سياسة “التطبيل”.. الظاهرة التي دمرت أوطاننا العربية وأبعدت أهل الكفاءة عن المناصب!

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/05 الساعة 09:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/05 الساعة 10:29 بتوقيت غرينتش

"عندما كان قادة روما العسكريون ينتصرون على أعدائهم كان يقام لهم موكب نصر كبير يسمى "الترايامف"؛ حيث كان يُجلب الأسرى والغنائم وملوك الأعداء مصفدين بالسلاسل، وكان القائد المنتصر يصبغ وجهه باللون الأحمر متشبهاً بتمثال الإله جوبيتر– كبير آلهة الرومان– ويهتف الشعب باسمه، وكان يقف وراءه عبد يمسك تاجاً من الذهب فوق رأسه ويهمس: "أنت لم تصبح إلهاً أنت ما زلت إنساناً".

منذ أن تعاقد البشر في العصور الأولى لوجودهم على تشكيل المجتمعات وصاغوا العقد الاجتماعي الذي تنازل المجتمع بموجبه عن جزء من حريته وحقه لصالح مجموعة من هذا المجتمع مقابل احتكارها القوة لتنفيذ القوانين، استيقظت "عقدة الإله"  في نفوس البشر، فعمد الملوك والحكام إلى ادعاء الألوهية والحق الإلهي في الحكم، فكان على مر التاريخ حكام نصبوا أنفسهم آلهة لتعاني البشرية ويلات الطغيان من فتنة الحكام الذين أذاقوا شعوبهم وشعوباً أخرى ويلات الحروب والقمع والتجويع، ليكون التاريخ عبارة عن "قصة الألم البشري"، كنتيجة حتمية لتأله الحكام الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، ويُطاعون بما يأمرون، ولا معقب لحكمهم.

وبعد مسيرة طويلة من مكافحة الطغيان، وجد العالم الحديث صيغة "الحاكم الموظف"، بدلاً من الحاكم الإله؛ لتصبح لدينا "دولة المؤسسات" التي تقيد سلوك الحاكم وشهواته وتكبت "عقدة الإله" في أعماقه، مؤسسات كثيرة متشابكة ومعقدة لا هم لها إلا أن تهمس في أذن الحاكم: "أنت لست إلهاً"؛ لكي يسير المجتمع بصورة سليمة وصحية ويصبح صالحاً للحياة الآدمية.

على النقيض الكلي من ذلك في المجتمعات التي لا تصلح للحياة الآدمية، يغيب هذا الدور بشكل كلي لتحيط بـ"الحاكم الإله" طبقة من الطبالين والزمارين والكهنة وحملة المباخر، طائفة لا هم لها سوى أن تصرخ في كل اتجاه "أنت إله"، وهذا "ربكم الأعلى"، هذه الطبقة التي أشار إليها القرآن الكريم باسم "الملأ"، وكأن هذا الحاكم فارغ النفسية والنفس، وهؤلاء يملؤون هذا الفراغ النفسي العملاق بالكلام والضجيج والمديح والتأليه والتملق.

هذه الظاهرة اتسعت وتعقدت وأصبحت صناعة قائمة بذاتها، أصبحت صناعة أخبار وغسيل أدمغة وهدم وعي لشعوب بأكملها، تقوم بها ماكينة إعلام وإعلان هائلة قائمة على الصراخ والجعجعة تهدف إلى طمس الوعي والحكم بالتفاهة.

بالإضافة إلى ذلك كان هناك الحلف "المدنس" بين هذه الطبقة والحاكم وطبقة أصحاب المال الذين يقوم وجودهم على حلف الفساد القائم بين الحاكم الإله وبين الملأ الإعلامي والاقتصادي؛ ليتم تكبيل المجتمع وسجنه في سجن الطغيان.

ظاهرة "التطبيل" هي ظاهرة كارثية ومدمرة، من أسوأ آثارها إبعاد كل أهل الكفاءة والقدرة، وتقريب أصحاب التطبيل والأفواه العملاقة والعقول الصفرية في الحديث المذكور في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وُسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة"، والحديث قد يأخذه البعض بالمعنى الضيق المباشر، وهو أن توكيل الأمر لغير أهله يعني أن هذا من علامات القيامة، لكن المفهوم الأوسع من ذلك هو أننا إذا نظرنا إلى معنى "الساعة أو يوم القيامة"، فنجد أن معناه الخراب المطلق يوم القيامة هو الانهيار الكلي لكل منظومة الكون خراب السماوات والأرض، ليكون معنى الحديث هنا هو الخراب الكلي للمجتمع، هدم كامل لكل أركان الحياة وجعل المجتمع غير صالح للحياة الآدمية، أن شوارعنا قذرة ومكسرة وحياتنا بائسة وتعيسة، وكل ما حولنا معطوب وعفن وخرب، لا لأننا فقراء ولا لأننا متخلفون، بل بكل بساطة لأن الأمر وُسد لغير أهله.

لأننا فقدنا الانتماء، وفقدنا الشعور بالوطن، وفقدنا الشعور الإنساني البسيط بمكان ننتمي إليه، وكفرنا بعبادة "العجل الذي له خوار"، صار في حسنا وعقلنا الباطن أن هذا المكان الذي نعيش فيه لا يخصنا ولا يعنينا، إنما هو معبد "الإله" الذي أسرنا وقيدنا بالأصفاد، فلا فائدة من بنائه وتجميله، ناهيك عن الدفاع عنه أصلاً، نحن أسرى في أوطاننا مقيدون بالطغيان والجبروت والتفاهة، يقود موكبنا البائس "قائد قزم" لم ينتصر إلا علينا، وهزمته كل جيوش الشقر حمر الوجوه، فجاء يسوقنا نحن في موكب انتصاره ومن خلفه عشرات الآلاف من العبيد يهتفون حتى تبح حناجرهم: "أنت إله". 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عزام أبو العدس
متخصص في الأدب العبري
مدرس ومحاضر لغة عبرية تخصص أدب عبري وأعمل مدرس لغة عبرية في دائرة التعليم المستمر في جامعة القدس المفتوحة - فرع نابلس، باحث ومتخصص في الشأن الإسرائيلي.
تحميل المزيد