عشية الانتخابات النيابية اللبنانية، المزمع عقدها في 8 مايو/أيار (اقتراع المغتربين في الخارج)، و15 مايو/أيار القادم (اقتراع المقيمين)، نحن أمام مشهد انتخابي يفيد بأنّ هناك لبنانين انتخابيين اليوم.
١) من جهة أولى، هناك لبنان لا مكان ولا حظوظ فيه لما اصطلح على تسميته بقوى التغيير، أي المنبثقة بشكل أساسي عن جمعيات وأحزاب ما يعرف بالمجتمع المدني. ولبنان هذا يتكوّن من مجموع الدوائر الانتخابية الواقعة ضمن نطاق المناطق المحسوبة على الحاكم الفعلي للبلد، أي حزب اللّه (وحليفته حركة أمل)، والمحسومة انتخابياً لصالحه.
٢) ومن جهة ثانية، هناك لبنان الواقع خارج مناطق الحزب الحاكم الفعلي للبلد، حيث تتنافس قوى التغيير مع القوى السيادية (ما كان يعرف بقوى 14 آذار)، على حصة نيابية ينافسهم عليها أيضاً الحاكم الفعلي للبلد، أي حزب اللّه، وملحقاته في باقي الطوائف.
بكلام آخر، فإن قوى التغيير لا تنافس عملياً إلا القوى السيادية (المتنافسة أيضاً فيما بينها)، وهي لا تنافسها أصلاً إلا على الفتات المتبقي بعد اقتطاع الحاكم الفعلي للبلد، أي حزب اللّه، حصته النيابية بفعل سيطرته على مناطقه التي لا ينافسه فيها أحد فعلياً.
أسباب تكوّن هذا المشهد الانتخابي
السبب في تكوّن هذا المشهد يعود أولاً لقبول القوى السيادية، سنة 2018، بقانون نسبي تجري على أساسه الانتخابات النيابية في ظل هيمنة السلاح الخارج عن سلطة الدولة.
فالنسبية لا يمكن أن تكون عادلة بوجود جهة سياسية مسلحة تفرض سطوتها بفائض قوتها على المناطق ذات الأكثرية الطائفية التي تنتمي إليها، فتنحصر مفاعيل النسبية عملياً فقط في المناطق التي تخرج عن الهيمنة المباشرة لحزب اللّه.
أما السبب الثاني في انتقائية مفاعيل النسبية، وتفاوت تأثيرها بين المناطق الخاضعة للنفوذ المباشر لحزب اللّه وتلك الخارجة عن سيطرته الطائفية المباشرة، فيعود أيضاً لانفراط عقد القوى السيادية التي كانت منضوية في حركة 14 آذار، والتي دأبت على التنافس فيما بينها لتقديم التنازلات المجانية لحزب اللّه وحلفائه، لا سيما قبيل عقد صفقة انتخاب مرشح حزب اللّه، العماد ميشال عون، لرئاسة الجمهورية في خريف 2016.
عزوف الحريري وإحباط السنة
بالإضافة إلى ما تقدم، فإنّ قرار الرئيس سعد الحريري وتياره (المستقبل) بالعزوف عن العمل السياسي وعن خوض الانتخابات النيابية القادمة، مع ما يرافق ذلك من تجييش لمقاطعة الانتخابات اقتراعاً من قبل الإعلام المحسوب عليه والصفحات التي تدور في فلك تيار المستقبل على وسائل التواصل، وتعليق لافتات تحث على مقاطعة الاقتراع في مناطق وأحياء ثقل السنة، لا سيما في بيروت، كل ذلك من شأنه أيضاً أن يمسخ بشكل إضافي مفاعيل النسبية في المناطق الخارجة عن السيطرة المباشرة لحزب اللّه.
الحجج التي يقدمها المستقبليون لعدم المشاركة بالانتخابات عديدة، منها أنّ القانون الانتخابي غير عادل، لا سيما في بيروت. صحيح ذلك، ولكن من كان له اليد الطولى في إقرار هذا القانون من ضمن سلسلة التنازلات اللامتناهية التي قدمها تباعاً؟ أليس سعد الحريري وتيار المستقبل؟
كما يردّد المستقبليون لَازمة أنّ الانتخابات لن تغير الشيء الكثير في واقع سيطرة حزب اللّه على القرار. صحيح ذلك، ولكن هل يعني ذلك أنه كان يجب ترك البلد للحزب من خلال العزوف عن الترشح، ومن خلال مقاطعة الاقتراع؟ ألا يجب على الأقل محاولة تقليل الخسائر بوجهه؟ أين المنطق في هذا الكلام؟
أما الرواية الأساسية التي يستعملها المستقبليون لتبرير عدم المشاركة بالانتخابات فمفادها أنّ الحل في لبنان هو أن يحكم حزب اللّه، وذلك كمقدمة لانهيار الدولة، فتتدخل عندها الدول الغربية والعربية لفرض تسوية تحجّم حزب اللّه، وتنتشل لبنان من أزماته. هو حل عبثي على طريقة قطع رأس المريض لمداواته من الصداع، هو سيناريو من الخيال العلمي، ربما يليق باستوديوهات هوليوود، ولكن الأكيد أنه لا ينطبق على واقع السياسة اللبنانية.
واهم من يعتقد أنّ العرب والعالم سوف يهبّون لنجدة لبنان كما هبّوا لنجدة (أو بالأحرى لتنظيم ثورات مضادة في) دول عربية أخرى في الإقليم. فإذا سقط لبنان، هذه المرة بقبضة حزب اللّه وسيطرته التامة، فلن يحرك أحد ساكناً قبل سنوات وسنوات، هذا إن حرّك. فلبنان ليس بأهمية دول عربية كبرى كمصر مثلاً، وذلك لاعتبارات كثيرة منها التفاوت المهول في الحجم الديموغرافي، والأهمية الجيوـ استراتيجية، والعسكرية، والاقتصادية.
فالحرب الأهلية دامت 15 سنة في لبنان قبل أن يتحرك الغرب لحسمها، وهي لم تحسم إلا على وقع ما هو أكبر من لبنان وأهم منه بالنسبة للغرب في المنطقة، أي على وقع احتلال صدام حسين للكويت، وهي حسمت (أي الحرب الأهلية اللبنانية) بالنهاية لصالح نظام قمعي خارجي "شقيق"، كان جيشه يحتل لبنان تحت ذريعة الردع ووقف الحرب فيه، وليس لصالح لبنان.
على جميع الأحوال، هي مجرد ادعاءات من قبل المستقبليين، لا تسمن ولا تغني من جوع. فقرار الحريري بالعزوف ليس بيده، هذا هو الأساس، وإلا لما كان تردد في خوض الانتخابات ترشحاً واقتراعاً. أما الباقي، فحجج واهية للتغطية على واقع الحريري المرير، وفي محاولة بائسة لإقناع الذات بصوابية خيار انتحاري عبثي أملته إرادة خارجية.
وفي السياق، فإن هذه الانتخابات النيابية إن أثبتت شيئاً حتى الآن، فهو التفاوت في مستوى الوعي والدينامية السياسيين بين "المجتمعات" اللبنانية، لا سيما تلك المناهضة لحزب اللّه تحديداً. أثبت المجتمع المسيحي بشقه المناوئ لحزب اللّه أنه مجتمع ديناميكي سياسياً، لا يستكين للإحباط، إذ منهم من سيقترع لصالح الأحزاب السيادية كالقوات اللبنانية أو الكتائب لتوجيه رسالة مدوية للحزب وحلفائه داخل الطائفة المسيحية، ومنهم من سيقترع للوائح المجتمع المدني، ومن ضمنها تلك المتحالفة أحياناً مع الكتائب، لتوجيه رسالة إلى السلطة (ومن ضمنها حزب اللّه)، وذلك حتى لو لم تتبن أغلبية لوائح المجتمع المدني خطاباً سيادياً صريحاً بوجه الحزب.
وكذلك من المتوقع أن يعمل المجتمع الدرزي، والشيعة المناوئون للحزب (وهم الأكثر شجاعة بين باقي المجتمعات المناوئة لهذا الحزب)، كل ضمن تركيبة بيئته الحزبية السيادية/المدنيةـ التغييرية.
أما المجتمع السني المناوئ للحزب فقد فضل بأغلبيته، أقله حتى الآن، سياسة التيئيس، أي التسمر في الإحباط، والغرق في التحسر على الذات، والبكاء على الأطلال، والعزوف والمقاطعة، والتحسر بعد خراب البصرة لن يفيد.
لا تغيير دون مواجهة حزب اللّه
وعليه، فإنّ معركة قوى التغيير ذات طبيعة سياسية ثانوية، وذات أهمية ثانوية، لأنها لا تواجه بشكل أساسي الحاكم الفعلي للبلد (أي حزب اللّه)، لا في خطابها، ولا ترشحاً في مناطق نفوذه، إلا بعض الاستثناءات النادرة.
لا مصداقية لتغيير لا يتجرأ، ولا قدرة لديه، على المنافسة عملياً إلا خارج مناطق الحاكم الفعلي للبلد، إلا من رحم ربي، ودون إمكانية تحقيق أي خرق مهم في مناطق الحاكم الفعلي للبلد.
كما تعاني قوى التغيير من آفات سياسية كثيرة، لا تبشّر بكثير من الخير حول طبيعة التغيير الموعود ومضمونه، فهذه القوى التغييرية تعاني بشكل كبير من الشعبوية. الشعبوية هي ادعاء التكلم باسم الشعب "الحقيقي"، الشعب "الضحية"، كل الشعب، وأنّ كل من يختلف معها بالرأي هو خائن للشعب وخارج عنه، وعميل للإستبلشمنت، و"خروف للزعيم" (مراجعة كتاب "ما الشعبوية؟" للباحث الألماني في العلوم السياسية والصادر سنة 2016ـ مترجم للعربية، وكتاب المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي بيير روزانفالون "عصر الشعبوية" الصادر سنة 2020).
الشعبوية تحوير للديمقراطية، إذ تستعمل الشعبوية الوسائل الديمقراطية (الانتخابات) فقط كمطية للوصول إلى السلطة، كواجهة شكلية مجردة من مضمونها الأساس، ألا وهو الحرية (حرية التعبير والاختلاف بالراي). وعليه فإنّ الشعبوية غالباً ما يرفدها الفكر الدكتاتوري، ولو بدرجات متفاوتة بين البلدان التي تفوز فيها الحركات الشعبوية.
مع هذه الانتخابات النيابية، تطل الشعبوية برأسها بوضوح في لبنان عبر أقلام صحفية تتولى مهمة البروباغندا لصالح قوى التغيير المدنية، ومنشورات ناشطين ومرشحين من قوى التغيير في وسائل إعلام وتواصل اجتماعي، وهي تستثمر في آلام الشعب اللبناني وتستعملها كمطية لتعميم الرأي الواحد، وتخوين كل من يخالفها الرؤية السياسية وتكفيره سياسياً، لا سيما حول الأسباب الحقيقية (مشكلة سيادة الدولة التي يؤرقها السلاح الخارج عن سلطتها) للكارثة الواقع فيها لبنان حالياً.
خطابهم الطائفي لا يشفع لهم، فبذور الدكتاتورية في شعبويتهم ليست أقل خطراً من أسوأ الأحزاب والمنظمات الطائفية التي تفرض رأيها بالقوة. لبنان بلد مفطور على الحرية وحق الاختلاف بالرأي لجميع أبنائه. هذه هي المعركة الأساس. هذه هي القضية الأساس.
أما الآفة الأساسية الأخرى التي تعاني منها قوى التغيير، فهي ثقافة ما يسميه الفيلسوف الكندي ألان دونو "نظام التفاهة"، وهو نظام أثبت فشله في بلدان العالم العربي، لا سيما مع تجربتي البرادعي في مصر وحمدوك في السودان.
تعاني قوى التغيير في لبنان من النزعة اللاسياسية، أي تتفيه السياسة، وتسخيفها عبر حصرها بمفاهيم تقنية كـ"الحوكمة"، و"التكنوقراطية"، و"التنمية المستدامة"، وما شاكلها من المفاهيم الآتية غالباً من القطاع الخاص، لا سيما من عالم الشركات التجارية، مروراً بالمنظمات غير الحكومية، في نظرة نيو ليبرالية للسياسة، مع ما يرافقها من أدبيات التفكير الإيجابي وهي أدبيات رأسمالية بامتياز، هدفها الأول مجالدة الذات من أجل تحسين الإنتاج، وكأنّ الدولة مجرد شركة تجارية خاصة كجوجل أو أمازون أو أبل، وكأنّ المواطنين في الدولة مجرد موظفين في شركة أو بالأحرى مستهلكين، أو بأحسن تقدير مجرد مستفيدين من خدمات، وليسوا كائنات سياسية.
وثقافة التكنوقراط هذه يتم التسويق لها أيضاً من قبل مرشحين تخرجوا في الماضي من معاهد إدارة غربية قد لفظتها مؤخراً المجتمعات الغربية بسبب تكنوقراطيتها القاتلة للسياسة، ما دفع مثلاً الرئيس الفرنسي هذه السنة إلى إقفال هذه المعاهد (الإينا) التي يتغنون بها في بلداننا، لا سيما في لبنان. فالتكنوقراطي يصلح أن يكون مديراً عاماً في الدولة، ولكن لا يصلح بالضرورة أن يكون سياسياً يمثل الشعب.
بالمحصلة، المشاركة بالاقتراع ضرورية، لا سيما من وجهة نظر سيادية، أي لتقليل الخسائر بوجه حزب اللّه ومشروعه. ولكن في محاولة لاستشراف شكل المجلس القادم وأدائه المتوقع خلال أربع سنوات، يجب أن تكون الآمال في التغيير واقعية، أي ألا تعلّق آمال كبيرة على حجم التغيير المتوقع في البلد، حتى لو وصل عدد معتبر من مرشحي قوى التغيير المدنية إلى الندوة النيابية.
بكلام آخر، لا يعوّل كثيراً على "تغيير" كهذا ولا على مفاعيله العملية في المجلس القادم. فمن المتوقع أن يتكوّن المجلس القادم من بلوك أكثري للحزب (وحلفائه) سوف يكون له الكلمة الفصل في تشكيل الحكومات وانتخاب رئيس الجمهورية الجديد، والسيطرة على مؤسسات الدولة ومقدراتها، بمقابل شرذمة من النواب السياديين والتغيير بين المتخاصمين فيما بينهم.
أما سلاح حزب اللّه فسيبقى المشكل الأساسي في البلد (مشكلة سيادة الدولة)، الذي ينتج عنه كل المشاكل الأخرى كضعف الدولة، واستفحال الفساد (الذي يساهم فيه حزب اللّه ويؤمن له التغطية)، الذي أدى بدوره إلى أكبر أزمة اقتصادية مالية نقدية في تاريخ لبنان، بالإضافة إلى قطيعة مع العالم لا سيما مع محيط لبنان العربي، وإلى وقوع لبنان تحت الهيمنة الإيرانية.
سوف يكون الحاكم الفعلي للبلد -حزب اللّه- مرتاحاً لوضعه بفعل هذا التشرذم النيابي الذي يقابله، خصوصاً أن سلاحه سوف يبقى موضوعاً خارج التداول، لا سيما بسبب تحييده من قبل غالبية مرشحي ما يسمى بقوى التغيير المدنية، تحت ذريعة أنّ أهميته ثانوية جداً بالمقارنة مع الأزمة الاقتصادية/المالية التي يواجهها اللبناني يومياً، وأنّ ميزان القوى لا يسمح الآن ليس فقط بتسليم سلاح الحزب للدولة (وهذا أمر مفروغ منه)، ولكن حتى بوضعه على بساط البحث (استراتيجية دفاعية) أو أقله التطرّق إليه إعلامياً.
مع خصوم كهولاء، وبتعبير ماركسي مع "أغبياء مفيدين"، الحزب الحاكم الفعلي للبلد ليس بحاجة إلى حلفاء.
"نيّالو"، كما يقول اللبنانيون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.