منذ شهور تختمر ثورة في الضفة الغربية المحتلة؛ فقدت السلطة الفلسطينية سيطرتها على مخيم جنين، حيث توحِّد المقاومة ضد التوغلات الإسرائيلية الليلية كافة الفصائل.
يعيش الشاباك، جهاز الاستخبارات الإسرائيلي المحلي، حالةً من الارتباك هو الآخر؛ إذ تأتي الهجمات بالأسلحة النارية والسكاكين على الإسرائيليين من فلسطينيين لا تربطهم صلة تذكر ببعضهم، ناهيكم عن الجماعات المسلحة.
لا يوجد دليل على أن هذه الهجمات منظمة أو منسقة، ويبدو أن القاسم المشترك هو الرفض المتزايد للعيش تحت الاحتلال.
هذه ليست جولة القتال الدورية التي تنتهي عندما تشتعل معركة ما، أو عندما يصدر الإسرائيليون المزيد من تصاريح العمل للعمال المهاجرين، وتعود الحياة إلى ما هو طبيعي في هذا الجزء من العالم.
هذه المرة، الأمر مختلف؛ جيل جديد من الفلسطينيين، كثير منهم لم يولدوا عندما اندلعت الانتفاضة الأولى أو الثانية، يقفون على أهبة الاستعداد للتصعيد والقتال، لا يعرفون الخوف، ولا زعيم لهم.
لكن حتى اليوم، لم يكن لهذا الجيل اسم أو وجه أو أيقونة لقيادته، لكن الآن صارت له أيقونته؛ إنها سيدة فلسطينية تُدعَى شيرين أبو عاقلة.
تجمَّعت أبو عاقلة، المراسلة المخضرمة بقناة الجزيرة، مع مجموعة من الصحفيين بالقرب من دوار خارج مخيم جنين للاجئين، أمس الأربعاء 11 مايو/أيار؛ تجمَّعوا كما في معظم الأيام لتغطية مداهمة على مخيم جنين واشتباكات لاحقة في أزقة المخيم بين القوات الإسرائيلية والمقاتلين الفلسطينيين.
المكان الذي حدث فيه إطلاق النار خطير، كان الصحفيون يقفون عند دوار لا يجرؤ المقاتلون الفلسطينيون على المجازفة بالوقوف فيه؛ لأنهم سيكونون في العراء، ويفتقرون إلى الغطاء. يقول العديد من الشهود: إن تبادل إطلاق النار في الأزقة كان على مسافة من مكان تجمع الصحفيين.
اغتيال شيرين أبو عاقلة
كما أوضحت رواية شاهدة عيان، الصحفية شذى حنيشة، التي كانت بجانب أبو عاقلة عندما أُصيبَت بالرصاص، فقد كان وجود مجموعة الصحفيين معلوماً لدى القوات الإسرائيلية قبل 10 دقائق من التحرك صعوداً نحو المخيم. لم تُطلَق طلقات تحذيرية. وأُصيبَ زميلها، المراسل علي السمودي، في ظهره. حوصرت أبو عاقلة وحنيشة على الجانب الآخر من الشارع، وظهرهما للحائط للاحتماء فيه.
قالت حنيشة: "في ذلك الوقت، اخترقت رصاصة أخرى رقبة شيرين، وسقطت على الأرض بجواري. ناديت عليها لكنها لم تتحرك. عندما حاولت مد ذراعي للوصول إليها، أُطلِقَت رصاصة أخرى، واضطررت للبقاء مختبئةً خلف شجرة. تلك الشجرة أنقذت حياتي؛ لأنها كانت الشيء الوحيد الذي كان يعيق رؤية الجنود لي".
أقرَّ الجيش الإسرائيلي بأن جنوده كانوا ينفذون عملية في المنطقة في ذلك الوقت، وسرعان ما حاولوا إلصاق إطلاق النار بالمقاتلين الفلسطينيين. وأضاف أن تبادل إطلاق النار وقع بين قواتها ومقاتلين فلسطينيين، وأنه يحقِّق فيما إذا كان "صحفيون أصيبوا، ربما بنيران فلسطينية".
لإثبات هذه النقطة، قام كل من الجيش والسفارة الأمريكية بتغريد مقطع فيديو لمسلحين فلسطينيين في جنين وهم يطلقون النار في زقاق؛ ما يشير إلى أنهم مسؤولون. زارت منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية غير الحكومية المكان الذي التُقِطَت فيه تلك اللقطات وقالت: إنه من المستحيل إصابة أبو عاقلة من هناك.
علاوة على ذلك، فإن اندفاع السفارة الأمريكية بقوة لدعم رواية الجيش الإسرائيلي للأحداث أمر مهم أيضاً.
الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي قُتل في تركيا على يد فرقة اغتيال مرسلة من الرياض، كان من سكان ولاية فرجينيا، ولكنه ليس مواطناً أمريكياً. أما أبو عاقلة، وهي أمريكية فلسطينية، فكانت مواطنةً أمريكية. أدى مقتل خاشقجي إلى خلاف دبلوماسي كبير بين واشنطن والرياض استمر لأكثر من 3 سنوات، ولم يتوصل فيه إلى حل بعد. أما مقتل أبو عاقلة، فهو جزء من عملية مشتركة مع الجيش الإسرائيلي لتحدي الحقائق المعروفة، حتى قبل دفن جثتها.
"لا داعي للاعتذار"
لا يعني ذلك أن الإسرائيليين يعتقدون أن لديهم أي شيء للاعتذار عنه. قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ران كوخاف لراديو الجيش: إنه "حتى لو أطلق الجنود النار على شخص غير مشارك في الأحداث، فقد حدث هذا في معركة، أثناء تبادل إطلاق النار، حيث كان هذا الفلسطيني مع مُطلِقي النار، لذلك يمكن أن يحدث هذا الشيء".
ووصف كوخاف أبو عاقلة بأنها "تصور وتعمل لصالح وسيلة إعلامية وسط فلسطينيين مسلحين. إنهم مسلحون بالكاميرات، إذا سمحت لي أن أقول ذلك".
يتفق زملاء كوخاف مع هذا الرأي. قال الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي السابق آفي بينياهو: "لنفترض أن شيرين أبو عاقلة قُتلت برصاص الجيش. لا داعي للاعتذار عن ذلك".
كان عضو الكنيست الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير أكثر جرأةً، حيث غرد: "أنا أؤيد الجنود الإسرائيليين بشكل كامل، لأن مراسلي الجزيرة غالباً ما يعرقلون عملهم من خلال الوقوف عمداً في منتصف ساحة المعركة".
من الواضح أن الإجابة هي: "حتى لو قتلها قناص إسرائيلي، ما هي مشكلة إطلاق النار على الصحفيين؟". رد لا يختلف عن الرد الذي قدمه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بشأن مقتل خاشقجي.
أبو عاقلة ليست أول صحفية تُقتَل برصاص قناص إسرائيلي. قبل أسبوعين فقط، قُدِّمَت مذكرات قانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية تزعم الاستهداف الممنهج للصحفيين العاملين في فلسطين. قُدِّمَت المذكرات من قِبَلِ الاتحاد الدولي للصحفيين، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، ومركز العدل الدولي للفلسطينيين، نيابة عن 4 صحفيين: أحمد أبو حسين، ياسر مرتجى، معاذ عمارنة، ونضال اشتية، قُتِلوا أو تعرضوا للتشويه أثناء تغطية المظاهرات في غزة.
وقالت نقابة الصحفيين الفلسطينيين في عام 2020: إن ما لا يقل عن 46 صحفياً قُتِلوا في فلسطين منذ عام 2000، ولم يُحاسَب أي جندي أو ضابط إسرائيلي واحد. هذه الحوادث، حسب الادعاء القانوني، قد ترقى إلى جرائم حرب.
شهيدة من أجل القضية الفلسطينية
يمكننا أن نكون على يقين من شيء واحد من ناحية البلدان نفسها التي تبرر جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا. سيكون هناك صمت تام حول وفاة الفلسطيني الـ58 الذي يُقتل هذا العام، كما حدث مع كل الآخرين.
لكن لن يكون هناك صمت تام من الجانب الفلسطيني. في غضون دقائق من وفاتها في المستشفى، حمل كل فصيل فلسطيني في شوارع جنين جثمان أبو عاقلة. الدين هنا لا يهم. صلى لها المقاتلون المسلمون في مراسم مسيحية.
استشهدت أبو عاقلة، الفلسطينية المسيحية والمقدسية، في سبيل القضية الفلسطينية. كانت معروفة منذ زمن بعيد لملايين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم بأنها وجه الانتفاضة الثانية. صحفية مخضرمة، غير مرتبطة بأي فصيل سياسي، غطت كل حدث منذ ذلك الحين بالمهنية نفسها التي دفعتها إلى الوجود في ذلك الدوار في جنين صباح الأربعاء.
كانت أبو عاقلة حاضرةً في بداية قناة الجزيرة. في مقطع فيديو بمناسبة الذكرى الـ25 لتأسيسها، أوضحت دوافعها للاستمرار: "لن أنسى أبداً مقدار الدمار أو الشعور بأن الموت كان قريباً جداً منا. بالكاد كنا نرى منازلنا. كنا نحمل كاميراتنا ونتحرك عبر نقاط التفتيش العسكرية والطرق غير المستوية. كنا نقضي ليالينا في المستشفيات أو مع أشخاص لا نعرفهم. وعلى الرغم من المخاطر، كنا مصرين على مواصلة عملنا".
وتابعت: "كان ذلك في عام 2002، عندما شهدت الضفة الغربية غزواً لم تشهده منذ الاحتلال عام 1967. في اللحظات الصعبة، تغلبت على خوفي لأنني اخترت الصحافة لأكون قريبةً من الناس. ربما ليس من السهل بالنسبة لي تغيير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرةً على إيصال هذا الصوت إلى العالم".
إن الدافع وراء الجيش الإسرائيلي هو رغبة الجيش الروسي نفسها في أوكرانيا، أو الجيش المصري في سيناء لقمع التقارير المستقلة عما يفعلونه. مع العلم بعدم شرعية أفعالهم، فإنهم يريدون قتل أي نسخة عن الأحداث تنافسهم.
بهذه الطريقة، هناك حقيقة واحدة من عمليات مثل تلك التي حدثت في جنين؛ حقيقتهم. إنهم مصممون بشكل متزايد على الاحتفاظ بها على هذا النحو. كان وجود أبو عاقلة يوقف ذلك، فقتلوها.
صمت ساخر
لكن إسرائيل بحاجة إلى غطاء دولي لمواصلة القيام بذلك، ويُقدَّم هذا الغطاء عن طيب خاطر من قِبَلِ الدول نفسها التي تحارب روسيا بمثل هذا اليقين الأخلاقي في صواب أفعالها.
وتشمل هذه الدول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتين أعلنتا قبل 24 ساعة فقط عن نيتها، خلال خطاب الملكة لتمرير تشريع يحظر المجالس المحلية والهيئات العامة الأخرى من المشاركة في حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات، الهدف الرئيس منها هو حركة المقاطعة الفلسطينية.
لذلك نحن نحظر المقاطعة، ونحظر العمل اللا عنفي، ونوفر الغطاء عندما يقتل القناصة الإسرائيليون الصحفيين عمداً. لا يمكن أن يكون هناك ضوء أخضر أوضح بالنسبة لإسرائيل لمواصلة ما تفعله.
قبل أسبوع، قضت المحكمة الإسرائيلية العليا بإمكانية طرد ألف فلسطيني من منطقة بالضفة الغربية المحتلة والأراضي المخصصة للاستخدام العسكري، وهي واحدة من أكبر عمليات طرد الفلسطينيين منذ بدء الاحتلال في عام 1967.
لقد ضحت أبو عاقلة بحياتها لتُظهِر للعالم حقيقة ما يجري، وهي ليست وحدها بأي حال من الأحوال. هناك نساء فلسطينيات شجاعات يقمن بالشيء نفسه. عملهم هو وصمة عار على ضمير العالم الغربي الذي يعتنق القيم الأخلاقية عندما تناسبهم، ويتخلصون منها حين لا تناسبهم.
يدعي العالم الغربي الدفاع عن الديمقراطية وحرية التعبير في معاركه مع الأعداء، وهو صامت بشكل ساخر عن تجاوزات حلفائه.
لكن الوصمة الناشئة من النظر في الاتجاه المقابل لن تزول بمرور الوقت؛ إنها لا تُمحَى.
إن وزراء الخارجية الأمريكيين، واحداً تلو الآخر، سواء أكانوا يمينيين بصورةٍ فجة أم ليبراليين، مذنبون في مقتل أبو عاقلة، تماماً مثل القناص الذي ضغط بإصبعه على الزناد.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.