خرجتُ إلى العمل في السابعة والنصف صباحاً كما هو الحال كل يوم، جلست خلف مكتبي، فعَّلت شاشة الكمبيوتر على طاولتي، وكان موقع الجزيرة نت مفتوحاً عليها، قرأت رغماً عني عبارة مكتوبة في أعلى الصفحة باللون الأحمر: عاجل: "أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة خلال تغطيتها لأحداث مخيم جنين".. لم أستوعب الكلمات، أعدت قراءة الخبر ثانية وثالثة ورابعة.
سألت نفسي: ماذا يعني هذا؟ ماذا يقصدون؟ هل قُتلت شيرين حقاً؟ يبدو أن في الأمر خطأ ما!
ولكني عدتُ واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وترحّمت عليها وأنا أقول: هنيئاً لك شيرين، أيتها الحرة المدافعة عن وطنها حتى آخر نفَسٍ لها في هذه الدنيا، أيتها الإنسانة الرقيقة التي دفعتها همّتها إلى التواجد على خط النار دوماً، وكان قدرها أن تستشهد على خط النار أيضاً.
قفزت إلى ذهني في تلك اللحظة صورة الناشطة الأمريكية الشهيدة راشيل كوري وهي تقف أمام جرافة إسرائيلية، تحاول منعها من هدم بيت فلسطيني في رفح، في قطاع غزة، لم تتوانَ جرافة الاحتلال في التهام راشيل بوقاحة لا تُصدق، وسبق إصرار واضح على ارتكاب الجريمة، جافاني النوم ليلتها، وصاحَبَتني كآبة وضيق وشعور عنيف بالظلم والسواد.
أخذت أسأل نفسي: سائق الجرافة التي هدمت البيوت وقتلت راشيل، ألم يشعر بتأنيب الضمير؟! هل كانت صور راشيل تتراءى له في كل مكان وأمام كل بيت وبين كل أشجار؟ أم أنه وجد لنفسه مبرراً مُقنعاً يدفعه لقتلها بهذه الصورة الشنيعة؟! استدعت ذاكرتي أيضاً الممرضة الرقيقة رزان النجار، التي كانت تتنقل بين الجرحى مثل فراشة تحمل بين يديها ترياقاً، لعله يعيد الحياة إلى أوصالهم النازفة، ويخفف آلامهم، رأيتها نازفة وشهيدة ترتدي ملابس المسعفين تستسلم تماماً لقسوة الموت، وتتبدل الأدوار، كانت تسعف الجرحى وتحاول إنقاذ الشهداء فإذا بها تصبح الجريحة الشهيدة.
لحِق بهؤلاء على عَجَل المصور الصحفي ياسر مرتجي، وتبعه الصحفي أحمد أبو حسين، واللذان استُشهدا في مسيرات العودة الكبرى، خلال تغطيتهما الأحداث على السياج الحدودي في غزة.
أخذتني ذاكرتي إلى الوراء، ومشيت خلفها مستسلمة، لا أملك حولاً ولا قوة. ظهر المصور الصحفي الشهيد خالد حمد، الذي قصفته طائرات الاحتلال برفقة مسعف في الشجاعية، كانت كاميرا خالد توثق الجرائم التي يرتكبها الاحتلال دون أن يفرق فيها بين رجل أو امرأة، طفل أو بالغ أو عجوز، كان حمد يصوّر أحداث قصف وتدمير الشجاعية حين عاجله صاروخ فاجر، فاستشهد، وسقطت الكاميرا ووثقت لحظات استشهاده، ودمة الذي أخذ يسيل أرضاً بحرية لم يعثر عليها صاحبه.
لا أدري كيف استحضرت ذاكرتي الصحفي والمنشد الغزّي الفلسطيني الشهيد صهيب عبد العال، كان صهيب يعمل في فضائية الأقصى، يُقدم برامج الأطفال ويُضحِكهم ويُدخِل الفرح إلى قلوبهم، فإذا به يُستشهد بقصف صاروخي عام 2009، ويترك خلفه فجوةً عميقة في قلوب الأطفال الذين كانوا يتابعون برنامجه، والكبار الذين يسمعون أناشيده بصوته العذب: "فلسطين يا أرض الهدى يا نور عيني اللي ابتدى.. أرواحنا إلك فدا ورب السما يرعاك".. وفعلاً فداها صهيب بروحه وغادرنا على عجل، وتركنا نجترّ الذكريات الحزينة كلما سمعنا صوته المفعم بالحيوية والصدق.
استشهدت شيرين كما استشهد غيرها ممن لهم كبير الأثر في حياة الفلسطينيين، ولم يكن اغتيالها هو الأول من نوعه، ولن يكون الأخير لدى كيان لا يتردد في القتل والتدمير والإبادة، حتى مع انعدام ما يعتبره هو شخصياً مبرراً، لتطفو على السطح فكرة واحدة مفادها: الكيان المحتل يستبيح كل ما هو غير يهودي.
ومنذ لحظة استشهادها أصبحت شيرين أبو عاقلة أيقونة الفداء، ورمزاً من الرموز الوطنية الفلسطينية التي يتمسك بها أبناء فلسطين.
أتذكر الآن كلمات الشهيد سيد قطب حين قال: "تبقى كلماتنا عرائس من الشمع، لا حياة فيها، حتى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة".. وهكذا هي شيرين وغيرها ممن ظلُّوا أوفياء لقضيتهم ومبادئهم وبقوا على العهد، ونسي المحتل أن القدوة دائماً ما تفعل أفعالاً عظيمة، وتثير الحمية في نفوس الآخرين ليسيروا على خطاها.
استشهدت شيرين، ولكن كثيرين يقتفون أثرها، وتبقى القضية، وتبقى فلسطين.
نسأل أنفسنا: مَن المسؤول عن اغتيالها؟ هل هو القناص الذي أطلق عليها النار؟ أهو القائد العسكري المسؤول عنه؟ أم أنها الحكومة التي تقف خلفه؟ أم هو العالم المنافق الذي يُفصِّل كل حادثة بمقاس يختلف عن مثيلاتها، مقاس يتوافق مع هواه ومصالحه ومصالح أصدقائه وأحبائه.
تصوّروا بالله عليكم لو أن شيرين كانت صحفية أوكرانية أو أوروبية قُتلت على خط النار! تصوروا ماذا كان سيحدث، ولكن الشهيدة شيرين فلسطينية، والقاتل صهيوني، فإذا قَتَلَ فإن قتله لا يُغضب العالم، ولا يُدخله في حالة من الضيق والشعور بضرورة إيجاد الحل.
هنيئاً لشيرين الشهادة المشرفة، وسنكمل من بعدها الطريق الوعر، مستمدين الشجاعة من جرأتها وشجاعتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.