في فيلم حضرته مؤخراً على ظهر طائرة، يعضُّ البطل الأربعيني أصابعه ندماً على فرصة ذهبية أتيحت له بعمر السابعة عشرة للاحتراف في فريق المدرسة لكرة السلة، مفضلاً وقتها الزواج من صديقته والانهماك بالعمل في سن مبكرة لبناء أسرته، لينتهي به الحال موظفاً بائساً يصغره جميع من في الشركة حتى مديره، وزوجاً فاشلاً ينتظر محاكمة الطلاق، وأباً لشاب وفتاة يكاد لا يعلم عن حياتهما شيئاً.
يتدخل كائن خيالي ما في أحداث الفيلم، ويعيد للبطل جسدَ وروحَ وعنفوانَ فتى في السابعة عشر من عمره، إنما بنفس تفكير وذكريات وخبرات الرجل الأربعيني الذي كانه، لكن بطلنا بدلاً من أن يدع الماضي جانباً وينشغل بتحقيق ذاته الجديدة وانتهاز الفرصة الثانية لإعادة كتابة قصته، ينخرط لا تلقائياً في حياة زوجته وابنيه (على شكل صديق للعائلة) ليكتشف حجم الخطيئة التي ارتكبها في حقهم بسبب انشغاله الكلي طيلة السنين الماضية في اجترار أحزان الفرصة الفائتة، والبكاء على أطلال شبابه، إلى الدرجة التي قد أنسته أن يعيش حياته من الأساس.
ورغم سذاجة وتفاهة أحداث الفيلم، فإن فكرته قد لامست شيئاً في داخلي، فكثيراً ما تخطر للنفس أفكار العودة إلى نقطة ما في الزمان الفائت لتغيير دفة قرار اتخذ حينها، باعتبار علمنا الحالي بمآلاته، وظننا الهائل بأن تغيير هذا القرار يعني فتح باب خزنة مستقبل وماضٍ أسعد وأجمل وأوفر حظاً.
وهو الأمر الشبيه بما توحيه الآية الكريمة:
"وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ".
ورغم استحالة فكرة السفر عبر الزمن، وعجز العلم حتى الآن عن إعادة ينبوع الشباب المتدفق إلى الجسد الهرم المترهل، فلو أننا افترضنا جدلاً أن شيئاً من ذلك يمكن تحقيقه، فإننا هنا نقع في مغالطة سوء فهم فظيعة بحق أنفسنا، وهي أننا ببساطة: نتغير!
فذلك الشاب الذي اختار الدراسة أو العمل الفلاني هو ليس نفس ذلك الكهل الذي يعاني بصمت مشاق الوظيفة التي نتجت عن ذلك كله، وتلك الفتاة التي رضيت بالزواج من فلان هي ليست نفس المرأة التي تندب حظها العاثر معه اليوم، صحيح أننا نشترك مع ذواتنا السابقة بالاسم والهوية وخلايا الجهاز العصبي، إلا أن فرقاً هائلاً يفصلنا عنها في الأفكار والتجارب والمسلمات والأولويات والميول، ولو عدنا بآلة زمن إلى شخصياتنا السابقة بهيئة واعظ حكيم يحذر ويوجه لربما ظنت شخصياتنا السابقة في هذا الواعظ الخبل والدجل والتطفل.
الأمر أشبه بمحاولة إقناع شاب صغير (لا يفكر إلا في نفسه وهواها) بمخالفة ما يظنه طريق الفوز والهناء لأجل أطفال سيولدون له بعد عشرين عاماً، لا يملك لهم أي اهتمام حالي، لكنهم لاحقاً سيصبحون أعز لديه من نفسه التي بين جنبيه.
صحيح أننا ننظر لقراراتنا الخاطئة نظرة الحسرة والندامة، إلا أننا نغفل حقيقة أنها قد باتت جزءاً لا يتجزأ من حكايتنا وتعريفنا لأنفسنا، وأنها قد غيّرتنا للأبد، وأن الخلاص منها الآن يعني مناقضة تركيبتنا النفسية الروحية الحالية، تلك التي هي أصبحت قادرة على تقييم القرار السابق ومحاكمته من الأساس.
كل انشغال بالماضي وآلامه هو وقت مستقطع من الحاضر الذي يفترض بأن نحسّنه ونجمّله لأنه ما يعنينا الآن حقيقة، ولتجاوز هذا الألم يقدم القرآن فلسفة خاصة (أقرب للعلاج) للنفس المؤمنة، ترى فيها أن ما وقع إنما هو "مكتوب" منذ الأزل، لا يمكن تغييره ولا تبديله، ولا طائل من الأسى على أحزانه ولا حتى المبالغة في الاختيال والغرور على أفراحه.
"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ".
فالبديل الأفضل والأكثر حكمة من تمني عودة الماضي "المستحيلة" هو التسليم بالمكتوب والرضا بما قسم الله لك من اختيارات وقرارات، ثم السعي والعمل فيما تبقى لك من عمرك القصير. والانشغال بحل المشاكل والمشاغل التي خلقتها الاختيارات الخاطئة أولى وأقرب نفعاً من إرهاق النفس بالحسرة والندم على هذه الاختيارات الفائتة. والله أعلم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.