قد يكون من المستغرب الجمع بين الفلسفة والكهف، لوجود الاختلاف في المدلولات التي تحيلُ إليها كل كلمةٍ على حدة، ومن المعلوم أنَّ الكهف كان مأوى للإنسان وهو لم يتبلورْ لديه الوعي الناضج بالمعطيات الوجودية، وكان إدراكه محدوداً، إن لم يكن معدوماً بإمكانية تحويل المواد الطبيعية إلى أدواتٍ للارتقاء بنمط حياته. فيما تشيرُ الفلسفة إلى ما شهدهُ الوعي البشري من الانعطافة والانفصال عن الخرافات والأساطير، التي توسلت بها التجمعات البدائية لتفسير الظواهر المثيرة للخوف والذعر، وبالتالي لم يعد العقل مقيداً بالمتطلبات اليومية. إنما نزح نحو التأمل في الكون والسؤال عن النشأة وما يؤول إليه المصير، وبدأَ السؤالُ يدورُ تالياً حول الإنسان وتكوينه وموقع هذا الكائن داخل النظام الكوني. ومن هنا تتشعب المساعي الفلسفية الرامية لفهم الإشكاليات الوجودية.
وبالنظر إلى ما أحدثته الفلسفة على صعيد التثوير الفكري، يبدو أنّهَ لا يوجدُ ما يسوغ إسنادها إلى الكهف؛ إذ يفهمُ من الإرساليات الدلالية لكلمة "الكهف" تأجُج الحنين إلى العهود التي كان يعيشُ فيها الإنسانُ مُخففاً من الإكراهات الاجتماعية والعقائدية، ومن وطأة التقنيات والآلة، لكن هذا ليس كل ما توحي به الكلمةُ، بل تعبرُ في السياق الديني عن التواصل مع العوالم الواقعة خارج الناسوت. كما تتسعُ العبارة لمعاني الرفض وعدم الاستسلام للطغيان.
إذن يمتد مجاز الكهف للفلسفة، ولعلَّ افلاطون هو أولُ من وظف المفردة للإبانة عن جوهر فلسفته المثالية، وحقيقة العلاقة القائمة بين عالم المُثل وما يراه الإنسانُ في حياته الدنيوية. ويكون للكهف لدى نيتشه معنىً آخر مختلف تماماً عن المفهوم الذي يكسبه السياق الأفلاطوني.
الخيار الأمثل
يرى نيتشه أن هدف كل ترتيبات البشر هو صرف انتباه أفكار المرء كي يكفَّ عن أن يكون واعياً بالحياة، الأمر الذي يصيرُ تحدياً كبيراً بالنسبة لمن تراوده الرغبة بمخالفة عقلية القطيع، والخروج من مظلة الوصايا المثقلة على الروح والتفكير. وتمنع الانطلاقات الحرة. وهو يتساءلُ في "هكذا تكلم زرادشت" بنبرةٍ مستنكرة عن تنين أشدَّ خطراً على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية. عليه فإنَّ الخيار الأمثل الذي يحمي الإنسان في رأي نيتشه، من مغبة الانفصال عن قراره الروحي، وتحوله إلى مخلوق فارغ هو كهف الفلسفة. وهو يفردُ مفصلاً من كتابه "شوبنهاور مربيا" لتناول مزايا الفلسفة، بوصفها كهفاً داخلياً يصعبُ اختراقه، وهذا ما يُكسبُ الإنسانَ مناعةً وإرادةً وسطَ مجتمعاتِ تضجُ بمثبطات التأمل المرح. وفي الواقع أن هذا الخيار النيشتوي يزدادُ أهمية وقيمةً في عالمنا المثخن بالتوتر والملوث بالسطحية. يُذكرُ أنَّ نيتشه على غرار الرواقيين والأبيقوريين يؤمنُ بالمسلك العملي في النشاط العقلي. فتداوي الأرواح السقيمة هو ما يتوسمهُ نيتشه من المسعى الفلسفي، ومن الواضح أنَّ الركن الأساسي في المشاريع الفلسفية هو النقد، ولا يستقيمُ مدماك فلسفة جديدة إلا على نقد ما سبقها من الاتجاهات والتيارات السائدة، وما ميَّزَ نيتشه على هذا المستوى، مبادرته الهجومية ضد كل ما كان بمثابة المُسلمات في تاريخ الفلسفة، وانشقاقه عن أخلاقيات الحشود. والحال هذه فمن المناسب هنا افتراض سؤال بشأنِ الفلاسفة الذين تفيدُ مصاحبتهم الإنسان داخل الكهف الذي تخيله نيتشه، وهل يكون الأخير من بين هؤلاء؟ بالطبع وجود نيتشه يعني احتمال التوهم يكون ضئيلاً، لأن فيلسوف المطرقة ينتزعُ منك المكبر الذي يعطي الأشياء حجمها غير الحقيقي وهو يستهدفُ بلا هوادة المفاهيم التي تستخف بالحياة وتنحي بها نحو الهامش، فالمحك لمعرفة صحة ما تفرضه الغريزة الحياتية لدى نيتشه هو المتعة. وهذا ما يحيل إلى رأي أرسطو عن استغلال الطبيعة لعنصر المتعة، لمساعدة الكائنات الواعية، بغية العثور على ما تحتاجه لتزدهر. طبعاً لا يثقُ نيتشه بالفلاسفة الذين لا يتطابقُ فكرهم مع نمط معيشتهم، ولا يجدرُ بالفيلسوف أن يكونَ مثالاً إذا لم يدعمْ حياته الخارجية برؤيته الفكرية ومبادئه الفلسفية، فهو قد تمَثلَّ فعليا لهذا الشرط وكابدَ المرارة والمعاناة؛ لأنَّ عبقريته ضاقت ذرعاً بالعقائد والموميات الفلسفية.
إضافة إلى كل ما ذكر سلفاً، فإنَّ نيتشه ينتصرُ للبهجة والمرح، "ينشرُ المفكر الحقيقي سواء أكان جاداً أو ساخراً البهجة والحياة دائماً، ويعبرُ عن بصيرته الإنسانية أو حلمه الإلهي، دون إيماءات متبرمة ويدين مرتجفتين" ويذكر في "ما وراء الخير والشر" أنَّ ما جعله يغفر لأفلاطون، هو وجود كتاب أرستوفان على سرير موته وما يفهمُ من موقف نيتشه، أنَّ الفكاهة لا تنفصل عن التفلسف المرح الذي تتراخى معه القيود، وتتحطمُ الأطر الجامدة، يعلنُ نيتشه أنَّ الأفكار لا تتولدُ في صومعة الكتب، ولا في ردهات الجامعات، إنما الهواء الطلق هو أرضية حقيقية لنشوء ما يخدمُ الحيوية في العقل "لا تثقوا في فكرة لم تلد في الفضاء المفتوح، وفي التحرك الحر، حيثُ عضلات الجسم أيضاً تشتركُ في الاحتفال".
تفيد الحكمة الأبيقورية بأن الحرية هي أعظم خيرٍ نفوز به. ونحن بصدد موضوع التفلسف نعلم بأنَّ أعرافنا الثقافية لا تستيغُ الفلسفة إلى الآن، ويتمُ الاستهزاء بها ونعتها بالفذلكة، وهذا الموقف متوقع؛ لذا يقول إبكتيتوس إنَّ من لديه رغبة مخلصة في اكتساب الفلسفة، يجبُ أن يعدَّ نفسه لسيل من الكلمات والعبارات الساخرة تنهال عليه من كل الجهات.
وما يثيرُ الغرابة في شخصية نيتشه، بالنسبة لأي متابع، هو نفسه الهجومي وشغفه بالحياة، رغم أيامه الحافلة بالعزلة والمشقات. من أين استمد إيمانه وهو كان رافضاً لمفهوم الحقيقة؟ بالطبع فإنَّ السرَّ يكمن في طاعة نيتشه لعبقريته، وذلك إيمان في أنقى صوره، على حد تعبير إمرسون، وما يعبر عن عظمة الإنسان بصيغة بليغة في فلسفة نيتشه، ليس إلا حب القدر، لا يطلبُ المرءُ شيئاً لا في ما مضى ولا في ما سيأتي، هنا يتقاطع نيتشه مع الفلسفة الرواقية، لكن قبل انفتاح ممر الكهف على زينون وأتباعه، فمن الأجدر بنا مصاحبة أبيقور.
بداية مُضحكة
الضحك يعبرُ عن تفاعل الإنسان مع مظاهر اجتماعية ومشاركته الحياة مع الآخرين، ولو رأيتَ من يضحكَ مع نفسه فذلك يمكن تفسيره بأنَّه قد تذكرَ موقفاً قد مرَّ عليه سابقاً، وهو يرغبُ في استعادة أجوائه المحايثة، من خلال الضحكة. والأهمُّ في هذا الإطار أنَّ بداية الفلسفة مطبوعة برنين الضحكة، وما برحَ الاعتقادُ سائداً بأنَّ أول من نزّل الفلسفة من السماء إلى الأرض هو سقراط، غير أنَّ هذه المسلمة التاريخية تتجاهلُ الإرهاص الذي سبق المبادرة السقراطية، صحيح أن فيسلوف أثينا رأى أنَّ المساعي الرامية لتمكين المرء من معرفة نفسه، يجبُ أن تسبق النظر إلى السماء، لكن الضحكة التي أطلقتها الفلاحة من تعثر طاليس وهو يمشي، متأملاً السماء، كانت نبوءة بمنحى آخر للتفسلف، ومن هذا المنطلق نفهم مغزى كلام ديموقريطس "الضحكة لسان الحكمة".
من المناسب هنا الإشارةُ إلى ما يُسَردُ عن طاليس؛ إذ دأب على انتقاد أولئك الذين لا شغل لهم سوى تكديس الثروات، وإدارة الأملاك إلى أنْ اعترض عليه بأنَّه ينتقدُ شيئاً لا يستطيع تحقيقه، فإذا به يكرس علمه لغاية الفائدة والربح، وباشر التجارة إلى أن كسب أرباحاً في غضون سنة تفوق ما يصيبه أكثر الناس خبرة ودراية في هذا المضمار. أياً يكن الأمر فما يهم هو علاقة الفلسفة بالضحك، فإن ما رشح من المتون الفلسفية، أبان عن الجانب المرح في هذه الرياضة العقلية، يقولُ أبيقور "يجبُ أن نضحك ونتفلسف معاً"، وهذا المبدأُ ليس سبباً وحيداً وراء الاحتفاء بفيلسوف الحديقة في العزلة، بل إدراكه العميق للعاهات الناجمة من الخوف وتجاهل الفرصة الوجودية والتمتع بها، يحدوُ بك إلى متابعة حكمه ورسائله بالاستمرار. لا يرتبطُ التفلسفُ بمرحلة محددة، بل يجبُ أن يكونَ الاهتمام بهذا المجال جزءاً من أجندة المرء على مدار العمر؛ لأنَّ من يقولُ إن وقت التفلسف لم يحِن بعد، أو فات الأوان، حاله كحال من لا يتذوق السعادة ويتجاهلها؛ لأنها أتته في غير موعدها. ومن المعلوم أنَّ التفلسف لن يكون إلا عبثاً وتشدقاً بالحكم والمقولات، إذا لم ينفعك عملياً ويحسن من نمط تفكيرك وسلوكياتك، لعلَّ من أهم ما يصبو إليه الإنسان من خلال الانشغال بالفلسفة هو تحقيق الحرية والاستقلالية، والفوز براحة البال ومن أوتي هذا الحظ لا يزعجُ نفسه ولا غيره.
تفيد الحكمة الأبيقورية بأن الحرية هي أعظم خيرٍ نفوز به. ونحن بصدد موضوع التفلسف نعلم بأنَّ أعرافنا الثقافية لا تستيغُ الفلسفة إلى الآن، ويتم الاستهزاء بها ونعتها بالفذلكة، وهذا الموقف متوقع؛ لذا يقول إبكتيتوس إنَّ من لديه رغبة مخلصة في اكتساب الفلسفة، يجبُ أن يعد نفسه لسيل من الكلمات والعبارات الساخرة تنهال عليه من كل الجهات. ويغيب عن الساخر أن ما يقوله هو نوع من التفلسف. لا يزالُ هناك متسع في ممر الكهف لعدد آخر من الفلاسفة سينضم إبتكتيتوس لاحقاً مُتصفحاً "المختصر" برفقتنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.