لطالما سمعنا الكثير من الناس وهم يرددون أمجادَ الحضارات الشرقية، ينبري غالبهم للحديث عن الحضارة الإسلامية وما فعلته من أمور عظيمة في مجالات مهمة؛ الفلسفة والعلوم والتفوق العسكري والقيمي والفكري واللغوي -شعراً ونثراً- ويزهو البعضُ بأنفسهم عند الحديث عن كون أول حضارتين خرجتا للعالم كانتا حضارة النيل المصرية، وحضارة بلاد الرافدين العراقية، وكذلك هذا النوع لا ينفك يتكلم عن الوضع الحضاري الذي بدأ وجوده وشقَّّ أولىى خطواته في رمالِ الدنيا المتغيرة من هذه الأراضي الشرقية الجميلة.
النوستالجيا في كل الثنايا
يظهر الحنين إلى الماضي عادةً من الإنسان في محاولات منه لتخفيف وطأته إنْ كان مزعجاً، أو زيادة جرعته إن كان مريحاً له؛ لذا يستذكر الإنسان الماضي الذي يتعلق به في لحظات الفرح والحزن، والشجن والنشوة، والألم والغنوة، وفي النهاية يشكل الماضي جزءاً مهماً من حياة كلِّ إنسان، لأنه في البداية يُشعر الإنسان بوجوده ويجعله قادراً على تحليل وتوقع مستقبله في الوجود بعد مرور الأيام الحالية وحدوث التحولات والتغيرات.
كيفَ يرتبطُ شيء ما بماضي شخصٍ ما؟
هذا المبحث من المباحث التي يصعب البتُّ فيها، لأنَّ علم الأعصاب طبياً له فيه مقالُه، وكذلك الفكر التجريدي الفلسفي يحاول الوصول لمنطق حوله، وكذلك الأدب يسعى لتدوين المشاعر المرتبطة بالماضي، وإضفاء لمسة أرشفة تساعدُ في التعرف إلى ماهية الماضي من ضمير مُعبِّر، والعلوم والفنون والآداب التي تناقش هذا المجال كثيرة، وكلُّ المجالات المعرفية تُبنى على الماضي تأسيساً وإنتاجاً وتحليلاً، حيث إنَّ الذاكرة جزء لا يتجزأ ولا ينفصل عن المعرفة الإنسانية.
ولكن يرتبط الشيء بالإنسان، عن طريق تأثره شعورياً به، وصحيح أن غالب الحنين إلى الماضي ينحصر في إطار الماضي الجميل، الذي كان وقْعه في لحظته مريحاً، لكن أحياناً تتوسع مدارك شخص أو تتقلص بالنسيان، ليرى ماضياً مؤلماً مثلاً أمراً يستحق أن يُستَذكر ويمجد.
وطبعاً العنصر الأول من الحنين للراحة يتبدّى للإنسان غالباً في ضوء ظروفٍ كان فيها الماضي مريحاً له شعورياً من ناحية أخلاقية ضميرية، ومن ناحية إنسانية فخرية.
ولا شك أن كلَّ إنسانٍ، منظومة فكره وطبيعة تكوينه ونشأته وتربيته لنفسه خلال تعلمه واطلاعه على الأمور المختلفة هي التي تحدد شعوره وموقفه تجاه الأحداث الماضية.
بلال فضل والصدمة الواقعية
ظهر الأستاذ بلال فضل في مقاطع على قناته على "يوتيوب" حصدت ملايين المشاهدات، يتحدث في الأساس عن ذكرياته، والتي تشكّل بالنسبة لنا -جيل التسعينيات وكذلك الثمانينيات- أمراً مهماً يربطنا بحياتنا الحالية والمستقبلية، وكثير من ذكرياته هي بالنسبة لنا خفايا نحبُّ أن نسمع عنها، سيما والتضليل الإعلامي الرسمي يحتل مراتب عجيبة في الوضع الراهن، لذا استثار بلال عواطف مختلفة من خلال حديثه عمَّا رآه من أناسٍ يهمون عدداً كبيراً من الشباب وحتى المسنين العرب، فلا شك أنَّ الفضول البشري موجود في الرغبة في معرفة القصص تجاه الشخصيات المهمة دائماً، ولكن ما يزيد الفضول أنْ تكونَ هذه القصص مهمة على جانب المشاعر الإنسانية النبيلة، والتي تجعله يشعر بقيمته كإنسان له حقوقه وله حياته التي يريد أن يحياها وفق شكل هو يريده، فكلامُ بلال فضل عن أمورٍ سياسية وأمور تخص الكتابة والفن والصحافة أظهر نماذج ثلاثة، كل نموذج يستحق الوقوف معه، لا سيما الأخير، والذي هو محور المقال، والنماذج كالتالي:
1. المتقبل لكلام بلال، لأنَّ هذا ليس جديداً عليه.
2. المتحفظ على كلامه، والذي يرى أنه صحيح لكن من الحكمة إغفاله لأن هذا هو الطبيعي ولا مجال للمثالية.
3. المصدوم من كلامه، والذي لا يريد تصديق الحقيقة حتى لو كانت أدلتها أكثر من مياه الكرة الأرضية مجتمعة.
النموذج الأول، هو النموذج الشائع لمتابعي بلال، لأنَّ من عاشَ يقرأ كتبه ومقالاته بشكلٍ دائم يعرف البئر وما يغطى به بشكل جيد كما يقال "ولا أذكر رؤية سيناريوهات أفلامه لأنها لم تكن تقدم نفس دسامة المحتوى الواقعي داخل الكتب والمقالات"، لذا لم تكن لهذا النموذج ردة فعلٍ مبالغ فيها، وهو يدري أنَّ ما سيقبل عليه من كلام بلال فضل يدور في هذا الإطار الذي تعودناه منه، عقلانية واقعية في رؤية الأحداث.
أما النموذج الثاني، وهو نموذج المتحفظين، والذين يسيرون وفق مَثَل: "امشي جنب الحيط"، فلا ريب أنّ ثمة أحداثاً ووقائع كوّنت لهم هذه الخبرة، فصاروا يرون أنّ أي نطق بكلامٍ حقيقي قد يشكل تهديداً، وهؤلاء القوم هم أكثر قوم مقتنعين بأن الحقيقة مُرة، كما استمدوا فلسفة "امشي جنب الحيط" سابقاً من الحكمة الشعبية، وبالطبع فإنّ هذا النموذج يكره المخاطرة، وليتهم أكملوا دراسة الأمثال والخبرات، ليعرفوا أنّ "من يتهيّب صعود الجبال يعش أبدَ الدهر بين الحفر"، فلو لم يخاطر المرء ستأتي المخاطرة عنوة، لكن من غير توقعٍ منه، ما سيوقعه في مهالك تدارك الموقف وأقل الخسائر، لا المواجهة والإصلاح، والواقع شاهد في تفاصيله اليومية والتفصيلات المتراكمة على أنَّ الخطر عنصر ملازم للإنسان فرداً، وللناس شعوباً، ولا مفر منه إلا باستدعائه والتغلب عليه.
وأما النموذج الثالث، وهو النموذج الأهم، والذي استدعاني لأكتب، وهو نموذج الناس الذين لا يفعلون شيئاً سوى الدفاع عن منظومات سياسية أو فكرية أو دينية أو مجتمعية متفشية، ليست لديهم قابلية لقبول الحقيقة، وغياهب الوهم بالنسبة لهم مواطن السعادة والراحة "وأكثرهم للحق كارهون".
هذا النموذج يلعب دائماً على تيمة معانٍ قد ابتُذلت بسبب تكرارها من قِبلهم، مثل "الوطنية" و"الحفاظ على الأمن" و"المؤامرات الخارجية المدمّرة للبلد" إلخ…، وإذا ما ضعف وأقر على مضض بوجود المعاناة فإنه أيضاً يذهب دائماً للتخدير المعنوي، كالحديث عن أهمية الصبر وجزائه، ولا شك أن الغالبية من الناس فقدت ثقتها في هذه المعاني، بعد أنْ فقدت ثقتها -بطبيعة الحال- في الأساس بوجود حياة كريمة، ومنطق الصبر أصبح خاوياً، لأنه لو صُدِّقَ لأصبح الناس كلهم يصبرون كأيوب طوال حياتهم، غير أنَّ أيوبَ شفي من مرضه ونال جزاء صبره، ولكن هؤلاء يرونَ سوءَ الأوضاع يزداد كلما ازدادوا صبراً.
والنموذج المصدوم والمنكر للأحداث بعضه يدخل بعدَ أن تبدأ نفسه بمناقشة موقفه بمراحلِ اكتئاب فكرية قوية، لا نقصد منها أن يتألم شعورياً بالضرورة، لأنَّ غالب هؤلاء تمرسوا على عدم الشعور بالشعب، وبأنفسهم وما يعانونه بالأساس، إنما يظهر اكتئابهم الفكري في استعادة الماضي المجيد، والذي تلمس في النهاية أنَّ المراد من ذكره: انتظار إنقاذ إلهي، أو حتى سنة كونية، يظهر هذا في تأكيدهم دائماً على "هذا البلد"، وما يوجد من "خيرات هذا البلد"، ومن وطأ "هذا البلد" وإلخ…، يرجون في ذلك أن ينتصر الكون للبلد أو أن تحدث حالةٌ من الانتعاش بغير عملٍ أو سعي، فقط لأن "هذا البلد" هو "هذا البلد".
ولهذا سميت ما بعد مرحلة الصدمة من الواقع بمسمى "الاكتئاب الحضاري"، وذلك لأنّ المكتئب يتفاقم اكتئابه باستعادته الماضي وما كان يعيشه، متعلقاً به، والتعلق أساس المرض النفسي بتكوين صورة وحيدة عن الحياة، ونظرة لا تتغير عن السعادة، فيزداد الشلل الاجتماعي شللاً، وتزداد الحياة مرارةً وفقراً وألماً وإجحافاً ومرضاً، والطبيعات التكوينية هذه وضعت نفسها في عصر انتهت فيه العبودية، كمثال على أنَّ ثمة عبيداً لن تنقذهم منظمات حقوق الإنسان، لأنهم يرون أن الراحة مستودعٌ قميء، وأنّ الفرحةَ وادٍ من الغموض يستدعي إلحالقه بـ"خير اللهم اجعله خيراً"، وأساس التغيير يبدأ من النفس، ولا شكَّ أن القوة الفردية التي أكدَّها وأسّسَ لها الفيلسوف العظيم "كانط"، هي الأساس دائماً في نهضة الشعوب، فلو أنَّ كل الجماعات تقول الحقيقة، ويبقى هذا النموذج والصنف من البشر يرفضها، فهي غايةٌ في النفس لا تُصلَح إلا من داخلها.
وفي الختام: فهم نفسية الناس هو العنصر الأساس في الحكم عليهم، وليس تقييم الكلام الصادر منهم وحده، دون النظر إلى أسباب قوله، وتداعيات النطق به، والمصالح الغائبة وراءه، أو دفع المفاسد المستترة في الخفاء بين ثنايا الكلمة وحروفها، ولعل بلال فضل استطاع أن يرصد لنا بخبرته حقيقةَ وجود الكثير من الكلام الصحيح وهو ما فشل فيه الإعلام المصري الرسمي، الذي قد يتغير في لحظة، لمجردِ تغير الأوضاع، وتغير الشعور النفسي تجاه أمرٍ قد كانَ يهاجَمُ من الشخص المُتغير سابقاً، والعكس صحيح، ما يقودنا إلى أنْ نتروى في الرأي والحكم على أي حدث، حتى ينضج جيداً، وتظهر كل العناصر الغذائية فيه، التي تغذيه بأموال، وتغذي طائفة الشعب المغيب بسُّمٍ فكري يعود على البلاد والعباد بالخراب، ولكننا نعرف بعد كل هذا الكلام أنّه سيظل هنالك أناسٌ ينتظرون أن ينهض البلد من حاله، لأنه "هذا البلد"، إلى أن يقضي الله أمراً كانَ مفعولاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.