"التحكم والسيطرة" هو مصطلح عسكري من الدرجة الأولى، وأصله الإنجليزي هو "Command and Control". في إطار المصطلح العسكري، تعني "السيطرة" قدرة القيادة على رسم السياسات والخطط، وتفصيلها للمستويات الأدنى في القيادة، والعمل على شرحها لتنفيذها. بينما يعني "التحكم" قدرة القيادة على التفاعل مع المعطيات العملياتية الطارئة وإعطاء أوامر دقيقة ومختلفة لكل الوحدات بما يناسب تنفيذ الخطة العامة.
التحكم والسيطرة
برز "التحكم والسيطرة" عندما تضاعف تعداد الجيوش، وتعددت الأفرع العسكرية، فظهرت الحاجة لقيادة عدة جيوش في مسارح متعددة، وبشكل متزامن، ويقدر عادة تعداد تلك الجيوش بملايين الجنود. من تلك الظروف التاريخية، ولد المصطلح الذي يحدد مسؤولية القيادة العسكرية على توفير الظروف الموضوعية لنجاح الخطط وإتاحة السبل والوسائل للوحدات على تنفيذ تكليفاتها، وكذا المرونة الكافية للاستماع للمتغيرات التي تصادف الوحدات الأصغر وقياداتها.
لكن من زاوية اقتصادية، سُمي الاقتصاد الذي يتم التحكم فيه مركزياً ومن أعلى هرم السلطة بالـ"Command Economy" وهذا مصطلح أشمل من "الاقتصاديات الاشتراكية" أو "الاقتصاديات المخططة"، والمقصد من هذا المصطلح أن العديد من الدول، دونما الارتكان إلى أيديولوجيا سياسية معينة، تصمم سياساتها على "التحكم والسيطرة" كما تدار أمور الجيوش، بالإضافة إلى الفرضية السياسية الاقتصادية القائلة بأن التحكم والسيطرة يعطيان مؤشرات نمو أعلى وأسرع لتحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة.
في مصر، عبر الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ عام 1952، تم تطوير أيديولوجيا شعبوية مفادها أن القطاع الخاص لا يمكن الرهان عليه لتحقيق التنمية السريعة والمتصاعدة لإحداث النهضة المبتغاة للحاق بالعصر!
التحول المفاجئ لمصر في أول الستينيات كرس تلك الفكرة، وخلق رأياً عاماً ضد دور القطاع الخاص والمبادرة الفردية، وغيبت تماماً الحقائق الموضوعية، حيث وعلى سبيل المثال لم تحدث ثورة في بناء المصانع، ولا تم بناء 1000 مصنع بعد انتهاء الحقبة الملكية، بل إن مجموع مصانع القطاع العام سنة 1970 كان قرابة 700 مصنع، ثلاثة أرباعها كانت مؤممة وانتقلت ملكياتها قسراً إلى الدولة.
حتى في الفترة ما بين 1970 إلى 1991 ظلت الدولة رازحة في منطقة الملكية العامة ولم تزد حصة القطاع الخاص من الناتج الإجمالي المحلي إلا بأرقام مفردة (ارتفعت حصة القطاع الخاص من 40% إلى 51%).
كما تزاوجت الأيديولوجيا الشعبوية بعدة أفكار "ماوية" عن الاكتفاء الذاتي والتصنيع الزراعي و"الدور القائد" وغيرها! مع هاجس سياسي واقتصادي بتحول ميزان القوى السياسية الداخلية لصالح القطاع الخاص (الكبير والصغير)، ولهذا عمدت دولة مبارك على اختلاق قطاع خاص موالٍ سياسياً ورديف لتوجهات السلطة أينما كانت.
لإيجاز الفكرة تعالوا نستعرض سريعاً علاقة قمة السلطة برجال أعمال من فئة "الحيتان" أمثال فريد خميس ومحمد أبو العينين وحسين سالم وأحمد عز وطلعت مصطفى وغيرهم.
أمة من "القاصرين"
النظام الاقتصادي المصري من بعد عام 2012، جنح للسيطرة والتحكم، وخرجت الدولة وفي القلب منها مؤسستها القوية "القوات المسلحة" من الهامش إلى متن النشاط الاقتصادي من الصناعة والزراعة والتجارة والنقل والسياحة والإنشاءات. رغم الخطابات السياسية الرائجة حول الملكية العامة والقطاع العام، إلا أنه يغيب عن الأذهان دور الشركات الخاصة شكلاً والعامة فعلياً التي تحتكر عدة مفاصل اقتصادية في البلاد من تجارة وتصنيع الحبوب والزيوت والأعلاف ومواد البناء وغيرها. لقد تم تكريس نظام جديد بإشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالمشاركة والإشراف على مشروعات يتراوح حجمها من عملاقة إلى محلية وأخرى متناهية الصغر.
وذلك مع هيمنة شركات الخدمة الوطنية على قطاعات عريضة من سوق الطاقة، والغاز وتموين البنزين والسولار.
أتفهم دور "الإنفاق العام" في تحريك مؤشر الاقتصاد الكلي من الركود إلى الحركة والنمو ولكن المنجز النهائي لسياسة "التحكم والسيطرة" الاقتصادية كان ديناً عاماً فائق التضخم داخلياً وخارجياً، مما أنتج منظومة اقتصادية هشة وقابلة للتعثر، بل الانفجار.
النتيجة الطبيعية لهذا التوجه الاقتصادي- حتى مع سلامة النوايا- هي التشكك في قدرة الإنسان المصري على البناء أو المبادرة الاقتصادية هذا أولاً. ثم بمد الخط على استقامته وهو عدم قدرة الإنسان المصري لا على الإدارة الذاتية ولا على الحكم المحلي، فنحن بصدد أمة من "القاصرين" التي تحتاج الرعاية والتربية بواسطة مؤسسات الدولة الراشدة، أو بمعنى أدق مؤسستها الرشيدة الوحيدة "القوات المسلحة".
العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين "الحكومية" بمنشآتها "السوبر-عصرية" وقطاراتها السريعة وإدارتها المرقمنة وعماراتها المحافظة "الخليجية" وأثاثها المذهب، كلها علامات على تسلط "التحكم والسيطرة" ليس فقط على الرؤية المستقبلية لمصر، وليس فقط على المبادرات التنموية والاقتصادية، لكن إجمالاً دامغة الإنسان المصري باستلاب إرادته وخياله ومصادرة أي نوازع خلاقة لديه، وختمه إلى الأبد بأنه جندي اقتصادي وسياسي وإعلامي، حتى مسجده وكنيسته تتبع قائد الوحدة!
الأزمة المالية والاقتصادية الحالية بعيداً عن محاولة "تلبيسها" للشعب يجب ألا تمر دون مراجعة، رغم اعترافي بعمق وجذور مشكلاتنا كلها، إلا أنه لا يمكننا التقدم خطوة واحدة أو حل أي من مشكلاتنا الجذرية "التعليم والصحة والعمل"، دون تمكين المواطن المصري وإطلاق طاقاته الكامنة وتحريره من الخوف ومن الاستبداد المؤسسي والمركزي، ومن المظهرية وانعدام الفاعلية والتبديد المستمر للإمكانات المحدودة.
أخيراً، يتردد بصورة مثيرة الغثيان أن تطوير شبكة الطرق والكباري هي لتشجيع الاستثمار "الخاص طبعاً".. لكن الحقيقة أنه لا يمكن أن يستقر الاستثمار في بلد بدون سيادة القانون، وبقوانين حبس اعتباطية وعشوائية، ويفتقر لنظام إداري عصري وشفاف ومفتوح.
إن صيانة استقلال ونزاهة القضاء وفاعليته أثمن ألف مرة من مليون كوبري! لا يمكن لبلد المئة مليون مواطن أن يحكم مركزياً بواسطة طبقة سياسية موصومة بالانصياع والانحناء لرغبة فرد واحد!
عقود كثيرة وسنوات طويلة ولم نتعظ من انهيار دولة محمد علي ولا من نكسة الزعيم الخالد ولا من حادثة اغتيال المنصة ولا من انفجار يناير/كانون الثاني 2011! وها نحن نسير بنفس الإيقاع وبنفس الذهنية وبنفس الحماس لتكرار نفس الأفعال وتطبيق ذات أفكار "السيطرة والتحكم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.