إن أزمة الهجرة والمهاجرين التي نواجهها في تركيا حالياً هي في الواقع واحدة من الظواهر الاجتماعية التي شاهدناها كثيراً عبر التاريخ.
وعلى مر التاريخ، كان هناك العديد من العوامل المختلفة التي أجبرت أو شجعت الناس على الهجرة. وتحدث الهجرات القسرية نتيجة الحروب والقمع السياسي، أو نتيجة الكوارث الطبيعية والضغوط الاجتماعية.
إن الهجرة تتناسب طردياً مع عدد سكان العالم الذي نعيش فيه. والحقيقة تشير إلى أن ظروف الحياة والمؤسسات التي أنتجتها العولمة بعد الحداثة لا تمتلك حلاً جذرياً لهذه المشكلة.
ومع ذلك، وبالنظر من منظور اجتماعي، يمكن ملاحظة أنه لا يمكن منع تلك الهجرة بشكل كامل، بل على العكس من ذلك؛ فقد أصبح القتل الجماعي والترحيل أسهل بكثير في العالم الحديث، وذلك بالتزامن مع تطور تقنيات الأسلحة؛ حيث أصبحت فجأة حياة الإنسان رخيصة وبسيطة جداً.
وما يحدث اليوم بالتزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا، بات في الواقع وجهة نظر أخرى لحداثتنا؛ حيث أصبح عدد اللاجئين ما يقارب 5 ملايين شخص في أقل من شهرين، وهذا أيضاً مؤشر على ما سببته يد الإنسان من صراعات بين البشر.
بالطبع الهجرة مشكلة، ولكن طريقة التعامل مع تلك المشكلة تعبر عن نوعية وقدرة بلد ومجتمع ما. وغالبًا ما يتوجه اللاجئون إلى بلدان أفضل نسبياً.
واليوم، فإن عدد اللاجئين الذين انجذبوا إلى تركيا يتماشى مع التقدم والتطور الذي أحرزته تركيا. وبطبيعة الحال، تمنح تركيا الشعور بأنها أكثر أماناً وملاءمة للعيش.
إن الهجرة مشكلة، مثلها مثل كل المشكلات، تتطلب إدارة حكيمة لا تتجاهلها أو تستغني عنها. هناك أصوات مرتفعة تخرج تتحدث عن إرسال اللاجئين للجحيم، وهناك آذان مصغية لتلك العقلية، ومن المؤسف أن هذا النهج، الذي يزداد انتشارًا ويلاقي رواجًا بين الشعبويين، لا علاقة له، بطبيعة الحال، بالإدارة الحكيمة لتلك المشكلة.
في الماضي، كانت كل مشكلاتهم وطريقة إدارتهم على هذا النحو؛ يقول أحدهم: كان من السهل إدارة وزارة التعليم الوطني لو كانت دون مدارس.
وفي الستينيات، نظراً لأن مدبري الانقلاب لم يتمكنوا من إدارة التمدن، كان بإمكانهم إعادة الناس قسراً إلى قراهم. وهنا نرى أن الشيء الوحيد الذي يلجأون إليه لاستئصال المشكلة يمكن أن يكون حلًا جاهلًا أو صعبًا. الأمر لديهم لا يتعلق بالإدارة، بل يتعلق بالاستبداد.
عندما نقول: إن الترحيل القسري لن يكون خياراً أبداً، علينا أيضاً أن نقول: إنه ليست لدينا نية لإبقاء السوريين قسراً في تركيا، ومع ذلك، فإن "الترحيل القسري" يعد جريمة تنتهك القانون الدولي وقانون اللاجئين أو طالبي اللجوء.
وأولئك الذين يتحدثون بسهولة عن الترحيل القسري للاجئين هم في الواقع يحرضون ويشجعون شعبًا بأكمله على ارتكاب جريمة وذنب، ناهيك عن أن هذه الجريمة محاولة لاغتيال ثقافتنا وهويتنا وعاداتنا.
مثال واحد فقط: هذا العقل الفاشي، الذي يشبه إلى حد كبير تلك العقول الموجودة في أوروبا، يتحدث أيضاً عن إرسال السوريين قسراً وبالقوة، ولكن حتى الآن لم يتمكن أحد من إرسال أي لاجئ قسراً.
لأنه من السهل لديهم التحدث دون رحمة أو ضمير أو إيمان، ولكن عندما يتعلق الأمر بممارسة وبتطبيق ما يقولون، لا يمكنهم المخاطرة بارتكاب جريمة دولية.
وعلى سبيل المثال، الدنمارك، التي صرحت لسنوات أن السوريين سيعادون قسراً إلى بلادهم، وأنهم سينفذون سياسة عدم وجود أي لاجئ، لم تتمكن حتى الآن من ترحيل أي سوري.
ومع ذلك، فإن الإدارة الحكيمة والإنسانية للهجرة أصبحت ممكنة، أولاً وقبل كل شيء، من خلال تهيئة الظروف للعودة.
وبدورها تعمل تركيا بأكثر الطرق جدية منذ البداية لخلق هذه الظروف.
ومنعت تركيا هجرة ما لا يقل عن 5 ملايين سوري آخر يمكنهم القدوم إلى تركيا، وكانوا مستعدين للقدوم وموجودين على الحدود، وذلك بفضل المناطق الآمنة التي أنشأتها من خلال تنفيذها لثلاث عمليات عسكرية هناك، كما شجعت بهذه الخطوة على عودة 500 ألف لاجئ طواعية إلى تلك المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال مشروع يتم تنفيذه حالياً ويحظى بدعم دولي، تُنشأ مدن يمكن العيش فيها ضمن المناطق الآمنة، أفضل من ظروف العيش في تركيا. وسينتهي إنشاء هذه المباني، التي هي أيضًا قيد الإنشاء، في وقت قصير جداً، وسيشجَّع السوريون، الذين يرغبون في العودة، إلى الذهاب لتلك المناطق.
أولئك الذين تبنوا خطاب إعادة اللاجئين إلى وطنهم بوصفه مادة سياسية شعبوية، ويرغبون في استهلاكها خطابَ كراهية وعنصرية حتى النهاية؛ يتهمون القيادة التركية بتجاهل مشكلة اللاجئين.
ما يفعلونه هو مجرد مكر سياسي رخيص، لكن النتيجة ليست أكثر من تعقيد إدارة ملف الهجرة.
ومع ذلك، فقد حققت تركيا مكاسب معنوية غير مسبوقة، إذا جاز التعبير، كمثال للعالم بأسره بنهجها الإنساني للغاية في إدارتها لملف الهجرة.
ومع كل هذه الكراهية والعنصرية والخطاب اللا إنساني، تدمَّر المكاسب الأخلاقية لتركيا وتفوقها، ويُخلَق انطباع معاكس عن صورة تركيا.
إذا لم يكن هذا عداءً لتركيا، فما هو إذاً؟
وهناك أيضاً أمر أحدث الكثير من النقاشات والجدل، أليست مبنية على تصنيف "اللاجئ الذي يستطيع الذهاب في إجازة العيد إلى بلده"؟
إن الأستاذ المحترم الذي يمتلك تلك الشخصية السطحية والجاهلة بقوله: "دعهم يبقون هناك إذا استطاعوا العودة إلى بلدهم في إجازة العيد"، فهو لا يحتاج حتى إلى مثال آخر لفهم ما يكلفه مستوى هذه المناقشات.
ألا يسأل: هل من يستطيع العبور إلى سوريا يذهب لقضاء العطلة فعلاً؟
كم عدد الأشخاص الذين سيذهبون أو يمكنهم الذهاب؟
ماذا لو لم يبقَ لدى الشخص الذي ذهب إلى هناك سوى قبور الأقارب الذين يمكنه زيارتها؟
هل هناك أماكن على الجانب الآخر من سوريا غير المخيمات التي يمكنه زيارتها؟
عدد الأشخاص الذين يمكنهم الذهاب إلى سوريا لسبب أو لآخر لا يمثل حتى 1٪ من السكان السوريين الحاليين؛ لأن معظمهم لم يبقَ لديهم لا منازل ولا ملاجئ ولا أقارب في الأماكن التي هاجروا منها.
و إذا كنت ترى القبور التي يزورها أولئك الذين يمكنهم الذهاب والعودة، والأشخاص الذين بقوا هناك في مكان قريب لأنهم لم يتمكنوا من القدوم إلى هنا؛ فما حجم تلك العين التي يمكنك الرؤية بها؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.