حينما يتحول اللون الأبيض إلى الرمادي، ويتحول الرمادي إلى أسود، ويتحول الأسود إلى عدوان غاشم فأنت في الأراضي المحتلة.
وحينما يتحول الحق إلى شك، ويتحول الشك إلى زور، ويتحول الزور إلى بهتان، فأنت أمام أناس يُحاولون بجهل منهم تحويل مسار القضية الواضح لمنعطف جانبي.
هنا فلسطين، وعلى أرضها تدرجت الحالة منذ النكبة في العام 1948 إلى ما نراه اليوم من معركة محسومة نتائجها منذ بدايتها.
فمن المُسلّمات أن كل عمل عسكري وكل جريمة اغتيال بشكل مباشر يسبقها ويعقبها عمل ترويجي، وهما متلازمتان لا تفترقان.
وحتى تتضح الصورة أكثر، ضَع مفردات ما يفعله الكيان الصهيوني منذ القدم أمام غضّ الطرف الأمريكي، وضعف المجتمع الأوروبي، وتطبيع العرب وعجزهم في آنٍ واحد، ستدرك حجم المأساة.
وأما عن الصورة والحالة الفلسطينية التي رأيناها في الأيام الماضية وصولاً إلى مشهد الأمس، والذي بشهادة الفلسطينيين لم يعيشوا حالة كهذه ولم يلحظوها طيلة حياتهم في المدينة المقدسة تحديداً، وفي كل أرض فلسطين المحتلة من جمع للشمل من أقصى شمالها وصولاً للقدس الشريف، من المخيمات والقرى مع اختلاف طوائفها وأديانها، كما حدث في جنازة شهيدة الكلمة شيرين أبو عاقلة.
شيرين وحَّدت الجميع بكل ألوان طيفهم السياسي والعرقي، وعرّت الاحتلال وهي حية بطلة في الميدان، وهاهي تكشفه أكثر وهي جثة مسجاة في تابوت يلفه علم فلسطين رغم أنف الاحتلال.
إن لهذه السيدة عند الله سراً، دخلت القلوب وقت استشهادها تماماً كما دخلت البيوت في حياتها، بنقل حالات الأسر والقتل والتنكيل للشعب المظلوم، أو من خلف شاشة لنقل الحقيقة.
حدث كبير وجلل إذاً، وجنازة فاق طولها بحسب شهود 140 كيلومتراً، ربطت المدن والقرى بعضها ببعض، ولم يحدث هذا المشهد لجنازة قائد فلسطيني سابق، ولا لاحق ربما في اعتقادي.
منذ لحظة استشهادها أدرك الكثير أن هذا الحدث له ما بعده، كمعركة سيف القدس الأخيرة في قطاع غزة، التي جاءت بعد الاعتداء على المقدسيين، والتي قالت عنها أذرع المقاومة لها ما بعدها، وقد كان.
حدث مروّع وكبير هزّ الجميع من أعماق وجدانه، كانت الشهيدة قبل اغتيالها تقول نقلاً عن زملائها أود أن أغطي حدثين مهمين في حياتي، أولهما إنهاء الانقسام الفلسطيني، والثاني الإفراج عن كافة المعتقلين.
الصحفية كانت بمثابة تجربة فلسطينية متفردة يفخر بها شعبها وكل العالم الحر، ويُكتب في ذلك الكثير في الإعلام والصحافة، وحتى في المجال الإنساني والاجتماعي، ويترجم ذلك الطريقة التي قُتلت بها، اغتالوها لشجاعتها وإقدامها في نقل الحقيقة، ورصاصة الغدر التي فجّرت دماغها، لكنها في الحقيقة تركت أدمغة من ورائها، تكتب وتسرد الكثير عن القضية الفلسطينية وعدالتها.
في اعتقادي أن هذه الصحفية المغدور بها نفضت الغبار عن شيء غفل عنه الكثير، وهي "العهدة العُمرية"، التي ملأ بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الأرض الفلسطينية عدلاً بعدما ضج منها الجور، كتب الصحابي الجليل عهدة وحّد فيها الرعيل الأول من الصف الفلسطيني من المسلمين والمسيحيين في كل أرجاء الأرض المحتلة اليوم، وبعدما مضى على هذه العهدة العمرية قرابة ألف وأربعمئة عام، أظن أن من أبرز الأحداث التي تؤكد هذه الوحدة الوطنية الفلسطينية منذ عهد عمر، ارتقاء الشهيدة شيرين بهذا الشكل المروع والمؤلم.
لم تكن هذه السيدة تمارس عملاً وفقط كما يظن البعض، ولكن كانت حتى تبحث عن الشهداء ورفاتهم لتطمئن ذويهم، كانت تأمل أن ترى شعبها موحداً بعد انقسام، فتوحّد في جنازتها ويوم ارتقائها.
رأيناها واعتدنا على صوتها وهي تبث من ساحات الأقصى المبارك، مسرى النبي محمد، ومن بيت لحم مهد المسيح، ومن جنين الثورة، ومن الخليل، ومن حي الشيخ جراح، ولذلك لم نستغرب عندما رأينا حتى الرجال يبكونها والنساء والأطفال، ولاحقوا موكب التشييع من رام الله حتى دفنها في البلدة القديمة، الجميع حزن عليها، العربي والإسلامي وكل حر شريف، ليس لأنها كانت مراسلة الجزيرة، لكن لأنها كانت مراسلة كل حر.
بدمائها التي سفكت حاصرت الاحتلال الإسرائيلي في زاوية ضيقة، وجعلته منبوذاً أمام الرأي العام العالمي، الذي لم يلتفت قبل ذلك لأربعة وخمسين شهيداً من الأسرة الإعلامية والصحفية، أمثال الشهيد ياسر مرتجي، والشهيدة رزان النجار، والجميع شاهد كيف قتلوا، وشاهدنا أيضاً في الحرب الأخيرة على قطاع غزة كيف استُهدف برج الجلاء، الذي كان يضم شبكات الأخبار الدولية والعالمية لإسكات صوت الحقيقة وعدم إيصال ما يحدث من انتهاكات للعالم، قُصف المبنى بطريقة همجية، وكأننا أمام مشهد من مشاهد الحرب العالمية، ونافق العالم في هذا الوقت لصالح الاحتلال، لكن دماء شيرين، وصدق رسالتها، واجتماع الجميع علي جرم ما حدث لها جعلها تحاصر الاحتلال في الكونغرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني والاتحاد الأوروبي، وحتى أنصار الاحتلال بالأمس تنصلوا منه بسبب هذا المشهد البربري في مهاجمة جنازتها بالخيل والجنود، ونعشها الذي أُسقط أو كاد.
الآن الذي يجب أن يحدث حتى لا يكون ما بعد استشهاد أبوعاقلة كما قبله، ليس من أجل الصحفية المغدور بها فقط، ولكن من أجل كل الشهداء والمعتقلين، ومن في الشتات، على السلطة الفلسطينية أولاً قبل متابعة إجراء التحقيق الجاري أن يطلقوا سراح الأسرى الفلسطينيين في سجونهم بشتى توجهاتهم ويعودوا لبيوتهم وذويهم.
وعلى من قالوا لن ننسى مسيرة الشهيدة وسنواصلها، من اتحاد الصحفيين الفلسطينيين والاتحاد العربي أن يبدأوا في الإعلان عن مراكز دراسات لأجلها في كليات الإعلام في الجامعات الكبرى في بيرزيت وفي النجاح، حتى تظل الشهيدة حية، ويظل صوتها مسموعاً رغم أنف الاحتلال الغاشم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.