لك أن تدخل من باب السعادة، أو أن تدخل من باب الحرملك؛ حيث يأخذك إلى مقر حريم السلطان، وإن بدأت من أي البابَين فإنك في نهاية جولتك ستنتهي بالباب الآخر.
هنا عرفتم أن المقصود هو قصر توبكابي الذي سكنه سلاطين آل عثمان منذ محمد الفاتح الذي بناه، إلى عبد المجيد الذي انتقل منه إلى قصر دولمه بهشه (دوام البهجة) الذي حمل السمات الأوروبية، القصر الرائع الذي حمل كل إضافات آل عثمان على القصر الأول بكل ما فيه من فسيفساء وسيراميك وذهب وفضة، جمال معماري أخَّاذ، لا شكَّ يشعرك بعظمة فن العمارة في العصور الإسلامية، يبدأ المرشد بالحديث عن حياة الحريم، فيذكر أن هذا الحرملك يضم دائماً ما يقارب ٣٠٠ جارية تم اختيارهن بعناية من قِبَل أم السلطان ليجهزن بالتربية والمعارف وفنون الموسيقى (والتبعُّل) ليختار السلطان منهن زوجاته (أو محظياته)، وهكذا تمضي بين بهو الحريم وبهو أم السلطان وبهو الاستعراض العسكري وغرفة الختان؛ حيث يختن أولياء العهد وصالة المرمر… إلخ.
فن لا نظير له، وبذخ لا تكفي للتعبير عنه هذه الكلمة ذات الثلاثة أحرف، وجهد معماريين عظام أنجزوا هذه اللوحات الفريدة. ثم تنتقل إلى أسلحة السلاطين ولباسهم والأواني التي يأكلون ويشربون فيها بكل ما تحويه من إبهار وذهب وفضة وألماس، ما يجعلك تتساءل: كم كان يعيش السلطان في هذا القصر ليتم استيعاب وتذوق كل هذا الجمال الذي يخدرك ويجعلك تخرج عما حولك من الدنيا إلى آفاق من الخيال الجميل؟! حتى لتشعر أن للجمال خمراً تعبث بالرؤوس، ربما يفوق ما يُروى عن الخمر المحرمة، كفانا الله شرها.
لفت نظري أنه إلى جانب ما زُخرف من الآيات على جدران القصر، حظيت قصيدة البردة للبويصري الصوفي بالكتابة على أكثر من لوحة، رغم تعارض جوها الصوفي مع أجواء القصر، وهناك قصيدة أخرى في الزهد حاولت العثور على أصلها وفصلها فلم يسهل عليَّ الأمر، وهي قصيدة في الحث على الزهد وعدم التعلق بالدنيا، وكأنما اختارها بعض الخلفاء لتذكره وهو في لحظات تجليه بألا يغترَّ بما حوله، والمفارقة تزيد الأمر سريالية تليق بالفن.
أنهيت جولتي منتشياً بالجمال، وجلست على مقعد في المقهى الذي أقيم على جدار القصر؛ ليبرز لك جمال الطبيعة من حوله؛ حيث يلتقي بحر مرمرة بمضيق البوسفور بالقرن الذهبي، وما أن بدأت أتذوق فنجان قهوتي حتى كان الشيخ محمد الراوي- حفظه الله بحفظه حياً أو ميتاً- يجلس أمامي على الكرسي المقابل، أبهجني وجوده وضاعف سعادتي.
يلبس عباءته الأنيقة التي رأيته فيها لأول مرة، والتي تختلف عن عباءات الآخرين، وقد خلبت لبّي منذ بدأت أفهم في الأناقة، عبَّرت له عن سعادتي وتشرفي باختياري لمجالسته وحاولت تقبيل راْسه أو يده على غير عادتي؛ حيث لا أحب فعل ذلك، وما أن استوعبت المفاجأة المدهشة، حتى سألته وأنا فخور: ما رأيه في هذا الإبداع الذي أسرني؟ ولا أظن إلا أنه مأخوذ مثلي.
قال: ألا تذكر حين التقينا في حج عام ١٣٩٧؟ سرعان ما تذكرت، وأخذني أسف على ما ضبطت فيه نفسي من نسيان، ثم تعكر وجهي وفسد مذاق قهوتي، قال الشيخ: مُذ كنت صغيراً وأنا أمتعض عندما يذكر الناس الأهرامات وما فيها من عظمة وشموخ؛ إذ سرعان ما تشف لي عن آلام الناس الذين سلبت منهم قوتهم لتُبنى، والذين عملوا سخرة وماتوا تحت الأنقاض ليبنوا مقابر ملوكهم، وعن مظلمتهم التي تذكرك هذه الأوابد بها ليل نهار.
قلت وقد بدأت أشمئز من القصر وساكنيه: هل هما سواء هذا بُني ليعيش فيه الملوك لا ليقبروا، وهؤلاء مسلمون، أخذ خيال الشيخ يتوارى عن ناظري وسمعت صوتاً يقول: إن الظلم لا يسمى عدلاً إن فعله من هم جديرون أن يعدلوا.
وخرجت أجر أذيال الخيبة وأدعو الله ألا يجمعنا مع الظالمين أحياء وأمواتاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.