وُلدت موريتانيا ولادة مشوهة في عام 1960، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ما زالت موريتانيا أسيرة الانقلابات العسكرية، وما زالت تقف الدولة الموريتانية العميقة عائقاً أمام الإصلاح والانتقال نحو الديمقراطية. ويعود السبب الأكبر في ذلك إلى تاريخ هيمنة الجيش الديكتاتورية الطويلة على مقدرات البلاد.
لقد عرفت موريتانيا نوعين من الديكتاتورية؛ النوع الأول هو الديكتاتورية مجموعة من الضباط يمثلون المؤسسة العسكرية، والنوع الثاني هو الديكتاتورية العسكرية الفردية مثل "العزيزية"، نسبة للرئيس عزيز.
على الناحية الأخرى، إذا نظرنا إلى الطرق التي سقط بها المستبدون من السلطة في موريتانيا نجد أنهم خرجوا بطرق متشابهة، مرة بانقلاب عسكري مباشر ومرات أخرى خرجوا بسبب صراعات النخبة العسكرية على السلطة (1978-1984)، ومرة أخرى بانقلاب الضباط الشباب على الديكتاتور معاوية ولد سيد أحمد الطايع عام 2005، وأخيراً ضغط من المؤسسة العسكرية على الديكتاتور محمد ولد عبد العزيز 2019.
قيام دولة الحزب الواحد
بدأ الاستبداد في موريتانيا عقب الاستقلال مباشرة، إبان حكم الرئيس المختار ولد داداه. وبرر الرئيس المختار ولد داداه ديكتاتوريته بالولادة القسرية لدولة الموريتانية، وبأنها تخدم مصلحة البلد في ظل الأطماع الخارجية التي تستهدفه، وتحافظ على وحدة الدولة، مما أدى إلى القضاء على التعددية السياسية وقيام دولة الحزب الواحد، هو "حزب الشعب الموريتاني"، باعتباره هو قاعدة بناء الوحدة الوطنية والمحرك الأساسي لسير الوطن نحو التنمية الاقتصادية. ليفشل الرئيس في تحقيق مشروع الدولة الوطنية وتنمية موارد الدولة وبناء مؤسسات جديدة، ليستولي الجيش على الحكم في 10 تموز/يوليو 1978، ليولد بعد ذلك تنافساً حاداً بين العسكريين، وصراعاً قوياً على السلطة.
ليأتي الصراع بالمقدم محمد خونا ولد هيدالة رئيساً للدولة، بعد إقصاء المقدم محمد محمود ولد الولي في عام 1980، ويحتفظ بالسلطة لمدة 5 سنوات، حكم فيها ولد هيدالة باسم الدين وقام بتطبيق الشريعة الإسلامية، واستغل الدين لترسيخ ديكتاتوريته. إلا أن فترة حكمه شهدت البلاد تحسناً في الأوضاع على المستوى السياسي والاقتصادي، على سبيل المثال، قرار إلغاء "الرق" في موريتانيا عام 1980، وقرار الإصلاح العقاري عام 1983. لكن أدى الانهيار الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشية إلى استيلاء الجيش على السلطة مرة أخرى، بدعم خارجي لإسقاط الرئيس ولد هيدالة.
ولكن، كل ما سقط ديكتاتور حلَّ مكانه ديكتاتور آخر، ليتسلم الديكتاتور معاوية ولد الطايع الحكم بعد الإطاحة بولد هيدالة عام 1984، ويحكم البلاد لمدة 21 سنة. بدأت حقبة ولد الطايع بإصلاحات سياسية وتطبيق سياسات البنك الدولي الاقتصادية، والتي كانت ناجعة إلى حد ما على مستوى الأداء الاقتصادي، كما كان لها انعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي.
كما عرفت موريتانيا في فترة حكمه انفتاحاً ديمقراطياً، لكن لم يستغل لتأسيس نظام ديمقراطي، ليستند الديكتاتور ولد الطايع إلى القوى التقليدية لترسيخ حكمه السلطوي، ويستخدم نظام القبيلة ومنحها امتيازات لتكون سنداً سياسياً له لتحقيق وتبادل مصالحهم. وفي تلك الفترة، استشرى الفساد في الجيش وأجهزة الدولة، بالإضافة إلى تضييق المجال العام، والتنكيل بمعارضيه. وبذلك، تهيأت الظروف السياسية للجيش لإسقاط ولد الطايع، بانقلاب عسكري قام بتنفيذه مجموعة من الضباط الشباب عام 2005.
أسس محمد ولد عبد العزيز ديكتاتوريته بعد التمرد على الرئيس المنتخب ديمقراطياً سيدي ولد الشيخ عبد الله عام 2008. وتميز الديكتاتور عزيز بالقوة والسلطة والتخلص من معارضيه ومؤيديه معاً والتحكم في كافة السياسات العامة في الدولة، وتعيين المقربين منه في مناصب عليا. علاوة على ذلك، تخويف معارضيه والزج بهم في السجن مع زيادة نفوذه على الحرس الرئاسي وقطاع الأمن لتجسس على المعارضين.
عقب السير في طريق الفشل وإجهاض الانتقال نحو الديمقراطية منذ استيلاء الجنرال عزيز على السلطة، أخرج عزيز من الحكم بعد منع الدستور والجيش ترشحه لفترة ثالثة، ما أدى إلى إسقاط نظام ولد عبد العزيز ومهد الانتخابات الرئاسية عام 2019. فاز في الانتخابات محمد ولد الشيخ الغزواني حيث حصل على 52.01 % متقدماً على برام ولد الداه اعبيدي الذي حاز 18.58% من الأصوات.
ما بعد سقوط الديكتاتور عزيز
قد تكون انتخابات 2019 بداية الانتقال نحو الديمقراطية؛ لأنها أدت إلى تغيير النظام الديكتاتور محمد ولد عبد العزيز منذ الانقلاب على الحكم المدني عام 2008.
دخلت موريتانيا الآن في نصف الثاني من حكم الرئيس غزواني، وما زال النظام يواجه تحديات أساسية على الحكومة القيام بها. أولها، تطبيق الحوكمة الرشيدة، وتحقيق التنمية، ومحاربة الفساد، وأن تقترب الدولة من المواطن وترسخ سلطتها. ثانياً، تقديم الخدمات العامة مثل التعليم، والصحة، والماء، والكهرباء، وتوفر الأمن والتوزيع العادل للثروة.
وقد يساعد في ذلك وجود إرادة للإصلاح، لكن الرغبة في الإصلاح تحتاج إلى نضال طويل. وهذا لا يعني أن كل نضال صالح للبلد، فالنضال غير الواعي بمتطلباته لا يخدم مصلحة الدولة ولا يمكن الاستماع إليه ومن خلاله لا تتحول البلاد إلى التحول المطلوب. ورهان هنا على النخبة السياسية لتقوية النظام السياسي ونشر الثقافة الديمقراطية التي تتجاوز الانتماءات التقليدية الضيقة، وتساعد في إنجاح العملية الديمقراطية في البلاد.
وعرفت موريتانيا مع هيمنة الديكتاتورية مجموعة من الاختلالات والمعوقات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: ارتفاع نسبة البطالة بين أوساط الشباب، الفساد المالي والإداري في جهاز الدولة، غياب التنمية الاقتصادية، الفشل المؤسسي والقصور الوظيفي للدولة.
وكذا، غياب المجتمع المدني، إلا أن هذا الغياب له مبرراته؛ لأنه لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني بينما البزة العسكرية تهيمن على الحياة العامة!
بالعودة للمعوقات التي تواجه موريتانيا في طريقها نحو التنمية والديمقراطية، يجب ذكر آفة الفقر. تعاني موريتانيا الفقر الشديد منذ ميلادها في عام 1960 إلى اليوم، فحسب البنك الدولي، نسبة الفقر في موريتانيا تبلغ 70%.
مسألة "الشرائحية"، وعلى الرغم من أن الترسانة القانونية في موريتانيا تجرم خطاب الكراهية والعنصرية، وأي خطاب يمس الوحدة الوطنية ويهدد تماسك المجتمع، إلا أن ظاهرة "الشرائحية" ما زالت تظهر من فينة إلى أخرى في المجتمع الموريتاني، ومن الأمور التي يجب على الدولة القضاء عليها للمساواة بين كافة شرائح المجتمع الموريتاني، وهذا لن يتحقق إلا بوجود دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة.
في زمن الأزمات، لا تتوقف الحكومات الشعبوية من دس مكائد لشعبها، والاعتماد على خطاب التفرقة، حيث يعلو أصوات المفرقين لتحويل الانتباه عن عمل الحكومة ويوظفون خطاباً من خلاله يخترعون عدواً، يوهمون به المواطن ويبعدونه عن قضاياه الحقيقية. وتمثل موريتانيا ولد عبد العزيز مثالاً واضحاً على هذه الشعبوية، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق.
خاتمة
نستنتج أن الديكتاتورية هي العقبة الأولى أمام التحول الديمقراطي في موريتانيا، وأن موريتانيا بحاجة إلى إصلاح سياسي وخلق ثقافة ديمقراطية تتجاوز الانتماءات الضيقة. أما بالنسبة للانتقال إلى الديمقراطية، فسوف يتطلب الكثير من العمل والصبر، وما لم يتبنَّ القادة السياسيون في البلاد المبادئ الديمقراطية في الحكم ولديهم الرغبة في الإصلاح، فمن المحتمل ألا تتمكن موريتانيا من تحقيق الانتقال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.