عُقدت في القاهرة أواخر نيسان/أبريل الماضي، وعلى نحو مفاجئ، قمة ثلاثية ضمت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والملك الأردني عبد الله الثاني، وولي عهد أبوظبي حاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد. القمة، التي لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام، بدت لافتة جداً، ليس فقط لطبيعة المشاركين فيها، وإنما لتزامنها مع اقتحامات المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى، ولارتباطها السياسي الواضح والوثيق مع القمة الثلاثية المصرية- الإماراتية- الإسرائيلية التي عُقدت في مدينة شرم الشيخ أواخر مارس/آذار الماضي.
لا شك في حقيقة ارتباط قمة القاهرة سياسياً وزمانياً وبشكل مباشر باقتحامات الأقصى والتوتر في فلسطين بشكل عام، بعد شهور حافلة شهدت توغلات واعتقالات واغتيالات إسرائيلية؛ وهو ما خلق احتمالاً بانفجار واسع في الأقصى والقدس وغزة وبؤر الاشتعال الأخرى في الضفة الغربية.
في السياق، لا بد من الانتباه والتمييز والتذكير بمواقف أطراف القمة الثلاثة-كما كتبنا هنا الأسبوع الماضي- من اقتحامات الأقصى. فالموقف المصري جاء ضبابياً وغامضاً وحتى سيئاً ومنحازاً أكثر إلى الرواية الإسرائيلية لجهة المساواة بين الضحية والجلاد، كما ضغطت القاهرة على حماس لعدم فتح جبهة جديدة من غزة، عبر وقف مشاريع إعادة الإعمار المصرية على علّتها وتواضعها، وعرقلة دخول البضائع والمستلزمات الإنسانية الضرورية عبر معبر رفح وبوابة صلاح الدين الحدودية، وربما من هنا يمكن فهم إطلاق الصواريخ في الفترة الأخيرة من لبنان لا من غزة نفسها، ردّاً على إقفال الاحتلال للمعابر والممارسات الإسرائيلية بشكل عام.
بدا الموقف الإماراتي أفضل نسبياً من المصري، ولو جاء مضطراً وعلى طريقة مكره أخاك لا بطل، كونهم في أبو،ظبي فهموا دلالات الأحداث وما أثارته من غضب شعبي عارم عربياً وإسلامياً، وبالتالي تداعياتها السلبية على عملية التطبيع الثنائية والجماعية التي أطلقتها الإمارات، والموافقة على تسليم قيادتها الإقليمية لإسرائيل؛ حيث تبدو أبوظبي أحياناً وكأنها كمساعد أول لتل أبيب في تخطيط وتنسيق وتنفيذ السياسات التطبيعية.
الموقف الأردني كان الأفضل والأعلى سقفاً عربياً من جانب الدول المطبّعة طبعاً، مع إدانات صريحة وقوية ومتعددة المستويات تشريعية وتنفيذية، وهذا يعود إلى فهم عمان مغزى الاقتحامات ودلالاتها، بما في ذلك النيل من الوصاية الأردنية على المسجد والحرم الشريف بشكل عام؛ لذلك رفعت الصوت عالياً ضد الخطوات والممارسات الإسرائيلية، وحذّرت من تداعياتها الفلسطينية والإقليمية؛ ما دعا تل أبيب إلى التفكير وبوقاحة معهودة للردّ بحملة دبلوماسية حادة وقاسية ضد عمان، قبل أن تتلقى رسائل طمأنة من هذه الأخيرة مفادها أنها اضطرت لمواجهة الأجواء المحتقنة في الشارع الغاضب أصلاً من النظام وسياساته الداخلية والخارجية، مع الاحتفاظ ولو بهدوء وبعيداً عن الأضواء بجوهر الموقف تجاه الممارسات الإسرائيلية والإصرار على حماية الوصاية المهمة جداً للنظام وشرعيته المحلية ونفوذه الإقليمي.
بناءً على ما سبق، يمكن مباشرة استنتاج أحد أهداف القمة والمتمثل بتهدئة الملك عبد الله الثاني، وتخفيض سقف الموقف الأردني المُحرج للآخرين، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة أصلاً في الاختلاف بين البيان الختامي للقمة الذي وافق عليه الملك طبعاً والبيان المنفرد الذي أصدرته عمان وبدا موجهاً للشارع الأردني أساساً، وتضمن إدانة الملك الصريحة للاقتحامات، بينما اكتفى البيان الثلاثي بالمطالبة بوقف التصعيد بكافة أشكاله، وعملياً ساوى بين الطرفين في المسؤولية دون إدانة الاقتحامات والممارسات الإسرائيلية القمعية بشكل مباشر وصريح.
في السياق الفلسطيني أيضاً، سعت القمة الثلاثية، ولا شك، إلى تقوية السلطة الفلسطينية إثر ملاحظة ضعف رام الله وعزلتها خلال التطورات الأخيرة، والتوافق على تحسين ورفع مكانتها رغم الخلافات المصرية- الإماراتية معها، وفي السياق السعي أيضاً إلى تحجيم ومحاصرة أي إنجازات سياسية ومعنوية حققتها حماس وفصائل المقاومة في الفترة الماضية.
من هنا يمكن فهم إشارة البيان الختامي إلى الحفاظ على الوضع الراهن، ليس فقط في الحرم القدسي، وإنما في الأراضي الفلسطينية بشكل عام، ومنع الانفجار والتغطية على ذلك بالثرثرة المعتادة حول الأفق السياسي للقضية الفلسطينية الذي يعرف المجتمعون أن لا فرصة له أساساً نتيجة تعنّت التطرف الإسرائيلي والانشغال، أو للدقة الاستنزاف الأمريكي بملفات وقضايا إقليمية ودولية أخرى، مع دعم ورعاية واشنطن طبعاً لجهود أطراف القمة الثلاثية من أجل الحفاظ على التهدئة ومنع انفجار الأوضاع بما يرتد سلباً على الاستقرار في فلسطين والإقليم برمته.
فلسطينياً أيضاً، بدا لافتاً بالطبع غياب الرئيس محمود عباس عن قمة القاهرة تماماً، كما كان الحال مع قمة شرم الشيخ الثلاثية التي سبقتها نتيجة خلافات مع السلطة "على علاّتها" المتحفظة سياسياً والمتوجسة من سيرورة التطبيع وتداعياتها السلبية على القضية الفلسطينية في غياب الأفق السياسي للحراك الأخير، مع الانتباه طبعاً إلى رغبة عربية أمريكية في إبقاء السلطة نفسها تحت الوصاية سواء الأردنية والمصرية وحتى الإسرائيلية.
إلى ذلك وفي سياق إقليمي أوسع، لا يمكن فصل قمة القاهرة الأخيرة عن نظيرتها التي عقدت في مدينة شرم الشيخ المصرية الشهر الماضي، والتي غاب عنها الملك الأردني لأسبابه الخاصة التي رأينا تجلياتها خلال اقتحامات الأقصى الأخيرة، وفي الحقيقة يمكن اعتبارها بمثابة شرم الشيخ 2؛ كون الأهداف هي نفسها حتى بغياب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت الغائب الحاضر في القاهرة تماماً، كما كان الحال مع الملك الأردني في شرم الشيخ.
القمة الثلاثية الأخيرة ناقشت أيضاً كيفية العمل على مشاريع إنسانية واقتصادية واجتماعية في الضفة الغربية وغزة، وكيفية إدخال الملك الأردني في الصورة وطمأنته وتهدئة مخاوفه من قصة صفقة القرن التي تندرج المشاريع محل البحث ضمن شقها الاقتصادي.
بدا لافتاً جداً وغير مستغرب أيضاً تطرق البيان الختامي لقمة القاهرة إلى أزمات إقليمية، تحديداً في قطاعي الغذاء والطاقة، والإشارة إلى البحث عن حلول جماعية لها، مع الانتباه إلى أن الإمارات فقط بإمكانها تقديم المساعدة لحلّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في مصر والأردن بهذين القطاعين تحديداً؛ ما يؤكد من جهة أخرى فكرة قيادة الإمارات للقمة والحراك العربي المرتبط بها في غياب تل أبيب المباشر؛ حيث تتراجع أبوظبى بحضورها إلى المرتبة الثانية.
هنا لا بد من التذكير بالطرح الذي قدمه الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتزوغ نهاية مارس/آذار الماضي، وتضمن اقتراح تعاون إقليمي لإقامة مستودعات غذاء للطوارئ بمشاركة عربية إسرائيلية واسعة، في تقبل أردني صريح للموجة الأخيرة من التطبيع التي أطلقتها الإمارات، ولو تحت ستار اقتصادي اجتماعي.
في كل الأحوال، وسواء تعلق الأمر بشرم الشيخ 1 أو 2، فنحن أمام تذاكٍ وتحايل على القضية الفلسطينية وهروب موصوف من جوهرها السياسي وتكريس تطبيع عربي إسرائيلي، وتعاون إقليمي تحت ستار تكريس التهدئة ونزع فتيل التوتر والانفجار فلسطينياً ولو مرحلياً، مع الانتباه أيضاً إلى أن أزمات الغذاء والطاقة لا تحلها إسرائيل؛ حيث لا دور إيجابي لها هنا ولا بأي من أزمات المنطقة الأخرى التي تحتاج بحكم الضرورة والوقائع إلى تكامل وعمل عربي مشترك لا يمكن أن تنجزه منظومات الاستبداد والفساد العاجزة الفاقدة للشرعية، والباحثة عنها في الخارج، سواء من قبل إسرائيل أو راعيتها الولايات المتحدة، وقبل ذلك وبعده في غياب الشفافية والنقاش الحرّ الديمقراطي المفتوح وقواعد الحكم الرشيد، حول أسباب وجذور الأزمات والمخارج، والطرق المناسبة لعلاجها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.