إنّ بذخ وجودة الصورة لم يغطّ قصور التصوّر في نسخة ستيفن سبيلبرغ من "قصّة الحي الغربي" أو "West Side Story"، مقارنة بالفيلم الأول الجميل صورةً وفحوى، والمأخوذ بدوره عن المسرحيّة الأمريكيّة الشهيرة بنفس الاسم وهي، وقت إنتاجها في 1957، كانت اقتباساً عصرياً عن رائعة شكسبير "روميو وجولييت"، وقد حصدت شعبيّة جارفة وصارت تحتلّ مكانة هامّة في الذاكرة الشعبيّة الأمريكيّة، ليعاد إحياؤها مرّات كثيرة آخرها في 2020 دون أن يخفت شغف الجماهير بها، مثال ذلك أنّها شغلت ركح مسرح برودواي الشهير في ستّ دورات عرض ناجحة.
نعود إلى السينما، حيث اقتُبست المسرحيّة أوّل مرّة في 1961 في عملٍ بسويّة فنيّة ممتازة، أهّلته لاغتراف الجوائز، بينها 10 جوائز أوسكار من ضمن 11 ترشيحاً، ما جعله الفيلم الغنائيّ الأكثر حصداً لهذه الجائزة في تاريخ السينما، وكالمسرحيّة وربّما أكثر بحكم قرب الشاشتين الكبيرة والصغيرة من طيف أوسع من الجمهور حاز مكانة في وجدانه وثقافته بتداول أغانيه ومشاهده ولوحاته الراقصة، وصار من كلاسيكيات السينما الأمريكيّة.
ويبدو أنّه في ظلّ أزمة الأفكار وعمليّات إعادة إنتاج الأفلام القديمة خطر لـسبيلبرغ أن يصنع ذلك مع فيلم "قصّة الحيّ الغربيّ"، رغم أنّ مرور ستّة عقود على إنتاجه لم تجعله يبلى. لكن حتّى مع التقنيات الجديدة وضخامة الميزانيّة، عجز سبيلبرغ عن مجاراة المستوى الفنيّ للفيلم الأوّل لقصورٍ عنده، وكاتب السيناريو عن إدراك جوهر عالم الشخصيّتين الرئيسيّتين "توني" و"ماريا" القائم على الحلم، فأدخلا التغييرات التي ارتأيا أنّها تصلح نقائص الفيلم الأوّل فيما كانا يقومان بإفساده. وهنا لا بدّ من ملاحظة أنّ قائمة نجاحات سبيلبرغ السينمائيّة الطويلة لا تحوي فيلماً رومانسياً، وربّما هذا أصل العطب.
كانت التغييرات المحمودة قليلة، واقتصرت على الظاهر والصورة، منها اختيار ممثلين لاتينيين لأداء شخصيّات الجانب البورتوريكي، مقارنة بالفيلم الأوّل الذي اعتمد ممثلين بيض البشرة للشخصيات اللاتينيّة، واضطرّ إلى استخدام مكياج لتلوين بشرتهم، يبدو عند المشاهدة الآن على قدر من السخافة. كما أنّ سبيلبرغ كثّف من استخدام الإسبانيّة في حواراتهم، بما يظهر هويّتهم ويكفل مصداقيّة أكبر في عين المشاهد. وقد مضى إلى إثراء وتعزيز خلفيّة الشخصيّات وإن جاوز الحدود فيها، ومن هنا كانت العلّة (في التالي حرقٌ للأحداث لمن لم يشاهد العمل بعد) فقد حُمّلت شخصيّتا توني وماريا جرعة زائدةً تمثل هموم الواقع، تتعارض لزاماً مع جانب الحلم والحبّ الجارف الذي سيأخذهما إلى القرار المفصليّ الأخير بالتجاوز عن قيام توني بقتل شقيق ماريا، والمضيّ قدماً في علاقتهما.
نسخة سبيلبرغ
ففي نسخة سبيلبرغ ما عادت ماريا تلك الفتاة المفعمة حلماً وعاطفة، حيث خسرت قدراً من ذلك لصالح خطاب وفكرٍ نسويّ مقحم لم يُناسب الفترة الزمنيّة ولا الشخصيّة ولا الطرح الفنّي الأصليّ لـ"قصّة الحيّ الغربيّ". وكان الحال مشابهاً مع شخصيّة توني في البداية، بما حُمّلت من ماضٍ إجراميّ وهموم ومراجعات بشأنه، لتبليغ خطاب عن الميز بنظرة راهنة لا بنظرة شباب ذلك العصر، علاوةً على أنّ ذلك يُفسد في خطّ الشخصيّة أثر ما سيؤول إليه الوضع لاحقاً. وفي العموم حمل العمل خطاباً راهناً بقدرٍ من الفجاجة لفترة زمنيّة سابقة لم يتناسب معها، ولم ينسَ حتّى أن يُقحم بغباء دعمه لما يُسمّى بمجتمع الميم.
أعود إلى جوهر العمل وما شابه، إذ خسر مشهد اللقاء الأوّل بين توني وماريا حيّزاً من الطابع الحالم فيه، ففي النسخة الأولى تلعب الإضاءة دوراً في نقل الشخصيّتين والمتفرّج من عالم الواقع إلى عالم الحلم في نفس الإطار المكانيّ، فنظرة الحبّ الأولى تجعل توني وماريا ينسيان كلّ ما يحيط بهما، بل ينطفئ كلّ ذلك لصالحهما قبل أن تُعيدهما عرقلة من أخيها والحاضرين إلى الواقع، فيما في النسخة الحديثة رغم توفّر تقنيات كانت لتجعل تنفيذ تلك الفكرة أكثر جمالية، يختار سبيلبرغ جعل الشخصيّتين تهربان إلى إطار مكاني آخر خلف المدارج، لتفقد اللحظة كثيراً من الحلم والشاعريّة، وتصير أشبه بكليشيهات أفلام مراهقي المدارس الثانويّة.
كما أنّ تغيير موضع أغنية "I feel pretty" التي تؤدّيها ماريّا قبل المعركة بين العصابتين، وحدث القتل إلى ما بعده، عكس الفيلم الأوّل بالطبع، أسبق الجانب التراجيدي في وقت كان الطابع الحالم لا يزال غالباً في تلك المرحلة، بما مسّ منه وأفسده.
وكان تغيير موضع ومؤدّي أغنية "Somewhere" خطأً كارثياً في الحبكة وتبياناً للقصور عن تمثّل عالم الحلم لدى توني وماريا، فقد خصّصها سبيلبرغ للممثّلة "ريتا مورينو" بداعي التكريم لها، فيما كانت في الأصل أداةً مفصليّة في الذهاب بحلم وعلاقة توني وماريّا إلى القرار الصعب والمصيريّ، بتغليب حبّها والصفح والتجاوز عن قتل توني أخاها، والمضيّ إلى خيار الهرب من واقع الصراع والكراهية. لقد نجح الفيلم الأوّل في مراكمة ما يجعل للمشاهد مجالاً ومسوغاً للتعاطف مع هذا القرار، فيما أخفق فيلم سبيلبرغ في ذلك بسبب التغييرات غير الوجيهة التي أدخلها.
ففي النسخة الأولى يستمرّ التعاطف والتأثّر ويبلغ ذروته مع تراجيديا مقتل توني، ويبلغ التفاعل أشدّه مع غناء ماريا "Somewhere" مجدّداً، خزينة يائسة بعد انهيار الحلم. ويتمّ البناء على هذا التأثّر والتعاطف في المشهد الأيقونيّ عبر خطاب مناهضٍ للكراهية من ماريا رائع التوظيف والبناء، يُترجم إلى فعلٍ إنسانّي بتعاضد أفراد العصابتين في حمل جثّة توني، فيما يغيب جلّ هذا عن نسخة سبيلبرغ باستثناء خطاب ماريا الذي يظهر يائساً ضعيف الأثر ينتهي إلى ترك الجثة ملقاة.
يظهر الإنفاق الضخم والترف الزائد في الاقتباس الجديد في المشاهد الخارجيّة والراقصة، لكنّها على جودتها عجزت عن الارتقاء فنّياً إلى مستوى النسخة الأولى من حيث التصوّر والروح، فـقد جاوز العمل إثراء الصورة إلى "التعبئة الزائدة"، حتّى صارت مكتظة بما يشتّت الانتباه، وينزل درجة من الحلم إلى الواقع. ليكون الإحساس في النسخة القديمة أبلغ وأعمق مما بدا كتفريغ طاقة زائدة في فيلم سبيلبرغ، وهو في الإجمال بهرجة تكفل انبهاراً لحظياً للمتفرّج، وربّما شيئاً من الرضا لمن لم يشاهد الفيلم الأوّل، لكنّه بالتأكيد لن يخلّف نفس الأثر العميق الذي ينحته الأوّل في نفس المُشاهد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.