تلعب المعاهد والمختبرات الوطنية دوراً رئيسياً في تطوير اقتصاد والبنيات الحضارية للأمم وفي كل المجالات بما فيها الأمن الداخلي، وتطوير التقنيات المتقدمة لمكافحة الإرهاب، واكتشاف الأسلحة النووية والبيولوجية، والأمن السيبراني وغيرها، كما هو الحال في الولايات المتحدة الامريكية وفي دول أمريكا اللاتينية ودول آسيوية كسنغافورة وماليزيا وغيرهما.
مثلاً نهضة الولايات المتحدة في مجال الطاقة والتكنولوجيا تشكلت من خلال هذه المعاهد الوطنية التي تفتح أبوابها للجامعات والباحثين في كل أنحاء بلادهم، وفي نفس الوقت تتمتع بدعم فيدرالي يحافظ على استمراريتها وتطورها حتى لا تصبح عرضة للخطر في حال توقف الدعم عنها.
مثلاً، لعب نظام المختبرات الوطني التابع لوزارة الطاقة الأمريكية دوراً فريداً وحاسماً في قيادة أمريكا للعالم في مجالات عديدة. تملك الولايات المتحدة الأمريكية 17 مختبراً (معهداً) وطنياً، تقع في 14 ولاية ويعمل بها 30000 عالم، في بعض الأحيان من الأفضل في مجالاتهم العلمية داخلياً وعالمياً.
منذ إنشائه في فجر التفوق العلمي لأمريكا، لم يركز نظام المختبرات الوطنية على احتلال العناوين الرئيسية، ولكن على صنع الاكتشافات التي تخدم الأمة.
القصة التي سأسردها الآن عن تجربة تطوير منظومة الجامعات والوحدات البحثية في السودان لتكون جزءاً من منظومة التطور الاقتصادي للوطن وتبني مؤسسية تساعد في إدماج الجامعات في النشاط الاقتصادي المحلي والقومي.
ولاية النيل الأبيض وتجربة السكر في السودان:
ولاية النيل الأبيض تعتبر من أغنى ولايات السودان بالمياه وبها ما يقارب السبعين بالمئة من إنتاج السودان من السكر. عانت صناعة السكر في السودان من تحديات كبيرة في العشر سنوات الأخيرة لضعف التمويل والتحديات التي جابهتها في تحديث المصانع القديمة (بعضها منذ الستينات) والتي بدأت في الانهيار. أيضاً عانى القطاع في مجالات الزراعة والري وغيرهما بالإضافة إلى ضعف برامج تدريب وتأهيل الموظفين والعاملين في القطاع.
ورغماً عن هذا كانت هناك إشراقات مميزة في هذا القطاع وخصوصاً محافظة شركة سكر كنانة- المصنع الأكبر إنتاجاً- على مستوى مقبول من الإنتاج رغم مرور ما يزيد عن أربعين عاماً من تأسيسيه بل توسع الإنتاج إلى مجالات متعددة في هذه الصناعة وأشهرها تجربتهم مع الإيثانول التي تعتبر نقلة مميزة من الصناعة الغذائية إلى صناعة الطاقة.
جامعة الإمام المهدي المؤسسة والرؤية:
تم تأسيس جامعة الإمام المهدي في العام 1994م وبدأت فعلياً في عام 1995م، وكانت تضم ثلاث كليات هي: الطب والعلوم الصحية، والهندسة والدراسات التقنية، والعلوم الإسلامية والعربية، ثم تطورت وأصبحت تضم الكليات الآتية: الطب والجراحة، الهندسة والدراسات التقنية، علوم الحاسوب وتقنية المعلومات، الشريعة والقانون، الآداب والعلوم الإنسانية، التنمية البشرية، الاقتصاد والعلوم الإدارية، التربية، علوم التمريض، المختبرات الطبية، والصحة العامة، الدراسات العليا وتنمية المجتمع. عدد الطلاب الكلي حالياً 17,301 طالب وطالبة (بكالوريوس ودبلوم).
تقع الجامعة في ولاية النيل الأبيض وتتوزع كلياتها في مدن الولاية الرئيسة المتمثلة في مدينة كوستي وربك والجزيرة أبا. وتحيط بالجامعة أكبر مصانع السكر في السودان ومن كبريات مصانع السكر في إفريقيا (سكر كنانة؛ سكر النيل الأبيض وسكر عسلاية) بالإضافة إلى أسمنت ربك ومحطة كهرباء أم دباكر ومشاريع زراعية ضخمة. وبالنظر إلى أن الجامعة أصبحت ذات موقع جغرافي حساس كمنطقة حدودية مع جنوب السودان وبها عدد كبير من اللاجئين في المناطق المتاخمة لكلياتها فستلعب الجامعة دوراً رئيسياً في مرحلة الحكومة المدنية في بناء الصلات مع جنوب السودان الشقيق وشعبنا الواحد من خلال برامج الخدمات الصحية والدراسات المجتمعية وتطوير منظومة التعليم والتدريب وتأهيل الكادر البشري في كل التخصصات ذات الصلة بكليات الجامعة. أيضاً ستعلب الجامعة دوراً محورياً في رؤية وزارة التعليم العالي لصلة الجامعة بالمجتمعات المتاخمة لها حيث قررت إدارتها ممثلة في رئيس مجلس إدارتها ومديرها وأعضاء هيئة التدريس أن تطور الجامعة برامج وخططاً تخدم كل القطاعات الاقتصادية والمجتمع حولها من خلال البحث العلمي وورش التدريب والتأهيل وخدمة المجتمع، وفي نفس الوقت تستفيد الجامعة من تلكم المؤسسات في دعم مجالات البحث العلمي وفي تدريب وتأهيل الطلاب، وأيضاً تشغيل الخريجين. وفي إطار خطط وبرامج ربط الجامعة بالمجتمع والوصول إليه وتحسس قضاياه ومشاكله في المجالات الصحية والاجتماعية والصناعية والهندسية، أنشأت الجامعة مجموعة من المراكز البحثية والخدمية مثل مركز أبحاث السكر ومركز الأمراض المستوطنة ومركز الدراسات المهدوية ومركز التعايش السلمي وفض النزاعات.
تأسيس معهد تكنولوجيا السكر القومي:
في بادرة تعتبر الأولى في خلق شراكة متكاملة ما بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الصناعة في السودان تقدمت جامعة الإمام المهدي -جامعة ولاية النيل الأبيض- بمقترح تأسيس أول معهد قومي لتكنولوجيا السكر؛ ليكون في شراكة متكاملة مع قطاعات السكر في السودان، ممثلاً في شركة السكر السودانية التي تضم أربعة مصانع حكومية: (سكر عسلاية، سكر سنار، سكر الجنيد، وسكر خشم القربة)، وأيضاً شركة سكر النيل الأبيض وشركة سكر كنانة.
لعبت الأخيرة دوراً رئيسياً في خلق هذه الاتفاقية في شهر يوليو/تموز 2021 واستضافت احتفالية التوقيع بموقعها بسكر كنانة بحضور وزيري الصناعة (إبراهيم الشيخ) والتعليم العالي والبحث العلمي (انتصار صغيرون) ومستشار رئيس الوزراء السيد عمر قمر الدين؛ ليكون المعهد شراكة ما بين الجامعة وشركات السكر السودانية المذكورة سابقاً مع جامعة الخرطوم وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وجامعة الجزيرة وجامعة بخت الرضا والمركز القومي للبحوث الصناعية كأول نقطة تحول حقيقي في مجال التعاون الأكاديمي والبحثي والعلمي في مجال الصناعة.
لعبت جهات عديدة دوراً أساسياً في تكوين هذا المعهد، ومن ضمنها قيادات في شركة سكر كنانة (دكتور محمد عطية، نائب العضو المنتدب ودكتور حسن مفضل مدير إدارة البحوث والتخطيط) بالإضافة لقيادات في شركة السكر السودانية (المدير السابق الرشيد إسحاق والمدير الحالي إبراهيم الزين ومدير القطاع الزراعي خضر ابكر)، وبجهد كبير ومقدر من السيد وزير الصناعة السابق إبراهيم الشيخ، وأخص بالإشادة الباشمهندس إسلام كشة التي لعبت دوراً محورياً في التنسيق ما بين الجهات المختصة لتمثل مساهمة الشباب في دفع العمل الاستراتيجي، وهي خريجة جامعة الإمام المهدي وجامعة الخرطوم.
أيضاً الوزيرة السابقة لوزارة التعليم العالي بروفيسور انتصار صغيرون وبروفيسور محمد محجوب نائب إدارة البحوث والابتكار ساهما مساهمة فعالة في إنجاح مشروع المعهد القومي ليكون نقلة ضخمة للتعليم العالي والبحث العلمي في خلق شراكات ذكية مع القطاعات الإنتاجية. اللاعب الرئيسي في هذا الجهد التاريخي كان أحد أميز علماء السودان في مجال تكنولوجيا السكر، بروفيسور حسن مضوي، وهو قد أصبح عميداً لمعهد تكنولوجيا السكر القومي National Institute of Sugar Technology (NIST) وخبيراً دولياً في هذا المجال، وقد وضع تصوراً متكاملاً لدور المعهد في تدريب وتأهيل الكوادر البشرية بما فيها العمالة والكوادر الفنية والهندسية والإدارية، وأيضاً المشاريع البحثية المشتركة.
النقلة الكبرى في هذا المشروع الضخم كانت لأول مرة جلوس قادة القطاع الصناعي في شركات السكر السودانية من القطاع العام والقطاع الخاص للعمل سوياً لوضع خطة مشتركة لإنجاح هذا المشروع، بتكوين مجلس إدارة للمعهد يتمثل فيها جل مكوناته، وخلق خطة عمل وتنسيق مشتركة قصيرة وطويلة المدى بدعم كامل من إدارات شركات السكر السودانية والوزارة. قدمت إدارة جامعة الإمام المهدي والأساتذة في كلية الهندسة دعماً مقدراً لهذا المشروع ليرى النور كأول مؤسسة قومية متكاملة وذات تخصصات متعددة وبمشاركة مؤسسات وطنية وجامعات وبرؤية متكاملة لدورها.
أهداف المعهد والمشاريع المستقبلية:
عمل معهد تكنولوجيا السكر ليس مقتصراً فقط على صناعة السكر التي تمثل فقط 10٪ مما يحتويه قصب السكر، بل في تطوير كل الصناعات المكمِّلة لهذا القطاع، ولخلق تنمية مجتمعية ضخمة في المناطق التي توجد فيها هذه المصانع. أيضاً في تطوير طرق فعالة للتخلص من النفايات ومعالجة مياه الصرف الصحي وحماية البيئة.
يشارك المعهد القومي للمعايير والتقنية (NIST) أيضاً في حل المشكلات الفنية والإدارية التي تواجه مصانع السكر السودانية المختلفة بهدف الوصول إلى الطاقة الإنتاجية المصممة لمصانع السكر. سيشارك المعهد (NIST) في تطوير منظومة متكاملة للبحوث في هذا المجال تكون مفتوحة للباحثين في كل أنحاء السودان من الجامعات المختلفة، ومناقشتها مع معاهد مماثلة في إفريقيا وحول العالم.
تقوم NIST بتنفيذ أنشطتها من خلال مجلس المعهد، واللجنة العلمية ووحدات المعهد (الأقسام). يوجد بالمعهد خمس وحدات هي: (1) وحدة شؤون المال والمحاسبة. (2) وحدة التدريب والإرشاد والتوثيق. (3) وحدة البحث والدراسات الفنية. (4) وحدة الدراسات العليا. (5) وحدة المعلومات والدراسات الاقتصادية.
تواصل المعهد مع معاهد مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية Texas A&M University وفي ألمانيا، وبدأ خطة تصور ليكون معهداً إقليمياً مدعوماً دولياً ليعيد الحياة لأكبر قطاع صناعات غذائية في السودان ويواجه تحديات كبيرة تحتاج إلى معالجات إسعافية سريعة وحلول ورؤية استراتيجية متوسطة وطويلة المدى تعيده إلى الحياة؛ ليشارك في حل المشاكل الاقتصادية وليكون رمزية قارية للتدريب والتأهيل والبحث العلمي.
أيضاً قرر السيد وزير الصناعة السابق تكوين مجلس السكر بتمثيل لمعظم الأجسام التي لها صلة بهذا القطاع، وضم هذا المجلس كفاءات وخبرات وطنية ساهمت سابقاً في تطوير هذا القطاع، وأيضا قارياً وعالمياً في مجال صناعة السكر. اجتمع هذا المجلس مرة واحدة في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 وقدم تحليلاً دقيقاً لمشاكل القطاع من قِبَل لجنة خبراء متخصصة من كل المصانع السودانية بالإضافة إلى مقترحات لخطوات عاجلة واجبة التنفيذ لإنقاذ الموسم السابق 2021 وخصوصاً في المصانع الحكومية، وأيضاً مقترحات تنسيقية متوسطة وطويلة المدى لتطوير القطاع وحل كل المشاكل التي حدثت سابقاً وأدت إلى الانهيار.
تمت التثنية على توصيات لجنة الخبراء من قِبل مجلس السكر والوزير في 2021، وبالطبع توقف العمل بكل هذه الخطوات بعد الانقلاب مباشرة في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
الآن علينا أن نعمل جاهدين لهزيمة مشروع الانقلابيين التدميري لمواصلة المسير في هذا المشروع القومي؛ ليكون ضربة البداية للمعاهد القومية التي نتمنى أن تتمدد لكافة المجالات مثل الصمغ العربي وصناعاته وصناعة اللحوم في جامعات غرب السودان والدراسات البحرية في جامعة البحر الأحمر والطاقات البديلة (الرياح والطاقة الشمسية) في شمال السودان والصناعات الغذائية في جامعات ولاية نهر النيل والنفط والغاز في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة الخرطوم والزراعة في جامعة الجزيرة، وغيرها من الأمثلة التي سوف تساعد الدولة في زيادة مواردها الاقتصادية والجامعات الحكومية في تفعيل شراكات ذكية مع القطاعات الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية مع المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة، ومشوار الألف ميل دائماً يبدأ بالخطوة الأولى، وكانت معهد تكنولوجيا السكر القومي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.