بعدما كانت أكبر أحلامي.. لهذا تركت الصحافة بلا ندم ولا رجعة!

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/05 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/05 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش
الصحافة - تعبيرية / shutterstock

وأنا أتصفح بريدي الإلكتروني كالمعتاد، فوجئت بأحد الزملاء الأعزاء يسألني عن حالي، ويتساءل عن أسباب غيابي عن المشهد الإعلامي الفاسي في المغرب، وانقطاعي أو مقاطعتي لاجتماعات وندوات الصحفيين. 

بعد أن حمدت للزميل المحترم كريم اهتمامه، وشكرت له لباقة مصارحته وتأدب مكاشفته، قررت أن أفتح له قلبي وأبادله المصارحة والمكاشفة وملامسة الحقائق.

فوجدتني مجبراً على أن أسرد عليه قصتي مع الصحافة منذ نقطة الانطلاق الأولى لي في عالم الصحافة الذي دخلته وأنا ما زلت طالباً بالثانوي، بمقالات عن حيي الشعبي "فاس الجديد" نشرت لي على صفحات جريدة "لوبينيو" وبعدها مراسلاً لعدد من الجرائد اليومية والأسبوعية، ثم مكلفاً بقضايا نقابة الاتحاد العام للشغالين ابتداءً من سنة 1989، الذي كنت فيه النائب الأول لمكتبه الجهوي لجهة فاس، حيث كنتُ آنذاك ما زلتُ غِرّاً طوباوياً كثير الحلم، وكانت أحلامي بسيطة، ولكنها كانت، على بساطتها، تحيى في نفسي الأمل، وتزرع فيها الشعور الذي جعلني ولمدة ليست بالقصيرة، أقبل على العمل الصحفي بنهم، وأتمسك بعناد شديد بصحبة الصحفيين -أو من كنت أظنهم كذلك- الذين فتحت لهم ذراعيّ على وسعهما لأنهل من وهج ما كنت أظنه صحافة، لكن الأحلام شيء والواقع شيء آخر.

استمر الزميل المتسائل -بعد أن استطاب لعبة سؤال جواب- في طرح الأسئلة، الواحد تلو الآخر، فقال متسائلاً: وما الذي حدث إذن، وما الذي تغير؟

فأجبته أنني صدمني واقع الصحافة الجهوية الذي كانت حقائقه مُرة آنذاك- كما تعلم أيها المحترم، وما أظنه تغير للأسف الشديد بعدما انزاحت الغشاوة عن عيني، وقل الانبهار، وزال ما كان يتخفى خلفه أشباه الصحفيين الجهويين من زيف، وتبددت الأصباغ والمكياجات التي كانت تستر سوءاتهم، لتظهر الحقائق واضحة وانكشفت صورتها عارية متسمةً في مضامينها السوقية والابتذال والخروج عن الذوق العام، صحافة تعج بأميين ليس لديهم أي احترام لأخلاقياتها الفكرية والإنسان، ويمنعهم عن ذلك التهافتُ والتناحُر على الصغائر وحول التفاهات وبيع الكلام الفارغ، البعيد عن المبادئ والقيم والقضايا الجادة الكفيلة بتهذيب وتثقيف وتحرير الإنسان، وغيره من النقائص التي أربكت قناعاتي، ومكنت اليأس والإحباط من نفسي، وحاصرتني وخنقتني، إلى درجة أصبحت معها لا أتحمل الكثير من تلك السلوكيات اللاصحفية، والتي ما أظنني كنت الوحيد المعاني من تراكمها المؤلم، والذي على ما يبدو أنه أصبح الشعور السائد، وأصابت عدواه الكثيرين غيري، يظهره البعض ويخفيه البعض الآخر.

عاد وسألني: هل معنى هذا أنك أصبت بالضعف وتخليت عن دورك في النضالِ من أجل إعلاء كلمة الحق، ورفعت راية الاستسلام، لليأس والإحباط؟! 

أجبته: لا أبداً لم أضعف قط، وأنا كما عهدتني ما زلت حساماً مسلولاً رغم السن، وكما يقول المثل المغربي الدارج: "ما زال فالنصل ما يقطع فلبْصَل"، فإنني لم أكن يوماً ضعيفاً، ولم أترك قط نفسي فريسة للإحباط واليأس، لكن يبدو أن واقع الأوضاع والممارسات كان أقوى وأشرس، والزمن أمكر، وأنا لم أفكر يوماً في ولوج عالم الصحافة لأتعلم فنون المكر والخديعة، فقط كنت آمل تشرب فنونها وأخلاقياتها.

ورغم أنه مهما كان الإنسان قوياً، تأتي عليه لحظات يشعر فيها بالضعف، فيبحث عن الانطواء، عفواً، الاستراحة، ويبعد بنفسه عن الشرور، خاصة إذا وجد في ذاك النأي والبعد ما هو أنفع من الكثير ممن يدعون الصحافة، ويقلل من "صداع الرأس" ويفتح القريحة للكتابة وترتيب الأفكار، فقد ظللت مراقباً، وما زلت متابعاً ومنتبهاً لمكامن الخطأ في تسيير وتدبير الشأن الصحفي العام، وسأظل أدافع عن الحريات وعن الحق في التعبير عن الرأي بحرية؛ لأنه واجب لا يجوز الحياد عنه، بل أجزم القول بأنه "فرض عين" على كل مواطن يحب هذه المهنة ويرغب بأن يرى صحافة بلده في مصاف صحافات الدول التي تحترم نفسها وإنسانها . 

الأمر الذي لا يتحقق إلا باستحضار نوع من الشجاعة الأدبية ونقد الذات، والتنبيه إلى ما يحدق بصحافتنا، المتمثل في الاستغلال البشع للحريات غير المنظمة وغير المقننة، باسم حرية التعبير -التي لا يمكن إنكار القفزة الجبارة التي عرفها المغرب في مجالها- التي لن أجانب الصواب إذا قلت إنها من أخطر وأكثر القضايا الحيوية والشائكة في التاريخ الإنساني، إذا هي استغلت استغلالاً لائقاً، وكانت من أجل الشعب ومساعدة الجماهير للوصول للحقيقة وبناء آرائه العامة الصائبة في استقلالية وفي ظل سيادة القانون، فإن آثارها لا شك ستكون إيجاباً، بما تطرح من أفكار جديدة ورؤى جريئة تستحث الجدل الفكري المنتج للمعرفة النوعية والمنمية.

لكن بالمقابل إذا أسيء استخدامها، ووفقاً للأهواء والأغراض الشخصية، التي لا تنتج إلا غث الأفكار وسقيمها التي لا تنتج معرفة ولا تستحث جدلاً فكرياً، وحتى لا تتحول إلى ميدان سائب، يقتحمه الدخلاء الذين لا يفقهون شيئاً من أبجدياته ولا تهمهم أخلاقياته، ويعتدي عليها المرتزقة الذين لا يكترثون للمادة المنشورة، بقدر ما يكترثون لما تدره من مغانم، الإعلانات المدفوعة والتي هي الأساس الرئيسي وراء إصدارهم للجرائد والمجلات، الورقية والإلكترونية؛ الأمر الذي حول الصحافة من وسيلة "إعلامية" مسؤولة تحترم عقل الإنسان، ولا توقع الضرر بالمجتمع، ولا تقود إلى تضليله أو تجهيله، إلى مؤسسة "إعلانية" غاياتها الربحية المادية البحتة المجردة من أي دافع ثقافي أو مسؤولية وطنية مجتمعية.

فلا تندهش، أيها المحترم، ولا تتصور أنني أبالغ إذا قلت إن هناك رؤساء تحرير بعض الجرائد الجهوية "أمّيون" لا يقرؤون ولا يكتبون، ومع ذلك لهم أعمدة تنشر بأسمائهم، أما المراسلون فحدِّث ولا حرج.

سألني الزميل العزيز: متى ستكون لنا صحافة في المستوى المطلوب صحافة جماهيرية موضوعية، لها قواعدها وأدواتها التي تحكمها، لا صديقة السلطة ولا عدوة لها، تهتم بالصالح العام وتقبل بروح العصر وسلطة المجتمع والمواطن، وتبحث عن الحقيقة المساعدة للجماهير على اتخاذ رأيها في أجواء صافية؟

قلت له إن كل ذلك ممكن التحقق، عندما نتوقف عن تسمية الكذب والنفاق والبهتان لباقة وذكاء اجتماعياً! وحينما نصل إلى قول الحقيقة كما هي، ولما نصل إلى مواجهة الذات ومساءلتها عند كل تقمص لما هو كائن بكل صدق وبكل شجاعة، وعندما نتعرف على خطورة دور هذا الميدان وتأثيره على المجتمعات.

آنذاك فقط ستحل العديد من قضايا ومشاكل صحافتنا وسيلقح هذا جسم الصحافة المريض بمصل ضد التلوث الفكري والبيئي والعقلي والعقائدي والمعاملاتي والسياسي والجمعوي، وسيكون لنا ذلك النوع من الصحافة الصادقة في القول والفعل والوعود، والتي تبني الأوطان ولا تهدمها، وترتقي بالمجتمعات ولا تحطمها، والتي نحن في أمَس حاجة إليها في بلادنا السائرة في طريق النمو.

أود أن أنبّه في ختام هذا المقال إلى أن حديثي هذا ليس معمماً ولا يشمل كل الصحافة الجهوية؛ لأن من بينها جرائد محترمة يقوم عليها أساتذة صحفيون محترفون تعلمنا على أيديهم مهنية الصحافة وأخلاقياتها، فلا يمكن أن تنطبق عليهم تلك التوصيفات المشينة، وهنا سيكون من باب الموضوعية والإنصاف الاعتراف لهم بما راكمته الصحافة الجهوية الملتزمة من نهضة وتحديث فكري وثقافي -بفضل فكر واجتهاد وإبداع نخبها- ضداً على جميع الإكراهات الموضوعية والذاتية، وفي مواجهة قوى التقليد ومرتزقة الصحافة والدخلاء، من غير أبناء المهنة، الذين أساؤوا بشدة لسمعة الصحافة عامة والصحافة الجهوية خاصة والفاسية على وجه التخصيص، بما يتقيؤونه في تجمعات المقاهي وقاعات الحلاقة وصالونات المجون، البعيدة عن الندوات الفكرية والأدبية، مقابل الحصول على الهبات والعطايا أو الامتيازات أو كلها مجتمعة.. وبكلِّ المحبّةِ والتّسامحِ، لا يَسعُنى إلاّ أن أدعوَ بالخير لصحافتنا الجهوية وأرجو الله أن يتوب على المُسيئينَ لها حتى تعود لمصداقيتها وشّفافيّتها البنّاءة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حميد طولست
مدون مغربي
مدون مغربي
تحميل المزيد