لنصطفّ جميعاً مؤقتاً على أرضية شديدة الهشاشة، من أجل الحفاظ على الوضع السياسي والاجتماعي الحالي، الجميع ضد الإخوان، في ظل ظروف اجتماعية غير مسبوقة، مقابل بعض التنازلات الشكلية. هذا هو لسان حال السيسي بخصوص دعوة المصالحة التي أطلقها في حفل إفطار الأسرة المصرية.
إفطار الأسرة المصرية
بنص كلام السيسي، وقعت آخر المستجدات السياسية في الشأن العام المصري على مرحلتين بينهما مسافة زمنية بسيطة.
المرحلة الأولى، على هامش سعي النظام إلى تأكيد عدم إغفاله المجالات الاقتصادية المهمة الأساسية كالزراعة، وخلال تدشين ما عرف باسم موسم حصاد القمح، في ظل تعثر الإمدادات الخارجية لمصر في هذا الجانب، من روسيا وأوكرانيا، وأثناء لقاء مرتب بعناية مع الإعلاميين، جرى إذاعة حوالي نصف ساعة منه، تمثل جانب كلامه إلى الحضور؛ فقد دعا السيسي إلى حوار سياسي، يتسق مع إطلاق الجمهورية الجديدة، دون تحديد لخطوطه العريضة.
المرحلة الثانية بعد أيام قليلة من تلك الدعوة، حيث تجسّدت تلك المساعي في الطبيعة المختلفة لضيوف ما يعرف سنوياً باسم "إفطار الأسرة المصرية". فمع الحضور الثابت كل عام لشخصيات مثل شيخ الأزهر وبابا الكنيسة وقادة الجيش وإعلاميّي النظام، إلى جانب عدد من الشخصيات البسيطة، خاصة من النساء، اللائي يحضرن لأغراض تكريمية؛ فقد برزت شخصيات تنتمي إلى التيارات اليسارية والليبرالية، مثل حمدين صباحي وخالد داوود، بعد ساعات قليلة من الإفراج عن بعض الشباب المنتمي لتلك التيارات.
السياق الزمني
تأتي تلك الدعوة النوعية في ظل حزمة من التطورات التي يكشف تعاضدها جميعاً الحقيقة وراء، والغرض من، هذه الخطوات:
1. تبني النظام استكمال سلسلة "الاختيار" الدرامية، والتي ركزت خلال الجزء المذاع هذا العام، على تشويه الإخوان المسلمين بشكل أساسي دون غيرهم، وذلك خلال فترة العام الذي حكموا البلاد فيه صورياً، والإفراج عن تسريبات مصورة تساهم في عزل الإخوان اجتماعياً وسياسياً، مثل المواد التي تحوي ما يتم تأويله على أنه تحريض على العنف العام، وعدم الارتياح لمعظم الشخصيات المعارضة لهم على الساحة آنذاك، بغض النظر عن مدى قرب أو بعد تلك الشخصيات عنهم، على غرار السلفيين وعصام سلطان وعبد المنعم أبو الفتوح وحازم أبو إسماعيل، فضلاً عن التيارات غير المحافظة طبعاً.
يتم اختيار تلك المواد التي يسمح بعرضها بعد "فلترة" دقيقة من قبل مؤسسات الرئاسة والجيش والمخابرات، وبناء عليه، فإن التركيز على تلك الرسائل، في هذا التوقيت، في ظل مرحلة تبني ذلك النوع من الأعمال من قبل الدولة رسمياً وبشكل صريح، لا يمكن أن يكون اعتباطياً أبداً.
الرسالة الأبرز من حلقات هذا العام: الإخوان ليسوا محل ثقة، الإخوان حال صعودهم، سيحتكرون كل شيء لأنفسهم. هم فصيل إقصائيٌّ وعنيف.
2. تأتي تلك الدعوة الجديدة، بعد خطوات شكلية مشابهة مثل الإفراج عن بعض الشخصيات غير المحافظة، مثل إسراء عبد الفتاح وشادي أبو زيد ورامي شعث وشادي سرور وسُلافة مجدي وحسام الصياد، وذلك تزامناً مع إطلاق وثيقة ما تعرف باسم "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، وإعادة توسعة وتأهيل السجون الكبرى في البلاد لتتناسب مع المعايير الغربية، ورفع حالة الطوارئ، وعودة الجماهير نسبياً للملاعب.
3. لماذا شكلية إذاً؟ نقول شكلية لأن الخطوط العريضة، سياسياً واجتماعياً، لم تنَل أي تغيير. الدستور والانتخابات وحرية الإعلام وحرية الاحتجاج والأوضاع القضائية، كما أن هذه الإجراءات التجميلية ترافقت مع إجراءات مضادة مثل إعطاء الجيش الحق القانوني في الانتشار السريع وتوسيع تعريف المنشآت الحيوية لتشمل كل المؤسسات الحكومية تقريباً، وهو ما يتعارض مع تعطيل الطوارئ، إلى جانب استمرار سياسات القتل غير القانوني والاعتقال والإخفاء القسريّ، على نحو ما حدث مؤخراً ببشاعة مع الباحث أيمن هدهود والإعلامية صفاء الكوربيجي وفريق ظرفاء الغلابة الكوميدي.
4. تترافق أيضاً تلك الدعوة مع تغيرات نوعية ملموسة في التوجه الاستراتيجي للنظام المصري، فبعد أعوام من جهود التعاون العسكري العملاق مع منافسي الولايات المتحدة في أوروبا وفي الشرق، مثل ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين، تقوم المؤسسة العسكرية حالياً بإعادة تموضع، على أرضية الاقتصاد السياسي والأمني، للتقارب من جديد مع واشنطن.
تبلورت تلك الجهود تراكميّاً في صفقات تعاون عملاقة مثل صفقة تجديد كامل أسطول مروحيات الأباتشي الهجومية العاملة لدى سلاح الجو المصري، وتوقيع صفقة ملياريّة للحصول على طائرات نقل عسكري متطورة من الولايات المتحدة، مع المضي قدماً في طريق التخلي عن الطائرات الروسية التي اشتراها أو تعاقد عليها الجيش المصري من روسيا، مثل طرازات "ميغ 29" – "سو – 35" لصالح بدائل أقدم وأقل أهمية من الولايات المتحدة، هي على الأغلب مقاتلات "إف 15".
5. تأتي تلك الدعوة أيضاً في نفس الوقت الذي تشهد البلاد فيه استقراراً ملحوظاً من الناحية الأمنية البحتة، وهو ما يعطي للنظام شعوراً عاماً بالثقة من تلك الزاوية، وهي تحسن الوضع العام إزاء مكافحة التمرد ذي الجذور الإسلامية والقبلية في شبه جزيرة سيناء، والاستقرار النسبي خارج الحدود شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، مع قطاع غزة وليبيا والسودان، فضلاً عن البدء في خطة تثبيت نظام الأسد شمالاً.
في نفس السياق، فإن هناك استقراراً في البنية التحتية الأمنية البحتة، والتي كانت متواضعة قبل 25 يناير/كانون 2011، وازدادت إجهاداً وتفككاً بعد الثورة، إذ صار لدى النظام المصري قواعد بيانات أكثر دقة وتقدُّماً عن كل تفاصيل المجتمع المصري، والتي ستزداد تطوراً وفاعلية مع الانتقال إلى العاصمة الجديدة واكتمال خطة التحول الرقمي وافتتاح مشروع عقل الدولة العملاق والذي يعد عبارة عن قاعدة بيانات مركزية عملاقة تحت الأرض.
كما شهدت البنية التحتية الأمنية تحسناً كبيراً فيما يخص القدرة على التدخل الطارئ بفضل تدشين قوات التدخل السريع، ومنظومة التعامل مع الطوارئ في العاصمة الجديدة، وإخراج السجون بعيداً عن الكتلة السكانية؛ تلافياً لأي تطورات اجتماعية خطيرة كما حدث في يناير/كانون 2011، وإعادة تأمين جميع المقرات الشرطية في البلاد على أعلى مستوى، وإخراجها أيضاً بعيداً عن الكتل السكنية، فيما يخص مديريات الأمن الكبرى.
كذلك، فإن هناك استقراراً وتحسُّناً وتبلوراً وإجماعاً داخل النظام إزاء خطة إعادة رسم الديموغرافيا المصرية على أساس أمني من خلال السيطرة على الجغرافيا والسكان عبر عدة مشاريع متعاضدة منتشرة في كل الاتجاهات الاستراتيجية، على غرار الحد من البناء الأهلي واحتكاره من جانب النظام ومطوّريه، وتحجيم البؤر الاجتماعية الأكثر خطورة في العشوائيات وإحلالها بتجمُّعات أكثر حوكمة (بدائل العشوائيات) وإعادة هندسة الريف المصري بالكامل، بالتزامن مع استراتيجية تقليص المواليد والزواج واستخدام التقنية في تحصيل الضرائب وتحصيل المستحقات الحكومية بشكل مسبق (العدادات الكوديّة).
6. إذا كان الوضع الأمني قياسياً على هذا النحو، فما هو مصدر القلق لدى النظام إذاً؟ مصدر القلق لدى النظام هو الخوف من تمدد تردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية العامة بحيث تتخذ بعداً أمنياً خطيراً على استقراره واستمرار المشروعات الديموغرافية والأمنية التي تعد مصيرية بالنسبة لاستدامته.
بدأت الخيارات تتقلص، فالاقتراض بات متعثراً في ظل استنفاد معظم الأبواب في أوقات سابقة، مثل المؤسسات الدولية المانحة والأصدقاء في الخليج النفطي وارتفاع سعر الفائدة في الخارج مع بلوغ الدين العام معدلات قياسية. كذلك، فإن هناك تراجعاً في عوائد السياحة القادمة من الشرق الأوروبي بسبب الحرب الدائرة هناك، وتراجعاً مماثلاً في تحويلات المصريين بالخارج، وارتفاعاً هائلاً في أسعار السلع المستوردة من الخارج مثل النفط والغذاء، وقد سبق أن قام النظام بخفض قيمة العملة مرتين 2016 ومؤخراً.
يحاول النظام طرق كل الأبواب الباقية حالياً، مثل الاستدانة المعتمدة على التنازل عن حصص في مؤسسات اقتصادية ناجحة، والبحث عن إمكانية الحصول على قروض جديدة مرتفعة التكلفة من المؤسسات الدولية المانحة، والتقارب مع دول طالما اعتبرت "شركاء غير موثوقين" مثل تركيا وقطر، وإصدار سندات غير تقليدية؛ مع عدم وجود نية- إلى الآن- للعدول عن المشروعات القومية العملاقة مثل العاصمة والريف الجديد نظراً لأهميتها الأمنية على المدى البعيد.
هنا مربط الفرس: تضيق الدائرة والخيارات، والخوف كل الخوف من الاجتماعي وآثاره الأمنية، ومن ثم فإن النظام في حاجة إلى تجديد. الحدأة لا تلقي الكتاكيت!
لماذا الخوف من الإخوان؟
هناك عدة أسباب تدفع السيسي للخوف من الإخوان أكثر من غيرهم، والعمل على إعادة صياغة خريطة التحالفات شكلياً من أجل الإمعان في عزلهم وتحييد خطرهم المحتمل عليه اجتماعياً وسياسياً، إذ بعد حوالي 10 أعوام على الإطاحة بهم، ما زالوا هم الهاجس الأكبر والموضوع الأهم لدى النظام الحاكم في كل المناسبات، وعلى رأسها إفطار الأسرة المصرية محل الجدل:
1. على الرغم من أن موجة القمع بعد الـ3 من يوليو/تموز 2013، قد طالت الجميع، كل التنظيمات السياسية وكل الاتجاهات الفكرية وكل المجالات ذات الطبيعة التعبيريّة مثل الصحافة والإعلام وكل خريطة القطر المصري جغرافياً، إلا أن الإسلام السياسي الوسطي ذا المشروع الحضاري، ممثلاً في الإخوان المسلمين، كان له النصيب الأكبر من القمع والانتقام. يؤجج ذلك المظلومية والثأريّة عند الإخوان أكثر من غيرهم، ويُصعِّب أي احتمالات للتصالح معهم.
2. القدرة على التعافي والتنظيم. في هذا السياق، هناك مقولة شهيرة من المقولات التأسيسية للسياسة المصرية الحديثة، وهي أن مصر ليس بها- فعلياً- إلا فصيلان يتنافسان على الحكم، الجيش والإخوان. ويتشابه الإخوان مع الجيش في عدة نقاط التقاء تجعلهم خطراً دائماً على النظام الحالي، مثل القدرة على التنظيم والحشد، والسمع والطاعة (الهرمية)، والأيديولوجيّة الرافعة (الدين مقابل الوطنية) والجذور الاجتماعية والتاريخية. وهو ما أشار إليه السيسي في كلمته حينما قال إنه أجاب على رفاقه في الجيش عن القوة التي ستحكم البلاد بعد يناير/كانون الثاني، فقال لهم مباشرة: الإخوان!
3. في هذا السياق، فإن أحد الأسباب التي دفعت الجيش إلى الإطاحة بالإخوان في غضون عام واحد فقط، وعدم الانتظار أكثر من ذلك، هو الخوف من التأثير الإيجابي لعامل الوقت على فكر وهيكل الجماعة.
فالبقاء في الحكم وقتاً أطول، خاصة لو تركوا بحرية، كان يعني المزيد من الخبرة العملية في أمور السياسة والإدارة والحكم، واحتمال تكوين شبكة علاقات تراكمية داخل الدولة العميقة، وقد نجحت بعض الشخصيات المحسوبة عليهم حكومياً حينئذ في اكتساب قبول عام كان كفيلاً بالتحول إلى نموذج قابل للتكرار في مؤسسات أخرى، مثل تجربة باسم عودة في وزارة التموين وأسامة ياسين في وزارة الرياضة، فضلاً عن مؤسسات الرئاسة والبرلمان.
ومن ثم، فإن ما يطمح إليه السيسي من الإجراء الأخير هو التماس وضع مشابه إلى حد ما- مع الأخذ في الاعتبار تغير السياقات والظروف- بالوضع السابق مباشرة لبيان الـ3 من يوليو/تموز؛ الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والأزهر والكنيسة، ووجوه وكيانات مدنية غير دينية، الجميع في مواجهة الخطر الأكبر: الإخوان.
لا بوادر جادة للمصالحة
فضلاً عن عدم إمكانية حدوث مصالحة "حقيقية" عقلاً لأنها ستمثل خطراً وجوديّاً على السيسي ومن حوله، فإن كلمة السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية قد تضمنت إشارات واضحة على استبعاد التيار الإسلامي، بصيغته الحقيقية، من المصالحة المزعومة:
1. فقد أكد السيسي على ثبات نظرة "الجمهورية الجديدة" للإخوان المسلمين باعتبارهم فصيلاً إقصائيّاً خطيراً لا ينتمي إلى الجماعة الوطنية المصرية، فبنصّ كلام السيسي، كل ما ورد في "الاختيار" من أحداث وتسريبات ومواقف هي الحقيقة كما جرت بدقة، ومن ثم، فإنه، بالطبع، لا مجال للتقارب مجدداً مع هكذا فصيل يهدد بالعنف ويستخدمه، ويسعى إلى الإقصاء والانفراد بالحكم والإدارة.
2. عاود السيسي التعريض بعدم إمكانية الانفتاح على الإخوان في ظل ما سماه قيامهم بالتشكيك في كل جهود الدولة المصرية على مدار 90 عاماً هو عمر الجماعة، والتلميح إلى تورطهم في محاولات إسقاط الجيش خلال أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، بنص كلامه، مع الإشارة إلى أن محض وجودهم "سياسياً" يعني مباشرة تهديد الهُوية المصرية.
3. مع إضافة شخصيتيْن إلى لجنة العفو الرئاسي أحدهما اليساري كمال أبو عيطة، فإن اللجنة خلت من أي أسماء محسوبة على التيار الإسلامي. إذ كان حريّاً بالقائمين على السلطة، حال وجود نية جادة للتقارب مع الإخوان، أن تضم اللجنة شخصيات معروفة بقدرتها على الحوار والوساطة والقبول لدى الجميع مثل محمد سليم العوا ومحمد منتصر الزيات.
4. لمن تفاجأوا بترحُّم السيسي على الرئيس مرسي، فقد أثنى السيسي من قبل، فيما يشبه في البلاغة العربية الكلاسيكية "الذم بما يشبه المدح" على مرسي، بعد الانقلاب العسكري، خلال لقائه بشيوخ مطروح والمنطقة الغربية العسكرية، واصفاً إياه بأنه "رجل طيب". وهو تكتيك خطابي يهدف من ضمن ما يهدف إلى عزل مرسي عن الجماعة نظرياً، وإظهار أن السيسي لم يكن لديه أي مشاكل شخصية مع الرئيس أو طموح داخلي للحكم، وإنما المشكلة مع التنظيم والفكرة.
الخلاصة: إضافة إلى التجميل، والتهدئة، يسعى السيسي إلى قطع الطريق على أي احتمال لحدوث اصطفاف وطني حقيقي بين القوى الإسلامية والمدنية خلال فترة الغليان الاجتماعي تلك، عبر اجتذاب القوى المدنية غير المؤثرة – وحدها – على الأرض أو في الشارع، إلى معسكره، مقابل الإمعان في عزل خصومه الحقيقيين. الإخوان وحلفائهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.