أعادت لي مشاهدة تحقيق صحفي، قدمته قناة دويتشه فيله (DW) الألمانية، عن تأثير تجارة العقارات العالمية سلباً على توفر السكن للطبقات المتوسطة والفقيرة؛ أعادت فكرة الكتابة عن موضوع الشركات العقارية الضخمة، والدور الإيجابي والسلبي الذي تلعبه هذه الشركات فيما يتعلق بأمر يعد واحداً من الحقوق الأساسية للإنسان، وكان، حتى وقت قريب، أحد الواجبات الأساسية للحكومات، قبل أن يتسبب اندحار المعسكر الاشتراكي في تقلص حقوق المواطنين في الحصول على سكن على حساب شركات العقارات التي تمثل الجانب المتطرف في الرأسمالية.
التحقيق الذي كان الطرف الرئيس فيه المحققة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الحصول على سكن لائق Special Rapporteur on the right to adequate housing، المحامية الكندية ليلاني فرحه Leilani Farha، يكشف عن أنه في مقابل تراكم عائدات شركات العقارات، أمسى السكن في مدننا باهظ الثمن بصورة لا يمكن معها للجميع تحمّل كلفته. ويقودنا التحقيق إلى مدن مثل العاصمة البريطانية لندن، لنرى كيف أن 80% من المساكن في حي بادنغتون (Paddington)، الذي يجاور حديقة هايد بارك الشهيرة، فارغة. والسبب في خلو هذه المساكن يعود الى أن غالبية الملاك هم من الأجانب أو الأثرياء الذين يشترون هذه الوحدات السكنية لغرض المضاربة أو حفظ الأموال، أو غسيلها.
المقررة الخاصة للأمم المتحدة تنقلنا، خلال التحقيق، إلى مدينة نيويورك لتوضح للمشاهد كيف أن حي هارلم الشهير بغالبية سكانه من السود الفقراء، تحوّل جزء كبير منه، بسبب شركات العقارات، إلى حي يعج بالوحدات السكنية الجديدة "الشقق" التي لم يعد بوسع سكان الحي من الفقراء شراءها بسبب غلاء أسعارها. ويضرب التحقيق مثالاً بشركة Fairfield المتعددة الجنسيات المتخصصة في العقارات، والتي استحوذت على أراضي فقراء الحي وأقامت عليها 1700 وحدة سكنية بأسعار للبيع والإيجار لا يستطيع معها سكان الحي سوى الرحيل.
وينقلنا التحقيق إلى مدن مثل أبسالا في السويد، لنشاهد كيف تسيطر شركات عقارية مثل شركة (Black Stone) على سوق العقار، ثم إلى مدن أوروبية أخرى مثل برشلونة في إسبانيا، وميلان في إيطاليا، لنرى الشيء نفسه يتكرر، مع جني شركات العقارات لأرباح خرافية على حساب محدودي الدخل من الطبقات العمالية، الذين تقضي رأسمالية الشركات متعددة الجنسيات تدريجياً على أحلامهم في الحصول على سكن لائق. أو تجبرهم، في أحسن الأحوال، على الرحيل إلى مناطق أخرى، أو إنفاق رواتبهم الضئيلة في الإيجارات بعد أن كانوا أصحاب أملاك متواضعة.
التقرير يلفت أنظار المشاهد إلى نقطة مهمة، وهي أن شركات الأسهم العقارية تملك أموالاً تثير ضخامتها الشكوك. ويلفت إلى نقطة أخرى، وهي أن صناديق المعاشات التقاعدية، مثل الصندوق الكوري الجنوبي للمعاشات التقاعدية (NPS)، وهو ثاني أكبر صندوق من نوعه في العالم، يساهم في عملية تجارة العقارات، التي تساهم في عملية نزع الأراضي من المواطنين وتمليكها لهذه الشركات، أو الصناديق التي ينقلب عملها من توفير السكن للمواطنين إلى تجارة عالمية يصعب معها على مئات الملايين من المواطنين الحصول على سكن.
وللتعرف على حجم تجارة العقارات تكفي الإشارة إلى أن قيمة الاستثمارات في القطاع الخاص من قبل صندوق المعاشات التقاعدية في كوريا الجنوبية وصلت في عام 2020 إلى 101 مليار دولار، بزيادة قدرها 0.9% عن العام السابق.
ولزيادة دهشة القارئ أجد أنه يتوجّب عليّ الإشارة إلى أن قيمة تجارة السكن في العالم تصل إلى 163 تريليون دولار أمريكي. وهو ما يحوّل أمر الإسكان إلى تجارة وليس حقاً مشروعاً للجميع، مثله مثل الطعام والعلاج والتعليم.
التحقيق الصحفي الجريء الذي أجرته القناة الألمانية يكشف كيف أن الطبقات العاملة، التي تسكن في أرقى أحياء لندن، فقدت أماكن سكنها تدريجياً بسبب الضغوط التي تمارسها شركات العقارات الضخمة، والتي تستثمر في أبراج ومجمعات سكنية تباع للأثرياء الأجانب القادمين من سنغافورة أو الصين أو الهند أو دول الخليج. وكما ذكرنا سابقاً تصبح غالبية المساكن خالية بسبب أن الغرض من شرائها لم يكن السكن، وإنما الاستثمار أو غسيل الأموال أو الادخار في أفضل الأحوال. وهو ما يخلق ظاهرة مدن الأشباح Ghost Cities.
ظاهرة مدن الأشباح تقودنا إلى تجارة العقارات في الصين، وهي تجارة تشير الإحصائيات إلى أنها تمثل ما يقارب 30% من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد؛ حيث أسهم توفر مواد البناء، مثل الحديد والإسمنت، والعمالة الماهرة، والسيولة النقدية، والسياسات الحكومية، خلال العقدين الماضيين، في تطوير تجارة العقارات بصورة لا يمكن رؤيتها في أي بلد آخر في العالم؛ حيث توفرت الشقق السكنية لدرجة برزت معها ظاهرة مدن الأشباح للعيان في مختلف أنحاء الصين.
الجيد في الأمر أن أزمة فيروس كورونا، والسياسات التي اتخذتها الحكومة المركزية في بكين خلال العام الماضي، أسهمت في تخفيف سياسة الاستثمار العقاري التي توسعت بشكل مهول في الصين برعاية شركات عملاقة مثل إيفرغراند Evergrande، ولتقليص التوجّه الكبير نحو الاستثمار في العقارات، والذي يجعل من العقارات مجالاً للعيش وليس للاستثمار، أدخلت الحكومة الصينية سياسة "الخطوط الحمراء الثلاثة" في أغسطس/آب 2020، وهي سياسة تهدف إلى وضع حد أقصى لنسب المسؤولية عن الأصول، وصافي المديونية، والنقد على الديون قصيرة الأجل.
ويكشف تقرير لموقعNippon الياباني عن أن الصين عززت هذه السياسة في يناير/كانون الثاني 2021 بوضع حد أقصى للنسبة المئوية لإجمالي القروض التي يمكن أن تقدمها البنوك لقطاع العقارات. كما قامت الحكومة الصينية بتطبيق لوائح إقراض صارمة لتهدئة سوق العقارات المتضخم في عام 2021، بهدف كبح المضاربة على وجه الخصوص. ومع ذلك، كان الضغط الناتج على التدفق النقدي للمطورين جنباً إلى جنب انخفاض الاستثمار العقاري عاملاً محفزاً في أزمة التخلف عن سداد الديون التي واجهتها مجموعة إيفرغراند خلال عام 2021، والتي وصلت إلى 300 مليار دولار.
تقول الأمم المتحدة: إن أكثر من 1.8 مليار شخص يعيشون في مستوطنات عشوائية، أو مساكن غير لائقة، ولا يتمتّعون إلاّ بإمكانية وصول محدودة إلى الخدمات الأساسية، مثل المياه وخدمات الصرف الصحي والكهرباء. ويشير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالمنظمة إلى أنه "جرى الاعتراف بالسكن اللائق بوصفه عنصراً من عناصر الحق في مستوى معيشي مناسب في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والمادة 11.1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966".
وتشير الأمم المتحدة إلى أن الحق في السكن اللائق يشمل عدداً من الحريات؛ منها: حماية الفرد من عمليات الإخلاء القسري، وحق الفرد في عدم التعرض للتدخل التعسفي في مسكنه وحياته الخاصة وشؤون أسرته؛ وحق الفرد في اختيار محل إقامته وفي تحديد مكان عيشه وفي حرية التنقل. لكن السياسات التي تتبعها شركات العقارات في غالبية مدن العالم الكبرى، بمساعدة الحكومات، تعمل على تشريد الملايين الذين يجبرون على الرحيل بسبب جشع رأس المال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.