لماذا يكرهنا الغرب لهذه الدرجة؟ قصة الأميرة الإيطالية التي أحبت العرب والمسلمين فعاقبوها

عدد القراءات
2,044
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/16 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/16 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش
لأميرة الإيطالية فيتوريا دي ألياتا

اكسروا الأقلام وأطفئوا الكاميرات واستعدوا لحفلات القتل فما من أحد يراكم.

لقد فهمت كل شيء بالتقريب عندما التقيت الأميرة الإيطالية فيتوريا دي ألياتا، التي دُفعت لاعتزال الصحافة منذ حرب الخليج الثانية.

ظلت هذه الكاتبة التي تتقن قرابة عشر لغات، بينها العربية، تؤسس لـ"جسر تفاهم" ممدود بين الغرب والشرق، بحكم أنها من جزيرة صقلية، التي عرفت المسلمين والنورمان الأوروبيين، أولئك الذين تعايشوا مع بعض منذ حادثة التسليم الشهيرة في 1131، ولا تزال تلك الحادثة مخلدة بلوحة فنية بحائط داخلي تحت قبة البرلمان الجهوي لصقلية، على مقربة من كنيسة لا شابال بلاتينا، التي تضم للمصادفة نقوشاً وزخارف إسلامية أنشأها حرفيون مسلمون، بطلب من النصارى النورمان في ذروة الحروب الصليبية، وفي غيابات القرون الوسطى.

لعل ذاك ما دفعها للتأسيس لاستشراق إيجابي، يترجم بأمانة وبلا خيانة نظرة الشرق وفلسفته الخاصة للآخرين، حتى لا يكون الآخرون جحيماً، مثلما حذر جان بول سارتر قبل عقود.

1/ عالم إسلامي عربي في قلب نظرية الكلب العقور

الأميرة الإيطالية فيتوريا
الأميرة الإيطالية فيتوريا دي ألياتا

كتبت فيتوريا، سليلة عائلة نابوليتانية عريقة، كتباً عن الحريم والعمارة الإسلامية، وحققت مبيعات خيالية، ثم إنها دوّنت الشرق بقلم نابض بالحب والتعارف رغم الفوارق والاختلاف، ورغم الفجوة الهائلة التي صنعها مُنظرو الغرب بين المركز والأطراف؛ حيث هم المركز والباقي أطراف.

كانت تعي أنها تسلك طريقاً شاقة، غالباً ما تطحن فيها حصادة السياسة حقول الثقافة، لتخلف المقبرة، وقد تأكدت تماماً أنه مضى ذلك الزمن الذي كان فيه النورمان حكام صقلية يديرون الجزيرة بقيم التسامح والتعايش، فأبقوا المسلمين من عرب وبربر في دواليب الحكم، حتى إنه لما ضرب زلزال مدينة باليرمو وتضعضع القصر، خرّ أحد مستشاريه ساجداً داعياً الله السلامة، ثم ارتد الساجد واقفاً لما باغته الملك في سجوده، فطلب منه الملك إكمال طقسه ذاك: "لا تتوقف، أكمل، ادعُ ربك بأن ينجينا جميعاً".

لربما كانت تنام على هذا الحلم قبل أن تصحو ذات عام على واقع مغاير، عندما قامت بترجمة كتاب "حضارة المتوسط"، وهو تأليف اعتمد على مخطوطات عبرانية، دوّنها اليهود أيام الفاطميين، وخُبئت في معبد بن عزرا بالقاهرة، قبل قرون، تحت مسمى وثائق الجنيزا، لتظهر بعد تهدم حائط وتخرج للعلن، وليلتقطها أستاذ جامعي أمريكي يهودي يدعى شلومو قوتاين، ناسجاً منها مؤلفاً عظيماً، هدم كل ما صنعه المخيال الغربي عن الشرق العنيف والمتخلف. 

وفقاً لتلك المعثورات، فقد عاش اليهود في حرية تامة أيام الفاطميين، ومارسوا حياتهم الدينية والتجارية دونما اضطهاد أو كراهية، وهذا ما لا تريده دور النشر التي رفضت إصدار ترجمة مدفوعة الثمن من الأميرة ألياتا.

لا أدرى لماذا توقفت فجأة عن الحديث حينما كنا نتجاذب أطراف الحديث في قصرها العائلي بباغيريا، لحظتها كانت حوامة تعبر فوق القصر، ففي هذا العالم صار كل شيء متوقعاً، فقبل أيام من لقائها وبينما كنت عائداً رفقة "سينو كاراباكابا"، مدير مهرجان تشاكا الدولي، من مطعم جبلي إلى المدينة، أوقفنا حاجز لشرطة الكارابانيري في نقطة متوارية لا يتوقعها أحد، فطلبوا منه وثائقه، وقدمت جواز سفري، وقد سمعت ذلك الضابط يرسل بياناتي عبر جهاز الإرسال، صاح سينو متعجباً: 

"هذه أول مرة يتم توقيفي في حاجز مراقبة منذ ثلاثين سنة"، فأجبته ضاحكاً: "لو لم أكن معك ما أوقفك أحد. من واجبهم التأكد من هوية الأشخاص الغرباء، أما إذا كان الأمر متعلقاً بصحفي يتجول في أرياف صقلية، فالأمر مثار ريبة في هذا العالم المليء بالهواجس والصراعات والإرهاب والحروب".

والأميرة فيتوريا قلم رصين غزير ودقيق، ينهل من رصيد متراكم من التجارب الشخصية والمهنية التي قضتها في دول الشرق المتوسط، ولم تكن تعتقد البتة أنها ستصبح في لائحة سوداء، إذ إن كل مقالاتها المرسلة للنشر بجريدة "لا ريبوبليكا" التي يديرها صديقها الصحفي الكبير ألدو مونتانيلي لن تعرف طريق النشر، حتى إذا ما اجتمعا معاً، تجرأ في أن يخبرها متحسراً:

– فيتوريا إنك في لائحة الممنوعين من النشر.

– لماذا؟ 

– جاء الأمر بمكالمة من وزير الخارجية وبطلب من حلف الناتو؟

– لماذا؟ 

فرقع ألدو حبة الرمان على الطاولة:

– يقولون إن كتاباتك تجعل الآخرين محبوبين.

نعم "الآخرون" هم الجحيم، على حد تعبير سارتر في فلسفته الوجودية، أما في واقع العلاقات الدولية، فهم كل أولئك الذين يملكون رؤية أخرى، وفلسفة أخرى، خارج حدود ومصالح الاتحاد الأوروبي، وخارج حدود الحضارة الغربية "الإغريقية الرومانية والمسيحية اليهودية".

ولا ضير هنا لأن تتحول النخب السياسية والإعلامية والأمنية، والتي لا تخجل من التذكير بتلك الأسس علناً وبلا وجل، إلى الاستعانة بأسلوب "الشيطنة"، ذلك العمل المدروس والممنهج، الذي يلصق بك كل ما هو سيئ، ويحرمك من كل ما هو إيجابي، فمن المقدر أن يبقى كل ما هو خارج تلك الدائرة يثير كراهية الآخرين، لا تذهب بعيداً كي تفهم السبب والمسبب، فثمة مثل فرنسي صميم يقول: "إذا أردت أن تقتل كلباً فقل إنه مصاب بالكلب".

2/ مالك بن نبي: التشويه عبر مرآتي الكف والحرمان

الأميرة الإيطالية فيتوريا

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حاول المهندس والمفكر الجزائري مالك بن نبي طرح فكرة بناء عالم الآخرين، وقد كاد يتبلور في مؤتمر باندونغ عبر رباط الفكرة الأفروآسيوية، الممتد من مراكش إلى جاكرتا، مقترحاً نموذج كومنولث إسلامي متفتح على آسيا في إطار موسع لحضارة الشرق، شبيه بالكومنولث البريطاني، حتى لا يكون هذا العالم "لقيطاً" في محفل الأمم، التي لا تتورع عن تطبيق نظرية الكلب العقور، أو نظريات مرآة "الكف" ومرآة "الحرمان"، وهي كل تلك الطرق الخبيثة والماكرة التي تكف عنك الإشعاع وتحرمك من الإيجابية، وتسعى للتشويه مركزة على مساوئك مضخمة إياها، بشكل قد تعتقد معه كما كان يردد غوبلز: "اكذب ثم اكذب حتى تصير الكذبة حقيقة".

وأحياناً يطبقون نظريات "السبين دوكتور"، التي طبقتها مؤسسة أمريكية مساعدة للجيش الأمريكي، بهدف التأثير في الأحداث، من خلال التدوير الذكي وغير المروّع  للخسائر الجانبية لغزو العراق، كأن تتوقع تلك المؤسسة الإعلامية للناطق العسكري حزمة الأسئلة المحرجة وكيفية الخروج من مطباتها الأمنية والسياسية، حتى إذا ما سقطت قذيفة أمريكية في حي سكني ببغداد وأردت العشرات قتلى، وقف ذلك الناطق ليقول في مؤتمره الصحفي: "نعم سمعنا الخبر، ليست لدينا معلومات دقيقة حول الموضوع، نحن ننتظر نتائج التحقيق، هل من سؤال آخر؟"، أو كأن يبادر صحفي مضمن ومقرب باستهلال الندوة بالسؤال المنتظر، حتى يتم الرد عليه بصورة مقتضبة، تفادياً لإعادة طرحه من صحفي مستقل ومشاكس مثل ديفيد هيرست أو الراحل روبرت فيسك أو من على شاكلتهما، فيتحول الجدل واللجج والحجاج إلى موضوع قد يفوق في ضجيجه ما تسعى تلك المؤسسات الوصية على الخطاب المرسل إلى حشره بين دفتي كتاب "قانون الصمت".

وعى بن نبي، منذ زمن بعيد، أن الأمر متعلق بالصراع الفكري؛ لذا كان مؤلفه تحت عنوان "الصراع الفكري في البلدان المستعمرة"، لون الحروب التي لا لون لها، تشبه مسرح الظلال الذي يملي على العرائس مسارات وحركات واتجاهات يتلقاها المشاهد، ولا يعرف سرها سوى مُحركي الخيوط غير المرئية. 

3/ شيرين أبو عاقلة: الجثة المطوّقة لمنع الصدى الدولي

الأميرة الإيطالية فيتوريا

لذا لا تتعجب أن ترى جرائد ومواقع غربية استهلت خبر مقتل شيرين أبو عاقلة بكلمات لا هوية لها، مثل "وفاة"، الوفاة برصاصة اخترقت العنق وتحاشت بدقة الخوذة وسترة الصحفية، لكن من سوء الحظ أنها كانت جثة غير استثنائية، فهي صحفية بارعة ومعروفة وتعمل بقناة الجزيرة، إحدى أكبر القنوات تأثيراً، وتلك الصورة بالتحديد ستنفخ الروح في 357 قتيلاً فلسطينياً، و384 صحفياً معتدى عليه على مدار العام الماضي، في خضم حرب مصغرة تدور رحاها خلسة عن الجميع؛ كي لا تذكر بالصورة المشهدية الكاملة، صورة شعب يعيش تحت سلطة احتلال، وما سيفرضه من متغيرات على سياسة إحلال السلام وعربة التطبيع، التي قد تتعثر عجلاتها المتزلجة تحت شلالات الدماء.

وأما التصريحات الغربية فقد اصطبغ لونها بلون البياض، مثل: "نشعر بحزن عميق" أو "نطالب بإطلاق تحقيق عميق وفوري"، و"ما تعرضت له جنازة شيرين أمر مقلق"، أي تلك اللغة القريبة من الشاعرية والإنسانية شبيهة "بالأكل مع الذئب، والنباح مع الكلب، والبكاء مع الراعي"!

فهي تنعى القتيلة بالعبارات الأفلاطونية الرنانة والمؤثرة، ميلاً مع موجة التعاطف، ومسكاً للعصا من المنتصف دون أن تجرؤ على القفز لنهاية رأس العصا؛ حيث الإشارة للمسؤول السياسي والعسكري والدولي عن كل ما يجري هناك، وهناك اسم إشارة مهمل التفاصيل لا يشبه بحال من الأحوال "أوكرانيا"، كما لو أنه لا أحد يريد أن تنتقل الكاميرات من أوكرانيا إلى هناك؛ إذ ليس مهماً ما يقع خارج المركز، وما تصير له الأحداث على الأطراف، فما يشاهده العالم سوى صور تعرض إسرائيليين لحرب سكاكين وإطلاق نار في الشوارع، أما أكثر من ثلاث مئة ضحية ينتمون لعالم "غير المحبوبين" فلا صور لهم على الإطلاق.

ويذكر هذا أشد المتورمين بؤساً، برواية "الغريب" لألبير كامو، الذي ينقل في روايته التي نالت جائزة نوبل، عالماً استعمارياً وكولونيالياً شبيهاً بفيلم "الدولشي فيتا"، حيث الحياة الماتعة والرائقة للناس، دونما التنبيه لأنهم سكان معمرون مرسخون بقوة قاهرة في أرض أخرى، فيما يصف الضحايا "العرب" بلا اسم  ولا هوية ودون قضية؛ لأنهم الأغراب ولأنهم "الآخرون" أو "الجحيميون" الذين لا يعيشون في أرضهم بل يموتون فيها..

منذ حادثة إعدام شيرين، باتت قنوات غربية عديدة تعرض بصورة متتالية أفلاماً تذكر بإبادة اليهود على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكأنها لا تريد بإملاء خفي أن يتوزع تعاطف الرأي العام الغربي الذي تهزه أحداث القتل والعبث بالتوابيت إلى أولئك الذين يراد لهم أن يبقوا في دائرة "غير المحبوبين"، الواقعين في قلب صراع فكري ناعم في الشكل، عنيف في المضمون السلبي، كما لو أنها جريمة خنق بقفازات من حرير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد