بلغت قوتهم فمن الصعب مجابهة تيار دولي ضاغط نحو إحداث تغيير في ليبيا، أو معالجة انسداد سياسي سيكون وراءه مصر والسعودية عربياً، وفرنسا والولايات المتحدة دولياً.
الولايات المتحدة تدعم خيار الانتخابات في العلن، لكنها تهتم بإخراج فاغنر أولاً، ولا تحاول جر إقليم طرابلس للعنف؛ لأنه امتدادها التاريخي، ولن تفرط فيه مهما كلفها هذا الأمر، وإذا رأيت أن أمريكا متواجدة في الحسكة في سوريا رغم امتلاك بشار الأسد حليف روسيا مقاليد الحكم، إلا أنها تناكف روسيا بتواجد هناك دون أن تترك الساحة، فما بالك بإقليم طرابلس تَرِكَتها الحقيقية من اجتماع يالطا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ربما لا تفضل الولايات المتحدة حكومة على أخرى رغم إذعانها بمناطق نفوذ باشاغا الأكثر والأكبر والأنجع، وإدراكها أنها لم تختبره في جدية إقامة انتخابات، وأنه بإمكانها منحه الفرصة، لكنها تعلم صعوبة فرض حكومة ثالثة في ظل انقسام مجلس الأمن والتوتر مع روسيا وعدم إمكانية إقناع الأطراف الفاعلة بقبول الحكومة الثالثة؛ لأنها لن تمثل بطريقة كافية، وهذا ما حدث للدبيبة وبشكل أقل باشاغا، فوصل إجمالي وزراء الحكومة لما يفوق الثلاثين وزيراً، مع اعتراض بعض التيارات السياسية والعسكرية على عدم وجودهم في التشكيلة، وهذا ما فشل تحديداً في مقترح إيطاليا قبل جنيف بدمج حكومتي السراج وحفتر في حكومة واحدة، والمضي نحو استقرار هش بالقياديين، وهذا ما اتفق عليه الاغلبية ليذهبوا لجنيف للتنافس السياسي هناك.
ستكون الأسابيع القادمة مشتعلة مع سخونة الطقس في صيف ليبيا، قد نرى حرباً وتفككاً داخل المعسكرات، ومن ثم فتح باب الحوار الذي لن يكون في صالح الرافضين للتوافق اليوم، وقد نرى انسحابات لحكومة الوحدة الوطنية بعد نفاد المال وتحوله نحو حكومة باشاغا، ودخول ناعم للحكومة لطرابلس، كما دخل السراج في 2016، أو استمرار سيناريو الانقسام والهلامية الذي لن يطول وسيتحول إلى أمل بحسم عسكري كما حدث سنة 2019، لكن إذا ما تمكن باشاغا من تسويق ملف التطبيع التركي المصري عبر الحكومة الليبية، فقد يعتبر أخذ بطاقة الحظ للعب دور كبير يمكنه من تحقيق استقرار وهدوء في ليبيا، وإعادة العلاقات الاجتماعية التي تأثرت نتيجة الاستقطاب والنزاع، وأهداف أخرى قد تصب في صالح رغبات الولايات المتحدة في ليبيا ومصر وتركيا وغيرهم من الفاعلين، حتى يذوب دورهم مع الأيام، وفق أي متغيرات دولية قاسية تترتب على ما يجري الآن في أوكرانيا، أو بين الصين والولايات المتحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.