هل سبق أن شعرت بروحك تنكسر كزجاج أصابته طلقة رصاص؟ هل سبق أن أحسست بقلبك يعتصر ألماً وينزف دماً ووضعت يدك على صدرك من شدة الألم؟
مشاعرنا في لحظة الخذلان والقهر والحزن كثيرة ومؤلمة، وقد يمتد أثرها ليسكن أذهاننا بقية عمرنا، نشعر بهذه اللحظات طويلة أضعاف مدتها، ونرى الكون بعين أخرى كأنه يشاطرنا آلامنا!
بالنسبة لي ففي الحزن تكون نظرتي للحياة متأملة هادئة، بها مسحة من الجمال الوقور، ألحظ ما لا ألحظه في انشغال فكري وسعادتي، فأرى كل شيء كأني أراه أول مرة، أنغمس فيه فيفيض عليّ من كنزه الخاص!
فقد ألمس مشاطرة السماء لي في توشحها بالغيوم، أو في مطر منهمر كأنه بكاء غزير نيابة عن عيني فأصغي له طويلاً في امتنان. وقد أراقب الحقول والأراضي الخضراء الممتدة من نافذة حافلة أو سيارة، فيريحني لونها الهادئ وأشعر بها تربت على روحي بامتدادها المذهل. وقد ألمس الحزن في صمت أغصان الشجر في صيف مرهق، أو ذبول سعف النخيل من لفح أشعة الشمس وأتخيلها خجلة من وضوح ذلك للمارة ذهاباً وإياباً!
وأكثر ما يثير حزني أوراق الخريف البرتقالية المنثورة على الأرض كأنها استسلمت للموت فسقطت ملتوية على نفسها! أرهف سمعي لمواساة اليمام لي في غنائه الأشبه بكورال حزين، ويخيل إلي هديل الحمام كولولة متواصلة! أعشق تغريد الكروان في الليل وأشعر بأنه أعذب صوت قد تسمعه أذناي، يمر مسرعاً فأتخيّله مُحلِّقاً بين البيوت مالئاً سكون الليل بفتنة صوته الأخّاذ وأتمنى لو يطول غناؤه العذب فيبعث في الروح فرحة وأنساً وسروراً، وأُنصت لصياح الديك وأتخيله كما أعرفه، شاخصاً ناظريه للسماء كأنه يدعو ويبتهل بكل كيانه، ولا أعلم لمَ ألمس في صياحه خشوعاً وتضرعاً وحزناً؟!
أحب البحر وألمس حنوه علي، فها هي أمواجه المتلاطمة تهدر بتناغم فأتوقف عن التفكير وأستسلم لسحر إيقاعها فكأنها تسحب ألمي بالتدريج فتزيحه عني، وتتشبع روحي بلونها الفيروزي الخلاب وترتاح بانسيابيّتها الناعمة!
ويا للقمر وجماله، وهدوء الليل وصفائه، إنه يبعث في الروح الشجن، ويشعرني بضعفي، فها أنا مخلوق بشري، أرى مواقع النجوم الهائلة كنقطة صغيرة، أعلم أن الكون أعظم من مجموعتنا الشمسية برمتها فكيف أنا منه؟! فأوقن بحقيقة فقري وضعفي، فألهج بذكر الخالق العظيم وأدعوه بتفريج الكربات ونيل المسرّات، فأنت فقير إليه محتاج لقوته العظيمة، فيدب الأمل في روحي وهو يعدني بغدٍ أفضل.
أحياناً عندما أصبح حزينة أتمنى لو كان الدعاء أن أصبح شيئاً آخر جائزاً، فأتمنى لو كنت طيراً يحلّق بحرّية في أي مكان شاء، يرفرف بجناحيه مراقباً العالم من علو، يحط على شجرة هنا، أو على تلة هناك، يبني عشه في المكان الذي يروق له، وقد يغادره وقتما يشاء، يسافر ويرحل دونما قيد أو شرط أو مال!
وقد أتمنى أن تكون قبعة الإخفاء حقيقية وأن أختفي، فأراقب مَن حولي وأعرف قدري عندهم أو كيف سيتصرفون في غيابي، أراقب الناس دونما خجل، وأصبح غير مطالبة بأي شيء، فأنا لست هنا!
وحقيقة فإن هذه الأمنية تروق لي منذ صغري، فعندما كنت طفلة، إذا حزنت وبكيت كنت أختبئ في ركن قصي مظلم من البيت، خلف الأريكة الكبيرة، كنت أظن ألا أحد يراني، وأحياناً كنت أسعد ببحث والدي عني وندائهم لي، لقد نجح الأمر!
كانت حلقة كرتون توم وجيري التي يطليان نفسيهما فيها بطلاء يخفيهما من أجمل الحلقات بالنسبة لي، فقد كان ممتعاً جج ذلك الشعور!
أحياناً أتمنى لو أصبح شجرة، فلا يتألم قلبي، بل أظل واقفة صامدة عبر الزمن، تمتد غصوني وتورق فروعي، وأنعم بضوء الشمس وأسبّح الله في كل وقت، وأذكر هنا فقرة جميلة لامست إحساسي هذا من رواية عزازيل:
"أسندت مؤخرة رأسي إلى شجرتي الوارفة التي كانت أحب الشجرات هناك إلى قلبي.. غمرني إجهاد العائد من سفر طويل، ورحت أتوهم بعدما أغمضت عيني، أنني صرت والشجرة كياناً واحداً. أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي، فتتخلل جذع الشجرة، ثم تغوص في جذورها العميقة، وتتوغل في قلب فروعها العالية. كان كياني يتمايل مع أوراقها، ويتساقط بعضي مع سقوط الأوراق من أغصانها. تذكرت وقتها، ما قرأته في أخميم من شذرات فيثاغورث، حيث يقول إنه تذكر في لحظة إشراق كثيراً من حيواته السابقة. منها حياةٌ كانت روحه فيها شجرة! تمنيت ساعتها لو أصير شجرة مثل هذه، للأبد، شجرة وارفة الظلال وغير مثمرة، فلا ترمى بالحجارة، وإنما تهواها القلوب لظلها".
وأكثر ما يدفعني إلى الابتسام الزهور والورود، تروّح عني بجمالها الأخاذ دفعة واحدة، كأن في بتلاتها الملونة وأشكالها المختلفة سحراً عجيباً يفعل بي هذا، كثيراً ما أغبط البستاني أو العاملين في مشاتل ومحلات الورود والزهور، فهم يتعاملون طوال يومهم مع هذه الكائنات بالغة الرقة والعذوبة، تتشبع أعينهم بألوانها ودرجاتها المتفاوتة، وأشكال أوراقها بارعة الدقة، ويملأ هواءهم شذاها وعبقها!
كانت هذه لمحات من مشاعري في لحظات حزني، فماذا عن حزنكم؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.