استيقظ العالم في صبيحة يوم الأربعاء 11 مايو/ أيار الجاري على خبر استشهاد مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة الفلسطينية على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية خلال اقتحامها لمخيم جنين. اعتدنا نحن كفلسطينيين على سماع أخبار الشهداء اليومية، ولكن هذا الخبر نزل كالصاعقة على رؤوس الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، أصبح خبر الاستشهاد في الأراضي الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية، خبراً روتينياً في الآونة الأخيرة؛ نظراً إلى سيولة العنف الذي يمارسه جيش الاحتلال ومستوطنوه واستسهالهم قتل الفلسطينيين دون أن يتعرضوا لأي عقوبة أو ردع.
وفي هذا الإطار تحاول الدعاية الإسرائيلية رسم صورتين متناقضتين للواقع الفلسطيني، صورة قطاع غزة الغارقة في الدمار والقتل والحصار، وصورة الضفة الغربية التي تتمتع بالاستقرار والتسهيلات الاقتصادية التي يقدمها الاحتلال. ولكن هذه السردية التي تفند نفسها بنفسها، لا تتطابق مع الواقع ألبتة، فلو نظرنا مثلاً إلى عدد الشهداء خلال العام 2021 عام معركة سيف القدس، لوجدنا أن عدد الشهداء في قطاع غزة بلغ 257، بينما كان عددهم في الضفة الغربية والداخل 100 شهيد، ما يشير إلى أن سياسة القتل الإسرائيلية لا تفرق بين الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم، وأن السياسة الإسرائيلية هي ذات السياسة في غزة والضفة والداخل.
ومنذ بداية العام الجاري 2022 وحتى اللحظة ارتقى أكثر من 40 شهيداً، 5 منهم في الداخل والبقية في الضفة الغربية، دون أن يكون هناك شهداء في قطاع غزة. ما يشير إلى أن سياسة القتل الإسرائيلية التي تمارس على قطاع غزة بشكل سريع في فترة زمنية قصيرة جداً، هي ذات السياسة في الضفة الغربية ولكن بصورة أبطأ وعلى فترة أطول. في ضوء هذه السياسة الإسرائيلية المستمرة تحول خبر الاستشهاد الفلسطيني إلى خبر روتيني؛ ازدادت روتينيته واعتياديته في ظل القتل والدمار المنتشر في الدول العربية الغارقة في الأزمات والصراعات، وانشغال العالم بأزماته خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
ولكن خبر استشهاد شيرين، التي استشهد معها في ذات اليوم الفتى ثائر اليازوري في مدينة البيرة، لم يكن خبراً روتينياً واستطاع أن يغزو وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والعالمية وأن يجبر مؤسسات ومنظمات ودولاً كثيرة على الالتفات له. وذلك يعود إلى عدة أسباب:
1- استثنائية الحدث، فمع أن الاحتلال الإسرائيلي ليس من المستغرب عليه أن يستهدف الصحافيين. إذ إن قوات الاحتلال قتلت منذ العام 2000 وحتى الآن 55 صحفياً، عدا عن جرح العشرات منهم، الذين كان آخرهم علي السمودي الذي أصيب برفقة شيرين، وكذلك استهداف مقار الوكالات والقنوات الإخبارية التي كان آخرها استهداف برج الجلاء في غزة خلال معركة سيف القدس الذي يضم مكاتب القنوات والوكالات الإخبارية العالمية. إلا أن خبر استهداف الصحفيين يظل خبراً استثنائياً، فالخيال المرتسم حول الصحافيين هو أنهم محايدون ويؤدون وظيفة إنسانية، بغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية. فالصحفيون والمراسلون الإسرائيليون يجوبون الضفة الغربية ليل نهار دون أن يتعرض لهم الفلسطينيون، على الرغم من وجود انتقادات فلسطينية لهذه الظاهرة.
2- الوجه المألوف لنا جميعاً، فشيرين أبو عاقلة رافقت الفلسطينيين في حياتهم اليومية على مدار 25 عاماً، غطت خلالها أحداثاً واقتحامات وتطورات وصلت لكل بيت عربي، ما جعلها، وزملاءها خاصة في قناة الجزيرة، أيقونة للقضية الفلسطينية مرتبطة بتفاصيلها اليومية.
3- طريقة الإعدام البشعة، فتفاصيل الحدث التي أظهرت تعمد قوات الاحتلال استهداف الصحافيين خلال عملهم وتأديتهم واجبهم، ومنعت إخلاءهم من المكان بإطلاق النار، وكادت تصيب الشاب الذي هرع لإخلاء جثمان شيرين وزميلتها المرتعبة، أثارت حالة من الغضب والحزن العارمين جراء هذه الجريمة.
لم يكن يتوقع الاحتلال الذي اعتاد على قتل الفلسطينيين دون أن يخشى عقوبة أو إدانة بهذا الحجم؛ أن يثير خبر استشهاد شيرين هذه العاصفة من ردود الفعل الشعبية والعالمية والإدانات والمطالبات بالتحقيق. ففي حالات القتل الأخرى يستطيع الاحتلال أن يختصر كل الحكاية بكلمة واحدة "إرهابي"، حيث يتستر الاحتلال على جرائمه، حتى التي يرتكبها بحق نساء وأطفال على قارعة الطريق لا يشكلون أدنى خطر عليه، بأنهم حاولوا القيام بعملية، مثل حادثة إعدام السيدة الفلسطينية الأرملة أم الستة أبناء التي تعاني من صعوبات في النظر والحركة غادة السباتين في 10 أبريل/نيسان الماضي، التي تذرع الاحتلال بأنها كانت تنوي مهاجمة جنوده.
في حالة شيرين، لم تكن هناك أي شبهات يستطيع الاحتلال إثارتها حول محاولتها تنفيذ عملية، فالإعدام جرى خلال ممارستها لعملها وهي تعتمر خوذتها وترتدي سترتها الصحافية، ولذلك سارع الاحتلال إلى إثارة الشكوك بأن شيرين استشهدت برصاص فلسطيني طائش، وسارع قادة الاحتلال للإعلان تقديمهم الحماية الكاملة لجنودهم من أي عقوبات أو محاكمات. وفي محاولة للتنصل من الجريمة أعلن الاحتلال عن عرضه على السلطة الفلسطينية إجراء تحقيق مشترك حول الجريمة.
رفضت السلطة الفلسطينية هذا العرض، ودعت إلى تحقيق دولي بدلاً منه، ومن الطبيعي أن يرفض الفلسطينيون مشاركة الاحتلال في التحقيق، فالاحتلال هو المتهم بهذه الجريمة، وليس من المعقول أن يشارك الاحتلال المتهم بتحقيق لإدانة نفسه أو تبرئتها. فالاحتلال هو القوي والمتحكم في الضفة الغربية، وكثيراً ما أجرى تحقيقات حول جرائم ارتكبها جنوده انتهت بتبرئتهم أو معاقبتهم بعقوبة هزلية جداً. فكيف يكون الغريم هو القاضي.
من ناحية أخرى، فإن الاحتلال حتى لو اعترف بجريمته فإنه سيختزلها بأنها لم تكن متعمدة، ولن تكون هناك عقوبات أو إدانات للاحتلال إذا انحصرت القضية لدى قضائه الذي هو شريك في الجريمة. فالتحقيق الدولي لن يكون مقبولاً من الاحتلال؛ لأنه لن يدين الاحتلال في هذه الجريمة فقط، وإنما سيسلط الضوء على كل جرائمه التي يحاول طمسها بادعائه أنه يستهدف "إرهابيين" في حالة دفاع عن النفس.
لا أريد المبالغة في النتائج المتوقعة من وجود لجنة تحقيق دولية في جريمة إعدام شيرين، فقد جرت العادة على أن تنجو إسرائيل من أي عقوبة سياسية تطال الدولة ومؤسساتها، أو عقوبة تطال المسؤولين الإسرائيليين بشكل مباشر على جرائمهم.
وعدا عن ذلك، فالمطالبة بتحقيق دولي على خلفية جريمة إعدام شيرين، تترك صورة بأن هناك نوعاً جائزاً من القتل الإسرائيلي لا يتطلب تحقيقاً أو حساباً عندما يتعلق الأمر بفلسطينيين من عامة الشعب، ونوعاً آخر غير جائز ويتطلب التحقيق والعقاب عندما يكون الأمر متعلقاً بصحفي مشهور أو شخصية بارزة. المغزى هنا أن كل سياسة الاحتلال ظالمة وتتطلب تحقيقاً وعقاباً وحساباً، وأن كل الإعدامات والاغتيالات والقتل هي سياسة إسرائيلية واحدة، وهذا ما يجب التنبه له ومحاولة استغلال جريمة إعدام شيرين لتسليط الضوء على كل سياسة الاحتلال الإجرامية.
ومع ذلك، فإن إجراء التحقيق الدولي أمر ضروري حتى لا يستفرد الاحتلال بمسار الأحداث وتشكيل الرواية عنها، فالملاحظ أن وسائل الأعلام الغربية البارزة تبنت رواية أقرب لرواية الاحتلال، حيث أوردت الخبر بصياغة مجهولة تشير فقط إلى مقتل شيرين خلال تبادل إطلاق نار في جنين، دون أن تتطرق إلى أن الاحتلال هو المسؤول عن إعدامها. ففي حالة التحقيق الدولي لن يكون بوسع وسائل الإعلام والمؤسسات الغربية أن تتنكر لهذه الجريمة.
من ناحية أخرى، فمع كل الألم الذي أورثتنا إياه هذه الجريمة، إلا أن هناك أملاً استطاعت شيرين أن تهبنا إياه باستشهادها. ففي هذه المرحلة التي ينشغل فيها العالم بالحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها الاقتصادية والسياسية، وفي ظل تنامي مسار التطبيع مع إسرائيل، وانشغال الدول العربية في ترتيب أمورها وتصفير مشاكلها مع القوى الإقليمية؛ يبدو أن القضية الفلسطينية قد تم تهميشها ولم تعد تحظى بالاهتمام العربي ولا الدولي.
فخلال الأشهر الماضية انشغلت الدول العربية في محاولة التأثير على السلطة الفلسطينية وحركة حماس لتجنب التصعيد الذي كان الاحتلال يخشاه خلال شهر رمضان، وذلك حتى لا تتأثر علاقات هذه الدول بإسرائيل؛ ما ينعكس سلباً على مسار التطبيع معها. وكل ذلك ساهم ويساهم في تهميش القضية الفلسطينية ويغري الاحتلال بالاستفراد بالشعب الفلسطيني وأرضه لتنفيذ سياساته الاستعمارية ضده.
وبالإضافة إلى ذلك، فالانشغال العربي بالأزمات العربية الداخلية والصراعات البينية ومحاولة بعض الأنظمة العربية بث دعاية موجهة لشعوبها، تشارك فيها إسرائيل من خلال دبلوماسيتها الرقمية، تحمل الفلسطينيين مسؤولية الصراع وتتهمهم بأنهم هم من يفتعلون الأزمات؛ أدى إلى تراجع الاهتمام والالتفاف الشعبي العربي حول القضية الفلسطينية، وتوهم قطاعات من الشعوب العربية بأن التطبيع مع الاحتلال سيكون مفيداً لهم وأن الاحتلال الإسرائيلي ليس بذلك السوء والوحشية التي يعتقدونها.
في غمرة هذه الأحداث والتهميش المتعمد للقضية الفلسطينية أتت جريمة إعدام شيرين لتعيد للقضية الفلسطينية أهميتها، ولتجذب لها أنظار العالم، وتثبت مرة بعد أخرى أن الاحتلال هو جريمة بحد ذاته وآلة قتل متحركة لا تفرق بين فلسطيني وآخر؛ حتى لو كان صحفياً أو مسعفاً. وقد أعطى انتماء شيرين لقناة الجزيرة وعملها معها لقرابة 25 عاماً زخما وتغطية غير مسبوقة من خلال فروعها ومؤسساتها الناطقة بمختلف اللغات. فمنذ اللحظة الأولى لاستشهاد شيرين بدأت الإدانات تتوالى على إسرائيل، ووسائل الإعلام في كل الوطن العربي تتناقل خبر استشهادها، وموج من رسائل التضامن والتعازي يجتاح وسائل التواصل الاجتماعي والعالم العربي.
وكأن استشهاد شيرين أعاد الحياة للقضية الفلسطينية، وأجبر العالم على الالتفاف لها في غمرة انشغاله بأزماته وصراعاته ومشاكله. كما أن استشهادها عاد ليفضح ازدواجية المعايير الغربية التي ظهرت بشكل واضح خلال الأزمة الأوكرانية. فالدول الغربية شنت حملات مقاطعة ضد روسيا، وفرضت عليها عقوبات هي الأقسى من نوعها. ولكن إزاء ذلك، ما زال الغرب الداعم لإسرائيل يغض الطرف عن كل جرائم الاحتلال المستمرة من أكثر من 70 عاماً.
ومع كل محاولات الاحتلال التغطية على جريمته، إلا أنه بكل محاولاته تلك لم يسهم إلا في فضح وإثبات إجرامه أكثر فأكثر. فمشاهد قمع قوات الاحتلال للجنازة التي بثتها وسائل الإعلام على الهواء المباشر ومحاولة منعه إخراج الجنازة من المشفى والاعتداء على حاملي النعش حتى كاد النعش يسقط عن أكتافهم، كلها شهادات موثقة على إجرام الاحتلال، وسيكون لها أثر على صورته لدى شعوب العالم، وخاصة الشعوب العربية التي تحاول أنظمتها الانجرار إلى التطبيع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.