“غرارين عيشة”.. الفيلم المغربي الذي عاد بي إلى زمن الفن الجميل!

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/09 الساعة 11:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/09 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
الفيلم المغربي "غرارين عيشة"

إلى الزمن الجميل يعود بنا فركوس بفيلمه الجديد "غرارين عيشة"، كعادته يبدع الفنان المراكشي أيما إبداع في تجسيد دور الرجل المغربي المثقل بهموم الحياة، فعهدنا به هو هذا، وللرجل تاريخ طويل مع هذا الثوب التلفزي ومع غيره من الأدوار التي حفرت في ذاكرة المغاربة، فمن منا ينسى فيلمه "صمت الليل" الذي يجيد فيه فركوس دور الأب الجني الذي يسكن إحدى الدور ويرفض الخروج منها، رغم محاولات سكانها الجدد، هذا الفيلم ربما إحدى أيقونات التلفزة المغربية، وفيلمه الآخر "ولد مو" الذي يلعب فيه دور الابن البار الذي يسعى لإرضاء أمه بشتى الطرق، وحتى حين يريد أن يدخل القفص الذهبي، فإن أمه هي من تختار العروس، لنكتشف في النهاية أن الابن يقع في حب ابنة الجزار الذي جسده الفنان الكبير الراحل عبد الجبار الوزير، رحمه الله.

إذا هي نوستالجيا لا تنتهي مع فركوس، ذكريات الزمن الذي كانت التلفزة المغربية بعزها -كما يقول المغاربة- واليوم نحن أمام مشهد أعتقد أنه آخر فصول مسرحية التلفزة المغربية، خاصة أننا انتظرنا طويلاً تحسن الحلة الإعلامية لكن دون جدوى، وكما يقال: "لا جديد تحت الشمس".

والحق أننا كمن يطلب الماء في عز الصحراء، أو كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فلا ينتظر من القائمين على التلفزة المغربية وهم ممن عمر طويلاً دون أن يحالوا على التقاعد أو يستبدلوا بآخرين أفضل، ويبدو أنهم لن يتزحزحوا عن كراسيهم إلا أن تحل مصيبة الموت ويأخذ البارئ أمانتها، فهكذا عهدنا الإدارة في الوطن العزيز والعالم الثالث على العموم، يظل المسؤول في منصبه من يوم ولدته أمه وإلى آخر رمق، وحين ذلك يعهد لها للورثة أو المقربين، وفي المناصب في المقربين أولى، كما هي القاعدة في هذا الوطن الحبيب.

هكذا إذاً ومع هذا الواقع المرير الذي تعيشه التلفزة المغربية خاصة والإعلام المغربي عامة يطل علينا سي فركوس من مدينة مراكش الحمراء عاصمة الجنوب وعاصمة المرابطين، ليضعنا في قالب درامي مغربي أصيل مشوق وماتع.

لماذا يا عيشة؟

عيشة فتاة مغربية جميلة وصلت إلى سن الزواج، وها هم العرسان يتقدمون لنيل رضاها وتأدية قسم المحبة والود، وكلهم أمل في أن تقبل رجاءهم، ومن هؤلاء الشاب الخلوق "قدور".

لقدور سمعة طيبة في القبيلة، ولا يمكن لعيشة إلا أن تقبل به زوجاً، وهذه عادة بنات الأصل، فما عهد المغاربة الأحرار بأن يردوا الشبان الأخيار مصدقاً لقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"، وقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه".

بالتالي تتم الخطبة في أحسن ما يكون من الأجواء.

إنما لا تنتهي الحكايات دائماً كما يحدث في الرسوم المتحركة وقصص ديزني، فبمجرد خطبة عيشة لقدور، تبدأ القصة التي ستصبح مثلاً مغربياً دارجاً؛ إذ كلما مرت عيشة بقوم من الفتيان إلا وسمعت من الإطراء ما يتعلق به لب المرء وتذوب معه النفس وتميل ميلة واحدة، فها هم كل الشبان يعضون الأنامل من الغيظ بعدما ظفر قدور بعيشة، وها هي عيشة تسمع المديح الذي لا ينقطع، وها هي ذي ترى أنها تستحق أكثر مما هو متاح أو ربما رجلاً هو أوسم وأغنى وأعلى نسباً من قدور.

تطلب عيشة الطلاق، ويتم لها ذلك، رغم المعارضة الشديدة من الأهل فمن أين لهم بقدور، إلا أن "الفأس وقعت في الرأس"، وعيشة قررت ما لا رجعة فيه، وطلاقها بات واقعاً لا مفر منه.

تطلقت عيشة وآن لها أن تتفرغ للمعجبين الذي ملؤوا أسماعها شعراً هو من بواقي عنترة ولبيد؛ لكن لا شعر ولا شعير ولا قصائد ولا غزل، كل شيء توقف فجأة، كأن الأمر كان مخططاً له، قدور رحل والمعجبون كذلك، بعد أن أوقعوها في المحذور وغرروا بها، لتهيم  المسكينة تحت هول الصدمة على وجهها في الدوار وهي تردد "ها عيشة تطلقت يا غراري عيشة… ها عيشة تطلقت يا غرارين عيشة".

تناقلت الأجيال قصتها الحزينة التي أضحت عبرة لمن أعماه الطمع حتى أنساه فضل من حوله، وكرم من أحسن إليه، وشكر من تقرب منه بالخير والمعروف.

سعيد المغرر به

سي سعيد رجل مغربي يعيش عيشة بسيطة للغاية فله زوجة وطفلان وأم وأخت وعمل يدر عليه رزقه، ولا شيء غير عادي وغير مغربي، فمع ما أمسى اليوم لم نعد نرى من مغربيتنا إلا اللباس والدارجة، فقد جد علينا ما هو ليس منا من ثقافة غربية وهجينة لا تستسيغها النفس النقية، ومهما تم الترويج لها عبر الإعلام ومهما أحيطت بكلام سحرة العصر الجديد أصحاب "اعمل ما تحب؛ اهجر ما لا يريحك، اصنع المعجزات، فكر في ذاتك" إلا أن النفس الأصلية تمقتها، ولله الحمد.

سعيد يعمل لدى الحاج كمستخدم في محل لبيع الأعشاب، وهذا العمل كما قلنا يكفيه لعيل أسرته والصغيرة ويضمن له سيارة يتنقل بها هنا وهناك، ولكن كل هذا سيتغير في لحظة واحدة أو جلسة واحدة "دون تعليق"، فماذا حدث؟

لدى سعيد صحبة من ثلاثة رجال، وعلى يبدو لكل واحد منهم مشروعه الخاص الذي يغنيه عن الاشتغال لدى الآخرين، وفي جلسة مغلقة وبضربة رجل واحد يتفق الثلاثة على أن حياة سعيد ليست كما يظن، وأن الحاج يتلاعب به ويبني على ظهره ثروة قارونية، بينما سعيد بائس بالكاد يجد ما يطعم به أهله.

أصابت كلمات الأصدقاء سعيد في مقتل، و يبدو أنها وصلت إلى حيث تقبع الأنا متجاوزة الأنا العليا، فما تذكر فضل الحاج ولا ما يملكه، بل بدا له أن حياته تعيسة تعاسة هي أقرب لرواية "البؤساء"، ولو أراد الكاتب أن يزيد الفيلم بضع دقائق لأدخلنا في وعي سعيد، وكنا سنرى كيف أمسى ينظر إلى كل ما يملك، فكل ما يملك الآن لا شيء، فكل شيء أخذه الحاج البرجوازي الصغير الذي يسرق عرق البروليتاريا التي يمثلها سعيد، والذي لم يكن ينقصه وهو يشرح لزوجته قراره بإنهاء ارتباطه بالحاج وبداية تأسيس مشروعه الخاص سوى فقرات من البيان الشيوعي، ينهيها بجملته التي لا تفارقه: "بدون تعليق".

وبدون تعليق تبدأ مغامرته في البحث عن فرصة للارتقاء الاجتماعي وتحقيق ذاته التي دمرها الحاج، ودون جدوى يحاول زميله في العمل وزوجته وأمه وحتى أخته التي يعني فك ارتباط سي سعيد مع الحاج تدمير مشروع زواجها من ابن الحاج "سعيد".

يبيع سيارته التي يحب ويضيفها على ملايين جمعها؛ إلا أن أحلام برجوازي المستقبل تتحطم على صخرة الواقع، فلا المحل هو بالمواصفات التي يريد ولا أمواله كافية لأحلامه، وحتى حين يقصد أصدقاءه الثلاثة الذين أقنعوه ببناء حياته بعيداً عن الحاج ووعدوه بمد يد العون حين يحتاج ذلك، يتهربون منه الواحد تلوى الآخر.

يفقد سعيد ثقة زوجته وأمه وأخته، وكذلك ثقته بالآخرين بعد أن أثبتت له الأيام أن أصدقاءه غرروا به ووقع له ما وقع لعيشة المسكينة، وهذا ما وقف عليه حقيقة في لحظة مفصلية حين يتصل بصديقه الذي يخبره بأنه خارج المغرب في رحلة إلى تركيا، بينما هو جالس في المقهى الذي اعتادوا ارتياده الأربعة وسعيد يجلس وراءهم متخفياً. وبعد انتهاء المكالمة يتغامز الأصدقاء ويتلامزون وسعيد يرى كل شيء، وفي لحظة يقاطع قهقهاتهم المتعالية ماراً من أمامهم وبدون تعليق.

يعود سعيد لرشده أخيراً ويجد أمامه زوجة مطيعة وأماً محبة وأختاً طيبة، ويقف على حسن سريرة الحاج بعد أن أخبرته زوجته أن الأخير تكفل بمصاريف دراسة أطفاله وكذلك بدينه، فيستحي سعيد من نفسه بعد أن فاض كرم الحاج حتى ملأ بيت سعيد وما حوله.

يسدل الستار على أحداث الفيلم الماتع بعودة المياه إلى مجاريها بين سعيد والحاج وبين خالد وصفاء أخت سعيد؛ هذين الآخرين يقيمان حفل زفافهما الذي هو آخر مشاهد فيلم "غرارين عيشة".

الرسائل: 

يحمل الفيلم رسائل متعددة حسبنا منها ما يلي:

الطمع طاعون: على المرء ألا يجري وراء الطمع فما تظنه، سينقذك ربما فيه هلاكك، وليس المرء بما يملك من مال إنما بما يملك من أحبة.

لا وجود لخِل وفيّ: ترى العرب أن الصديق الوفي مجرد خرافة وهو من المستحيلات الثلاثة المعروفة؛ والفيلم يؤكد على هذه النقطة فمن كان يعتقد سعيد أنهم خلان أوفياء ثبت نفاقهم وشر سريرتهم.

العائلة نعمة عظيمة: في الوقت الذي كان بإمكان الزوجة أن تتمرد على سعيد لكن الزوجة المغربية الأصيلة تأبى إلا أن تكون السند لزوجها في المحن، فزوجة سعيد مع أنها تتذمر من قراره إلا أنها تحافظ على علاقتها بزوجها وأم زوجته التي تعتبرها أماً كما نرى، ثم الدور المهم الذي تلعبه الأم في حياة سعيد، الدور المحور في حياتنا جميعاً تلعب الأم فهي المدرسة قبل أي مدرسة، وهي العضد الذي يتقوى به المرء، وهي التي وإن غضبت فلا يمكن إلا أن تحب من ملء قلبها، ولا ننسى أن دور الأم تجسده الفنانة القديرة المحبوبة "فضيلة بنموسى".

نهاية لا بد منها

هكذا إذن استطاع هذا الفيلم أن ينقلنا إلى عالم مواز، عالم اشتقنا إليه وحرمنا منه، العديد مما لا يسعنا ذكره.

لقد وجه فركوس في دقائق رصاصة الرحمة للإنتاجات التلفزية الرمضانية التي لا يمكن أن نذكر منها ما  يستحق الإشادة إلا "فتح الأندلس"، وما دونه فأقل ما يقال عنه "حامض" لا يستحق المشاهدة ولا التعليق، وهو استمرارية لحالة السقوط الحر للتلفزة المغربية التي يدفع المغاربة من حر مالهم الضرائب لتمويلها، إلا أنها تسير عكس ما يريدون ويبتغون، وها هو فيلم "غرارين عيشة" يثبت أنه لا حاجة للتفلسف والتنميط وطلب المواضيع خارج الثقافة المغربية الأصيلة المتجذرة في عمق التاريخ ذات العبق الإسلامي البهي.

لا حاجة للمغاربة بمواضيع خادشة للحياء لا تحترم خصوصيتهم وتنتهك حرمة هذا الشهر الفضيل تحت مسمى "الفن"، ويا ليت شعري لو كان فناً، إنما هو عفن وفضلات القوم تعرض على المغاربة ليل نهار دون حسيب ولا رقيب، بل ويصر بعض ما يسمون أنفسهم (فنانين) على تحدي المجتمع مطالبين إياه بتغيير القناة إن لم تعجبهم البرامج!

وهذا العجب العجاب ما سمعنا به قبل هذا، ولا عهدنا به، فعوض أن يعمل المبدعون على تحسين عروضهم، ها هم يفرضون كسلهم وتفاهتهم علينا.

أخيراً، هنيئا لكل من شارك في إنجاز هذا الفيلم من قريب أو من بعيد، وكل التقدير لأولئك الذين ما زالوا يحملون شعلة الإبداع في زمن اللاإبداع.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
علي الرباج
كاتب مغربي
كاتب مغربي
تحميل المزيد