أوروبا بلا سيادة، الاقتصاد العالمي هش، واعتمادية العرب كارثية.. دروس من الحرب الروسية

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/11 الساعة 10:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/11 الساعة 10:39 بتوقيت غرينتش
بايدن وبوتين خلال لقائهما في موسكو عام 2011، رويترز

كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا عن عدة أمور جوهرية في النظام الدولي الحالي، جزء منها كان مفاجئاً لي، والجزء الآخر كان عندي فيه شك، ولكن تأكد لي بفعل هذه الحرب الكاشفة. سأسرد الأمور التي تكشفت لي في النقاط السبع التالية:

النظام الدولي المقنَّع

اتضح أن النظام الدولي هو مجرد إمبراطورية غربية مستبدة، تلبس ثوب النظام الدولي لاكتساب شرعية الاستبداد بالعالم، نرى سيل العقوبات "الدولية" ينهال على روسيا للفعل نفسه الذي تفعله الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة حول العالم، من شن للحروب، وقتل وتشريد، ونهب للثروات، وخرق لسيادة الدول؛ ما يؤشر على انحياز هيكلي وازدواجية معايير ممنهجة في المنظومة الدولية، ويكشف حقيقتها المزيفة بأن هذه المنظومة التي تحكم العالم ليست إلا إمبراطورية غربية تتنكر في صورة نظام دولي بأسماء دولية، كالأمم المتحدة، والقانون الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنك التسوية الدولية، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من الأسماء المزيِّفة للواقع. والأحرى أن يضعوا كلمة "غربي" بدلًا من دولي أو "عالمي" أو "أممي" في كل تسمية لهذه المؤسسات؛ لكي تستقيم التسمية مع المضمون، فهذه المؤسسات لا تعمل إلا لصالح الغرب وهيمنته على العالم، ولغرض استمرار فوقيته المعرفية والاقتصادية والعسكرية. فلماذا تشترك أي دولة خارج المنظومة الغربية في هذا النظام الدولي المقنَّع العازم على إفقار وازدراء وقهر كل ما هو غير غربي؟

قدرة الغرب الفائقة على التحكم في الاقتصاد العالمي

هذه ليست جديدة، ولكن تأكد للجميع بشكل جلي هول سطوة الغرب على الاقتصاد العالمي؛ فهم يتحكمون في التجارة الدولية من خلال منظومة "سويفت" للتحويلات المصرفية العابرة للحدود، ومن خلال هيمنة عملاتهم، وبالأخص الدولار الأمريكي، في المعاملات التجارية الدولية، والتي يتحكمون فيها من خلال احتكارهم لإنتاج هذه العملات، ولاحتياج المتعاملين حول العالم لموافقة الغرب في تخليص المعاملات بهذه العملات من خلال بنوكه المركزية. كما يتحكمون في فيزا وماستر كارد (بطاقات الدفع الإلكترونية الأكثر استخداماً في العالم)، وفي تكنولوجيا المعلومات والإنترنت والاتصالات، من خلال شركة "مايكروسوفت" و"جوجل" و"فيسبوك" وغيرها، أي إنهم يتحكمون في معظم قنوات الاقتصاد والاجتماع حول العالم. ويستطيعون عملياً أن يعزلوا شعوباً بأكملها عن العالم الخارجي.

هشاشة الاقتصاد الدولي

الاقتصاد الدولي الحالي، والذي وُضعت أسسه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هو اقتصاد معولم معتمد بشكل أساسي على العبور الحر للحدود الدولية لرؤوس الأموال والسلع والعمالة وسلاسل الإمدادات، وهو تصميم يفترض الاستقرار الدولي الأبدي مع وجود الغرب مركزاً للحضارة البشرية إلى ما لا نهاية، وهو افتراض غير واقعي بطبيعة الحال، وما يبنى عليه فهو آيل للسقوط. ولكن يبدو أن نخب العالم الحاكمة افترضوا واهمين أن الحرب العالمية الثانية، من هولها، هي آخر الحروب العالمية الكبرى بعدما تعلم البشر الدرس، وافترضوا أيضاً التفوق الحضاري الأبدي للغرب، ولكننا نشهد الآن عالماً ليس موحداً وليس مستقراً، بل مليء بالصراعات الجيوسياسية، ونشهد صعود قوى جديدة على الساحة تتحدى المركزية الغربية للحضارة البشرية؛ ما قد (وسوف) يؤدي إلى صراعات كبرى تهدم أساس هذا الاقتصاد المعولم، وبالتالي تهدمه نفسه في وقت قياسي. فعلى الجميع أن يكونوا مستعدين لاحتمال انهيار العولمة الاقتصادية في أي لحظة؛ ما يعني نقصاً حاداً في منتجات مهمة اعتادوا عليها وافترضوا وفرتها بشكل أبدي، كالسيارات والهواتف النقالة والحواسيب والملابس والأدوات المنزلية، وحتى الأغذية والأدوية وغيرها من السلع التي تعتمد على سلاسل الإمدادات والعمالة الرخيصة والتجارة العابرة للحدود.

أوروبا المحتلة من قبل الولايات المتحدة

هذه فاجأتني، فلقد صعقت من حجم "اللا استقلالية" في القرار الأوروبي من سطوة الولايات المتحدة، التي دفعت بأوروبا إلى حافة الهاوية بصراع طويل الأمد مع روسيا، كانت أوروبا (تبدو) قادرة على حلحلته بدفع أوكرانيا للالتزام ببروتوكولات مينسك منذ عام 2014، التي وقعتها ألمانيا وفرنسا مع روسيا وأوكرانيا، والتي كانت تضمن حلاً سلمياً للخلاف الروسي الأوكراني، وتسحب المبرر لشن روسيا هجوماً على أوكرانيا، ولكن الزعماء الأوروبيين وقفوا عاجزين عن كبح جماح الولايات المتحدة وفعلها المخرب في أوروبا، وتحريضها للنظام الأوكراني على عدم الالتزام ببروتوكولات مينسك، ومواصلة الاعتداء المسلح على إقليم دونباس، ودعم النازيين الجدد المعادين لروسيا، واضطهاد الهوية الروسية في أوكرانيا، كمنع اللغة الروسية في المدارس الأوكرانية بموجب قانون صدر في فبراير/شباط 2015، والذي عدته منظمة "هيومن رايتس ووتش" انتهاكًا لحقوق الأقلية المتحدثة بالروسية في البلاد.

أمام الفعل الأمريكي المخرب، واستفزازها المباشر لروسيا، بدا الزعماء الأوروبيون وكأنهم منزوعو السيادة والإرادة أمام التوجيهات والتحركات الأمريكية في قارتهم.

نفاق سيادة الدول وحقوق الإنسان وحرية التعبير في النظام الدولي

رأينا ازدواجية المعايير الصارخة في التعامل مع الأزمة في أوكرانيا وانتفاضة "النظام الدولي"، وكأنها الحرب الوحيدة التي اندلعت منذ الماضي المنسي. وكأنه لا يوجد حرب جارية في سوريا أو اليمن أو ليبيا، ومن قبلها في العراق وأفغانستان وغيرهما، وكأن الاحتلال الروسي لأوكرانيا هو الاحتلال الأول في التاريخ، ولا يوجد مثلاً احتلال إسرائيلي لأراضٍ عربية في فلسطين وسوريا، وكأن من يعيشون في هذه البلاد ليسوا بشراً أو غير مستحقين لاكتراث هذا النظام الدولي، الذي اكتفى بالشجب وبمواقف باهتة منافقة تجاه هذه الحروب وويلاتها. 

ورأينا أزمات اللاجئين، والتفضيل بينهم حسب قوميتهم، بما يتنافى مع مبادئ القانون "الدولي" الذي، هم أنفسهم، أي الغرب، من وضعه. ورأينا وسمعنا عن اضطهاد ضد المواطنين الروس في الغرب على أساس قوميتهم؛ فمنهم من خسر وظيفته، ومنهم من جمدت أمواله، ومنهم من لم تجدد إقامته ظلمًا… إلخ. وشهدنا أيضًا كيف أن مبادئ حرية التعبير والإعلام ألقيت في القمامة بإغلاق المحطات الإعلامية الروسية في الاتحاد الأوروبي كافة وفي المملكة المتحدة، ومنع أي صوت يخالف الموقف الهجومي المتشدد ضد روسيا، الذي يلومها على الأزمة دون أية موضوعية أو تحليل عقلاني أو لوم للنفس ولو جزئياً عما يحدث، فالذي اتضح أن مبادئ حرية التعبير والإعلام في أوروبا لم تسقط خلال هذا النزاع وحسب، وإنما على الأغلب لم يكن لها أي وجود في السابق أصلاً، وكانت مجرد شعارات وبروباجندا لتزيين منظومة الحكم في أوروبا.

اعتمادية العرب الكارثية على العالم الخارجي

في أقل من شهر بعد بداية الأزمة الأوكرانية الجديدة، خسرت مصر ما يقارب 10% من احتياطيها النقدي الأجنبي؛ بسبب انخفاض عوائد السياحة (والجزء الأكبر منها يأتي من روسيا وأوكرانيا)، إلى جانب الزيادة المفاجئة في أسعار المحروقات وأسعار الحبوب (مصر أكبر مستورد للقمح في العالم!). هل يمكن قبول هذه الهشاشة الاقتصادية، التي مع أقل اضطراب يحدث تؤدي إلى انهيارات مالية واقتصادية؟ العالم العربي فقير جداً في الصناعات الاستراتيجية (ما عدا المحروقات)؛ فإنه يعتمد، بشكل حرج في الغذاء والدواء والسلاح ووسائل المواصلات والاتصالات، على الاستيراد من الخارج. ماذا إن دخل العالم خارج المنطقة العربية في صراعات كبيرة وعميقة؟ من أين نأتي بغذاء أو دواء أو سلاح أو هواتف نقالة أو حواسيب أو سيارات… إلخ؟ هل نرجع إلى مستوى معيشة العصور الوسطى بالعربات التي تجرها الدواب والدفاع بالسيوف؟ هل هذا الوضع الحرج مقبول؟ كشفت هذه الحرب عن مدى هشاشة الاقتصاد العربي بسبب اعتماديته الوجودية على العالم الخارجي.

الاستقلالية النسبية للأنظمة العربية

هذه كانت مفاجأة لي؛ كنت أظن أن الأنظمة العربية أكثر خضوعاً من ذلك للإمبراطورية الغربية، ولكنها اتخذت موقفاً مستقلاً تجاه الأزمة في أوكرانيا، فلم توافق على العقوبات، ولم تشترك فيها. لم ترضخ دول الخليج لمطالب الغرب بزيادة الإنتاج من النفط لتعويض ما ينقص من المعروض الروسي من جراء العقوبات، ولكن الإعلام السعودي والقطري ينحاز بشكل واضح للجانب الغربي؛ ما يثير الحيرة عن حقيقة مواقف أنظمة الحكم في دول الجزيرة العربية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر أبو زيد
باحث في الاقتصاد السياسي
تحميل المزيد