"كان هناك تعجل في النظر إلى القرون الوسطى على أنها مرحلة ثبات، بل جمود، بينما تفرض هذه الفترة نفسها اليوم في العالم الغربي، وفي العالم الإسلامي على أنها عقد يتميز بالابتكار السياسي".
- برتراند بادي، كتاب "الدولتان".
ماذا حدث للمجتمعات المسلمة في القرون الأخيرة؟
ربما هذا السؤال هو أعقد سؤال نواجهه في عصرنا الحاضر، والإجابة عنه تحتاج لا لمقال أو كتاب واحد، بل تحتاج مؤسسات ضخمة من الباحثين في مختلف المجالات، لا سيما العلوم الاجتماعية والإنسانية والدينية، للخروج بتصور كامل ودقيق عن الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا، وأسباب هذه الحالة، وكيف نعالجها أو كيف نتعامل معها في الأقل.
لكن ما أرغب فيه هو أن آخذك معي في رحلة بسيطة لاستكشاف طريق ما للإجابة عن هذه الإشكالية الصعبة لعالمنا الحالي.
من أين يبدأ الإصلاح؟
هل يبدأ الإصلاح من الفرد أم المجتمع؟ من المجتمع أم الدولة؟ للإجابة عن هذا السؤال بدأتُ رحلتي من البداية تماماً، وهي محاولة فهم الواقع المعاصر: من أين جاء؟ كيف أصبح حال الدول المسلمة والعربية هكذا؟ ما الأسباب؟
أقصد بقولي بالواقع المعاصر هو واقع معظم مجتمعاتنا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتعليمية وغيرها من جوانب المجتمع، كيف أصبحت على حالها الموجودة عليه الآن، هل هو الاستعمار حقاً (مثلما تقول بعض التحليلات والمدارس الفكرية)، أم سبب آخر؟ أم هي مجموعة متنوعة ومتشابكة من الأسباب والتراكمات على مر القرون أدت للواقع المعاصر لنا؟
مثل هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني عند بداية تعلمي ومحاولة معرفة الإجابة عن السؤال الأكبر: لماذا نحن هكذا؟
في الحقيقة هذه مهارة تعلمتها في رحلتي، وهي مهارة أن يكون لديك أسئلة تبحث لها عن إجابة بشيء ما من التجرد عن الإجابات الجاهزة المحفوظة، إذ ستكتشف دائماً أن الإجابة أعقد مما تتخيل، أو على الأقل هي معقدة ومركبة وليست بسيطة.
للإجابة عن هذه التساؤلات اتجهتُ للعلوم الاجتماعية (فهي المختصة بالإجابة عن الواقع المعاصر)، فاكتشفت أننا نعيش في نظام سياسي واجتماعي يسمى "الدولة القومية الحديثة".
باختصار نشأت الدولة القومية بعد معاهدة "وستفاليا" عام 1648 ميلادياً، بعد انتهاء حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حيث اتفقت المقاطعات التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية إلى التقسيم والحدود بينها على أساس "قومي". هذا التقسيم كان بالتوازي مع وجود حركة نهضة ثقافية في أوروبا "عصر النهضة"، وهي تُعد مرحلة انتقالية بين العصور الوسطى في أوروبا وعصر الحداثة.
نتيجة لها ظهرت فكرة الدولة القومية، وتعني باختصار:
- شعب متجانس بشكل كبير (في اللغة والدين والعرق).
- إقليم لهذا الشعب (والإقليم هو مساحة من الأرض).
- حدود لهذا الإقليم.
- سيادة له على هذا الإقليم.
ثم بعد كل هذا عرفت أن هذا النظام لم يكن بالطبع في دول العالم الإسلامي، بل لم يكن في العالم كله أصلاً، ولم يظهر إلا بعد هذا التاريخ. وفي الحقيقة هو لم يظهر مرة واحدة، وإنما تَشَكَّل بمرور الوقت نتيجة لعدة عوامل كما ذكرنا بعضها، هذه العوامل هي: عصر النهضة الثقافية في أوروبا، وظهور المذهب البروتستانتي والحروب الدينية، حرب الثلاثين عاماً. بعد الثورة الفرنسية عام 1789 تقوى هذا النظام وترسخ أكثر فأكثر، إذ الثورة تعد نقطة انفصال كبير بين ما قبلها وما بعدها. أيضاً الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر (1760 – 1830). انتشار الرأسمالية التجارية، أولاً بعد اكتشاف طرق جديدة لا تمر بالعالم الإسلامي، ثم اكتشاف الأمريكتين، ثم انفجار الرأسمالية الصناعية.
إذاً بعد كل هذا الكلام.. ما هي الإجابة عن السؤال؟
كما قلنا نحن نعيش في نظام اسمه "الدولة القومية الحديثة"، هذا النظام هو إقليم وشعب وسيادة لهذا الشعب على الإقليم، وظهر لنا أنه نشأ في أوروبا نتيجة ظروف اجتماعية خاصة بهم (حروب دينية، نهضة ثقافية، ثورة فرنسية، ثورة صناعية، إصلاح ديني بروتستانتي)، بالتالي الإجابة عن هذا السؤال مبكرة جداً ويجب أن تسبقها الإجابة عن عدة أسئلة، وهي كيف وصل لنا هذا النظام أصلاً بما أنه نشأ في أوروبا؟
التحديث في العالم الإسلامي
كلمة "التحديث" مبدئياً هي كلمة غير محايدة، إذ عند قولها أو قراءتها تعني ضمنياً أن هذا الشيء "التحديث" هو شيء صالح مقارنة بـ"القديم"، فهي تعني أن القديم سيئ دائماً، ولكن لكثرة استخدامه وشيوعه في الدراسات المختلفة فلا بد من استخدامه.
المهم، ما المقصود بالتحديث؟ أو بالأحرى ما هي "الحداثة" حتى يمكن لنا فهم عملية التحديث بعد ذلك.
معنى الحداثة
مصطلح مركب له علاقة بكل جوانب المجتمع المختلفة، ففي:
العلم: تعني الاعتماد على العلوم التجريبية الطبيعية والمنهج العلمي التجريبي القائم على أن الحقيقة موضوعية ويمكن الكشف عنها بالتجارب المعملية.
- الاجتماع: وتعني فيه اتخاذ المنهج الوضعي القائم على المنهج العلمي في البحث، بحيث إنه يمكن تطبيق المنهج العلمي على دراسة المجتمع والخروج بنتائج يمكن تعميمها وتكون هذه النتائج "علمية" أي معترف بها.
- السياسة: فصل الدين عن الشأن العام، والاعتماد على العقل في إنشاء القوانين بما يتناسب مع المجتمع، وأن السيادة للشعب، بمعنى حق الحكم والتشريع.
- الدين: قصر مهمة الدين على المساحة الفردية فقط، وإخراجه من باقي الدوائر الأخرى.
- العقلنة: تعني قيام المجتمع في كافة جوانبه على نظام عقلي (مرتبطة بفكرة البيروقراطية)، في النظم والقوانين والهيئات وإدارة الحياة اليومية للمواطنين.
- الاقتصاد: حيث الاقتصاد الحديث يقوم على فكرة الملكية، وأصحاب رؤوس الأموال، ودعمهم بقاعدة بيروقراطية وتشريعية في مقابلة نمط الإنتاج القديم القائم على الحرف والتجارة العائلية.
- العلمنة: وتُعَدُّ سمة للنشاطات في جوانب المجتمع المختلفة، حيث لا سلطة (بمعنى تحكم) للأفكار الدينية على أي مخرجات للنشاطات التي تتم في باقي جوانب المجتمع العلمية والسياسية وغيرها من الجوانب.
إذاً بعد كل هذا السرد لمعنى الحداثة، ماذا حدث في العالم الإسلامي؟
تجارِب "التحديث" في العالم الإسلامي
مثلما ظهرت مظاهر الحداثة في أوروبا على مدى قرون، أي لم تظهر مرة واحدة، ظهرت أيضاً في العالم الإسلامي على محطات مختلفة وفي مناطق مختلفة، لكن أياً كان مكان ظهورها، فيمكن رد بداية ظهورها لاحتكاك مناطق من العالم الإسلامي (الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت) بمناطق أو دول أوروبية (مثل هولندا في إندونيسيا).
يمكن القول إن مظاهر التحديث لم تأخذ قوتها في العالم الإسلامي إلا بعد الحملة الفرنسية على مصر مثلاً عام 1798م، فهذه الحملة غزت قلب العالم الإسلامي (مصر) ثم توجهت لسوريا والشام، وبعد خروجها من مصر تولى محمد علي حكم مصر 1805 م، ويعد عصر محمد علي هو عصر ظهور الحداثة في مصر بقوة.
سمات التحديث المشتركة
مع اختلاف البلدان والواقع الاجتماعي فيها، إلا أن سيرورات التحديث فيها تشابهت في أمور (وهي أسباب لما نحن فيه الآن):
1. تقريباً في كل البلدان بدأ التحديث باستيراد نظام الجيش الحديث، وبالتبعية استيراد نظام الإدارة الحديث (القائم على سيطرة الحكم بهيئات ووزارات على نشاطات المجتمع المختلفة)، ثم بعد ذلك استيراد نظام الطب ونظام التعليم المدرسي النظامي بعلومه ومناهجه (خصوصاً المدارس العسكرية لخدمة تأسيس الجيش).
2. أن هذه النظم تم فرضها من قبل الحاكم على المجتمع، مع أن المجتمع هذا غير المجتمع الأوروبي الذي نشأت فيه هذه النظم، فمحاولة استيراد نظم كاملة وتطبيقها بالقوة على مجتمع آخر دون مراعاة خصوصيته أدت (وما زالت تؤدي) لمشاكل ضخمة سنتحدث عنها في هذه السلسلة تباعاً.
3. هذه النظم المستوردة كان غرضها في النهاية إحكام السيطرة أكثر للحاكم على المجتمع، جيش قوي وإدارة قوية، وبالتالي السيطرة على الموارد وضمان أكبر وقت له في السلطة (وأيضاً هذا النمط من السلطة سيؤدي لمشاكل ضخمة).
إذاً ماذا حدث بعد كل هذا "التحديث"؟
سنمر على أكثر من تجربة للتحديث في المقالات المقبلة، ولكن كما هو المتوقع من تطبيق مثل هذه النظم بشكل غير مناسب مع المجتمع، فقد أدت لتغييرات ضخمة وتحولات في كافة المجالات حيث:
1. زاد تدخل الدولة في أمور المجتمع، حيث كان الحاكم في السابق يجمع الضرائب وله جيش خاص من المماليك والعناصر الخارجية يقوم من خلالها بتأمين وصد أي هجوم، أما بعد تطبيق هذه السياسات، أصبح لديه جيش حديث يخضع لعقيدة الأوامر القيادية، وبالتالي يستطيع فرض ما يريد على المجتمع.
2. أصبح لديه جهاز بيروقراطي ضخم يخدم هذا الجيش، وأيضاً من خلاله يستطيع السيطرة مثلاً على الأموال أكثر.
3. أصبح لديه نظام تعليمي مدرسي يستطيع من خلاله تطبيق السياسات الملائمة له بعيداً عن تدخل الأسرة.
4. أصبح القضاء يخضع لنظام تراتبي من المحاكم وتم حصر الشريعة فيه في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية فقط، بعيداً عن المعاملات التجارية والمدنية الأخرى.باختصار أصبح تدخل "الدولة القومية المستوردة" في الشأن الاجتماعي أكثر شمولاً، ولكن يبقى السؤال: هل هذا التدخل سيئ أم جيد؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.