خلال مشاهدة مقطع من البرنامج الساخر "جو شو" تحدث مقدم البرنامج عن أن سبب الحرب في أوكرانيا هو رفض موسكو انضمام كييف للاتحاد الأوروبي، وهو كلام غير دقيق لا يفرق بين موافقة روسيا على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ورفضها انضمامها لحلف الناتو. وكذلك كثيراً ما نشاهد نقاشات تشير إلى عدم إدراك أوجه التداخل والافتراق بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو رغم حضورهما المباشر في عالمنا العربي والإسلامي.
دوافع النشأة وطبيعة الأدوار
إثر الدمار الذي تعرضت له القارة الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وبروز الخطر السوفييتي مع سيطرة موسكو على شرق أوروبا وصولاً إلى أجزاء من العاصمة الألمانية برلين، وتقسيم ألمانيا إلى دولة غربية وأخرى شرقية، وإجراء الاتحاد السوفييتي تجربته النووية الأولى عام 1949، شكلت واشنطن حلف الناتو في عام 1949 ضمن 12 دولة حليفة بهدف حماية أوروبا من التهديدات السوفييتية، وبمرور الوقت توسع حلف الناتو، وبالأخص عقب تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1990؛ حيث وصل عدد الدول الأعضاء بالناتو إلى 30 دولة من بينها دول كانت خاضعة للنفوذ السوفييتي؛ مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا فضلاً عن دول البلطيق التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي نفسه؛ مثل لاتفيا ولتوانيا وإستونيا، أي أن الناتو قبل كل شيء هو حلف عسكري.
وبالتزامن مع تأسيس حلف الناتو، انشغل الساسة والمفكرون الأوروبيون بإيجاد آلية تمنع تكرار حدوث حروب جديدة في أوروبا، ورأوا أن الصراعات القومية بين الدول الأوروبية هي السبب في اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. وطرح الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه فكرة إنشاء كيان عابر للقوميات يدمج المصالح المشتركة للدول الأوروبية، ويسوّي النزاعات بشكل سلمي، ويعتمد على بناء تكامل اقتصادي فوق وطني يعرقل قدرة كل دولة بشكل منفرد على توظيف اقتصادها لخوض حرب جديدة.
بحلول عام 1951 تأسست السوق الأوروبية المشتركة للفحم والصلب بعضوية 6 دول من بينها ألمانيا وفرنسا، ثم تطور التكامل الأوروبي بمرور الوقت ليشمل جوانب متنوعة أمنية وتعليمية وقانونية وصولاً لتأسيس الاتحاد الأوروبي عقب اتفاقية ماستريخت في تسعينيات القرن الماضي وتدشين عملة أوروبية موحدة هي اليورو، أي أن الاتحاد الأوروبي نشأ بالأساس كمنظمة للتكامل الاقتصادي ثم اتسع حجمه ليشمل حاليا 27 دولة، كما امتد نطاق عمله مع حقبة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت تلاشي الخطوط الفاصلة بين القضايا الداخلية الأوروبية والقضايا الخارجية، باعتبار أن الأوضاع الداخلية في القارة العجوز تتأثر بما يحدث في الجوار الأوروبي، وهو ما دفع الاتحاد للانخراط في أنشطة عسكرية وأمنية محدودة ضمن نموذج إدارة الأزمات، فأرسل قرابة 3 آلاف جندي في 6 مهام عسكرية في البلقان وإفريقيا، كما شارك في مهام تأهيل وتدريب أجهزة الأمن بالحكومة الأفغانية السابقة، وأرسل بعثات أمنية لإصلاح قطاعات الأمن في أوكرانيا وجورجيا والعراق.
معوقات الشراكة الاستراتيجية
توجد عدة معوقات تعرقل تحول العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والناتو إلى شراكة استراتيجية على المستوى المؤسسي رغم تشاركهما في ساحة العمل الأساسية بأوروبا، ووجود العديد من القيم المشتركة والمخاطر مثل التهديد الروسي والإرهاب والتهديدات السيبرانية. ومن أبرز تلك المعوقات وجود دول أعضاء في إحدى المنظمتين على خلاف مع دول أعضاء في المنظمة الأخرى، وهو ما يتجلى في الخلاف التركي القبرصي، فتركيا ترفض انضمام قبرص للناتو، بينما ترفض قبرص رفقة العديد من الدول الأوروبية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي خوفاً من تغيير هوية الاتحاد.
وكذلك تشكل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مجموعة غير متجانسة، لكل منها ثقافات سياسية وأمنية متعددة، فعلى سبيل المثال تميل فرنسا وبريطانيا وأمريكا إلى رؤية التهديدات الموسومة بالإرهابية من منظور الإجراءات العسكرية، بينما ينظر العديد من دول الاتحاد الأوروبي من منظور التعاون القضائي وإنفاذ القانون. كما تختلف النظرة للتهديدات ذات الأولوية لكل دولة، فالتهديدات في المنظور الأمريكي غير تلك الموجودة لدى تركيا أو اليونان أو بولندا، وهو ما ينعكس على التخطيط العسكري لكل دولة ونسب إنفاقها على التسليح، مع ملاحظة أن الاتحاد الأوروبي تأسس كمشروع يهدف لتجنب خوض حروب جديدة في القارة الأوروبية، وهو ما يعرقل أي توجهات بعسكرة الاتحاد أو تعميق انخراطه مع منظمة عسكرية مثل الناتو.
وأيضاً تلعب عضوية أمريكا في الناتو دون الاتحاد الأوروبي دوراً في عرقلة التعاون بين الجانبين في مشاريع التعاون الصناعي العسكري، فألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا تصنع بشكل مشترك طائرة "يوروفايتر"، فيما تصنع فرنسا طائرتي "رافال وميراج"، وهذا النمط يضر القدرة التنافسية الاقتصادية الأمريكية في مجال الصناعات العسكرية، فالطائرات المقاتلة أمريكية الصنع تمثل ثلث الطائرات التي تمتلكها الدول الأوروبية، وتنظر واشنطن إلى مبادرات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالتصنيع العسكري على أنها مبادرات حمائية تهدف لاستبعاد الصناعة الأمريكية من عقود الدفاع الأوروبية.
مساحات التعاون
رغم المعوقات المذكورة، يعمل مخططو الاتحاد الأوروبي والناتو على تنسيق جهودهم عبر الاستفادة من أدوات القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي والقوة الخشنة للناتو. وقد أصدر الجانبان في عام 2016 إعلاناً مشتركاً حدد سبع مجالات للتعاون تشمل: مواجهة التهديدات المختلطة؛ والتعاون العملياتي في مجال الأمن البحري، والأمن والدفاع السيبراني؛ وتعزيز القدرات الدفاعية، والتعاون في الصناعات العسكرية والبحوث، والتمارين المشتركة، ودعم الشركاء.
وانعكس إعلان 2016 على أرض الواقع في مجال الأمن البحري على سبيل المثال حيث دعم الناتو عبر عملية "حارس البحر" التي ينفذها في البحر المتوسط لمكافحة الإرهاب عملية الاتحاد الأوروبي "صوفيا" الخاصة بمكافحة الهجرة غير الشرعية في جنوب ووسط البحر المتوسط التي بدأت في عام 2015، كما انخرطا معاً في تنفيذ حظر توريد الأسلحة بحرا إلى ليبيا الذي فرضه مجلس الأمن، فضلاً عن التعاون مع عملية إيريني التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في عام 2020 بدلاً من العملية صوفيا لمراقبة السواحل الليبية ومنع توريد أسلحة لليبيا، وحظر تهريب النفط الليبي.
وفي عام 2018، وقع الجانبان على إعلان مشترك جديد يدعو إلى إحراز تقدم سريع في أربع مجالات رئيسية تشمل: التعاون العسكري؛ ومكافحة الإرهاب؛ ومواجهة المخاطر الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، والاهتمام بالمرأة والسلام والأمن، كما تم تحديد قرابة 74 نقطة عمل كمواضيع فرعية للتعاون.
وفي المحصلة، فإن تعزيز قدرات الناتو والاتحاد الأوروبي يقوي كل منهما الآخر، وفي ظل حرب أوكرانيا والتهديد النووي السوفييتي تحرص أوروبا على الاحتماء بمظلة الحماية الأمريكية مما يدفع باتجاه مزيد من التعاون بين الاتحاد والناتو، ولكن في ذات الوقت يمثل اختلاف الأولويات داخل الدول المكونة للمنظمتين عائقاً أمام التحول إلى شراكة استراتيجية مؤسساتية، وهو يوضحه انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وتهديد رئيس وزراء المجر مؤخراً بأن فرض حظر على النفط الروسي خط أحمر يمسّ وحدة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يؤثر بالتبعية على مساحات تعاون الاتحاد مع الناتو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.