اعتدتُ كلما شارف جواز لي على انتهاء صلاحيته أو امتلأت صفحاته أن أقوم برحلة أو مغامرة بالذهاب لمكان يمثل مشكلة، أو صعب الولوج إليه، قبل أن أغير دفتر جواز السفر. ففي العام 2014 قُبيل انتهاء جواز قديم ذهبت للقدس ووجدت الدولة العبرية لم تعد تضع الأختام بالجواز فاستبشرت خيراً وصرت أصلي الجمعة الأولى في العام في المسجد الأقصى!
أما هذه المرة فقد امتلأت صفحات الجواز علاوة على اهترائه ويكاد أن تنخلع إحدى جلدتَي غلافه حتى ضيق عليّ في خروجي الأخير من روسيا الصيف الماضي؛ حيث بالغت ضابطة الجوازات غير اللطيفة في الفحص والمحص والأسئلة حينها حتى ضقت ذرعاً وظهر ذلك في لهجتي وردودي الباردة السخيفة منتوياً أن أغير هذا الدفتر قريباً جداً.
لكن لا يزال به صفحتان خاليتان، فقررت الذهاب لبلد مشكل، ماذا يا ترى؟ كوريا الشمالية مثلاً أو إيران؟ ولأن الوقت رمضان فقلت كوريا الشمالية ستفسد الشهر عليّ ولا تناسبني الآن، علاوة على نيتي دخولها من روسيا لا من الصين كما يفعل آخرون، لكنه صار صعباً في ظروف الحرب الأوكرانية الآن سواء من ناحية التصاريح أو من ناحية إغلاق الطرق لروسيا ومنع الطيران فضلاً عن جوازي المهترئ!
قلتُ إذاً فلتكن إيران، وأفطر على المطبخ الإيراني الشهي وأتجول في بازارات أصفهان وعمائرها وأصلي في مسجد نصير الملك وبالمرة أستخدم أربع مئة يورو محبوسة من أيام كورونا كنت قد دفعتها في أوتيلات قبل كورونا مباشرة في فبراير 2020 ثم أتت الجائحة والحظر وإلغاء الطيران آنذاك؛ لتبدد كل الخطط وتؤجل الرحلة عامين مع الحصول على فاوتشرات بقيمتها لعدم ارتباط أغلب النزل الإيرانية بالمواقع المعتادة مثل بوكينج وغيرها.
كنت أحجز من مواقع إيرانية خالصة، حتى التقويم فيها فارسي -وأنا لغتي الفارسية تعيسة جداً رغم حبي لها، ولم تتخطَّ معرفتي باللغة الفارسية أسماء الأيام والأعداد وبعض كلمات أو عبارات هنا وهناك- ففتحت تقويماتٍ ثلاثة: المسمى جريجوري (الأفرنجي) والهجري والجلالي (الفارسي)، فكنت أختار اليوم في تقويمنا وشهورنا (مارس، وأبريل.. إلخ أو شعبان ورمضان.. إلخ)، لأحدد ما يناظر لديهم أي شهر تقريباً، فشهر أردبيهشت (ثاني شهر في السنة) يناظر جزءاً من أبريل/نيسان وجزءاً من مايو/أيار وكذلك شهر خُرداد وهو الثالث من بعد النوروز (بداية العام) يناظر مايو/أيار ويونيو/حزيران، فتحدد إقامتك مثلاً في مدينة شيراز من يوم 19 مايو ليوم 22 مايو (نفس الشهر) أي 29/05-22/05 فتترجمها إلى التقويم الفارسي على أسهل شكل هكذا لـ30/02 - 02/03 .
وما أن انتهيت من هذه الفوضى الفلكية وحجزت نزلي وإيجار سيارتي وإلى آخره، حتى حدث الحظر الأول وجلسنا في البيوت واحتبس المال لديهم لعدم خضوع إيران للمنظومة المالية العالمية بشكل ما، فالعقوبات عليها أسوأ من العقوبات على كوبا مثلاً، فلا تجد نزلاً في AirBnB أو Booking وما شابهها وإنما صفحات بالفارسية غالباً، وإن استخدمت زر الإنجليزية تجد الصفحة لا تعمل جيداً أو أن السعر قد ارتفع!
ولأن كل شيء يتغير في عالمنا لم تعد التأشيرة سهلة ومتاحة في المطار، ولظروف كورونا لا بد من عدم المغامرة في الإجراءات كي لا يضيع وقتك في المطارات، وهذا تماماً ما كنت فعلت في دخول تنزانيا، فكاتبت مكتباً للخدمات السياحية ليحصل لي على تأشيرة إيران eVisa وهذا ما أميل إليه حين تعقد الأمور مع التأشيرات السخيفة (روسيا، أوزبكستان قديماً، إيران، والصين)، وأرسلت له المبلغ المحدد نظير التأشيرة ورسوم الخدمة فتم حظر حسابي على البايبال PayPal لمجرد أن فلاتر الحكومة الأمريكية لقطت اسم الدولة المارقة إيران في التحويل!
اضطررت لأن أشرح ثانيةً الغرض من التحويل أنه لمكتب سياحي محلي (ألماني) وعلى الأراضي الألمانية نواحي مدينة بون في Brühl تحديداً وصور للجوازات وغيرها حتى تكرموا عليّ وفكوا الحظر عن حسابي، وهي ليست المرة الأولى لي التي أقاسي فيها هذه السخافة وتضييع الوقت والجهد، فلقد أرسلت ذات مرة مبلغاً بسيطاً جداً أراد صديق من مصر تحويله على وجه السرعة لابنه الصغير في روسيا، وفعلت، لأجد حظراً بحجة أنني خالفت قوانين الحكومة الأمريكية في مصارف غير قانونية!
ففجعتني الدهشة؛ كيف عساها مجموعة طوابع بريدية أو كتاب قديم أو حتى عملة زهيدة الثمن أن تهدد الحكومة الأمريكية أو تخالف قوانينها؟ هل منعوا هواية جمع الطوابع؟! حتى فهمت أن التحويل لروسيا أصلاً ممنوع ووجب عليّ حينها أن أثبت أن هذا الطفل (ابن صديقي) ذا التسعة أعوام ليس عضواً في حزب سياسي أو منضمّاً لمنظمة ما أو أن العشرين يورو استخدمت لشراء سلاح، منتهى العبث!
فأرسلت لهم شهادة ميلاد الطفل وصورة جوازي سفره وجواز أبيه بجانب جوازي ومكالمات لفرعهم في أيرلندا بجانب الإيميلات، العملية التي استغرقت شهوراً تسعة حتى تم رفع هذا الحظر السخيف!
والآن عند دفع رسوم التأشيرة لمكتب سياحة ألماني قانوني ومشهر وتحت رقابة يأتيني الحظر الثاني، فلما أوضحت الأمر هذه المرة استغرقت أسابيع فقط لا شهور كالمرة الماضية والحمد لله! فلما تعثر استخراج الفيزا؛ لأن القنصلية في برلين تغلق أسبوعاً كاملاً بسبب النوروز، وليس يوماً وحيداً كما ظننت وهم لا يردون على الهواتف مطلقاً وأنا أفكر في الإجراءات الأخرى من إعادة حجز للفنادق من جديد، فأخبرت مكتب السياحة أنني غيرت رأيي وليعد لي الجواز فضلاً، ففعل وأعاد المال بنفس الطريق عبر الـ PayPal ليظهر اسم إيران ثانية في الفلاتر ويتم حظر حسابي للمرة الثالثة! لأحس وكأنني ابن عم السيد بوتين أو أنني أوليجارك أشكينازي كثير المال ابن فضلان فاروقوفيتش فون روتشيلد -وفكرت أنني لو كتبت فارس Persia مثلاً الاسم القديم بدلاً من إيران لم يكن أفضل حالاً، فقائمة الدول المارقة لدى السيد الكاوبوي تطول ولا يتركون شاردة ولا واردة إلا ويضيفونها لقوائمهم وفلاترهم حتى أنفاسنا صاروا يعدونها علينا ويخنقون الحريات، وانتهاك الخصوصية في بلاد الغرب يزداد؛ لذا غيرت وجهتي للمرة الثالثة.
كنت أفكر في بديل مناسب، ليقطع حبل الأفكار اتصالٌ بصديقة مغامرة لكنها أنشط مني كثيراً، فتطرقنا لاقتراحات بديلة لأنني لم أقرر بعد في الخطة (البديلة) هل أذهب لأذربيجان أم للعراق خاصة في وقت ساخن كهذا، واحتمالات تمدد أحداث الحرب الأوكرانية إلى هناك (ناجورنو كراباخ/ إقليم قره باغ الجبلي)، فقالت لي تستفز همتي لو فكرت هكذا، والبحث عن الأمان في المغامرة لن تخرج من باب بيتكم فحتى برلين ليست ببعيدة عن الأحداث!
وفي هذا هي محقة فحتى برلين ومدينتي هنا غربها صرنا نسجل اسمنا في مواقع بعض المتاجر لشراء زجاجة زيت وتضع المتاجر لنا موعداً لإحضارها من الفرع القريب، في ظاهرة أشبه بمصر بعد الحرب وحتى فترة الثمانينات بما كان يعرف باسم كوبونات الزيت Ölgutscheine/Oil vouchers وهذه يعرفها كل من عاش في الدول الاشتراكية أو كما كان يسميها الروس الطالون Талон (بطاقة التموين) لتأمين الغذاء وقت الحروب.
فقلت لها نافياً شبهة الجبن: لا عليك فلقد ذهبت لبوليفيا أيام الانقلاب على إيبو موراليس ودخلت تشيلي إبان الثورة واشتباكات الناس مع قوات الدرك Los Carabineros في الشوارع بل واحتجزت مع السائحين كرهائن في قرية نائية على جبال الإنديز في الپيرو لمدة 46 ساعة قضيناها بين الإطارات المحروقة التي وقفنا طيلة الليل لإطفائها كي لا تمتد لسيارات صهاريج الوقود المحتجزة مع حافلتي السياحة التي كنا بها، ثم الهرولة فجراً وسط دفعات الرصاص التي أطلقت على مشهد من حافلة سائحين كنديين في طريقنا وأحجار ألقيت علينا من فوق الجبال من عمال المناجم المحليين الذين لمحونا ونحن نتسلل هروباً مع ضوء الفجر باتجاه سانتا روسا لنستكمل الرحلة لأبنجاي ثم آجواس كالينتيس؛ حيث الماتشوبيتشو Machu Picchu، فلم أكن يوماً ممن يسعون للرحلات التقليدية والمعلبة في برامج الشركات السياحية، لإدراكي كمرشد سياحي في حياتي السابقة أنها أقل متعة وحرية واستفادة من الرحلات التلقائية التي تخطط لها بنفسك، فشكرتها على قدح زناد فكري وإعطائي أول الخيط.
فخرجت من الحديث عازماً على الذهاب لبغداد بالرغم من دخولي لها في ذكرى أليمة هو التاسع من أبريل/نيسان يوم سقوطها في يد الأمريكان، وأتذكر مدى الغم الذي أصابني يومها حتى أجهشت يومها بالبكاء، لكنني تذكرت أيضاً أن لي أصدقاء من الحقبة المونسترية؛ حيث تزاملنا في جامعة مونستر من عشرين عاماً تقريباً، وكنت قد زرت منهم من عاد للمغرب والأردن وفلسطين وتركيا ولم يبقَ لي منهم سوى أصدقائي البغداديين والشنقيطي في موريتانيا، لأتم عهداً قطعته على نفسي آنذاك، وكنت طالباً رقيق الحال، بالكاد أملك ثمن مصروف التيرم وزاد يومي، لئن يسر الله لي لأزورنّكم في دياركم لأطلع وأشاهد حضارة وشعب وأرض كل جزء من وطننا الكبير، وكنت من فرط تفاؤلي أشتري مما وفرت لهوايتي المقدسة بعض هذه الأدلة الورقية في عصر ما قبل الويكيتراڤيل وغيرها من الأدلة الإلكترونية، حتى لتجد الأسعار عليها ما زالت مرقومة بالمارك، في عصر ما قبل اليورو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.