شهد تاريخ البشرية على مر العصور قيام كيانات سياسية ودول وإمبراطوريات لا حصر لها، وما كان يجمعها رغم اختلافاتها المتباينة وحروبها التي لا تنتهي شارة ملونة (العلم)، التي كانت ترفع وترفرف على أعالي مبانيها السيادية ومناطق سيطرتها وحتى خلال حروبها، وكان في كثير من الأحيان مجرد سقوط هذه الشارة في قلب المعارك يعني هزيمة مدوية لأحد الأطراف المتصارعة.
الشعب الفلسطيني مثله مثل كل شعوب العالم اتخذ شارته الخاصة به (العلم)، منذ العقد الثاني من النصف الأول من القرن الـ20، التي كانت بمثابة رمز لدولته ومظلة جامعة لكافة أطياف الشعب الفلسطيني، ومعبرة عن ثورته وقضيته، وحقه الوطني والتاريخي في أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، ومن أم الرشراش (إيلات حالياً) حتى أصبع الجليل ورأس الناقورة.
وعند تتبع علم فلسطين ذي الخطوط الثلاثية الأفقية متماثلة من الأعلى للأسفل وهي: أسود، وأبيض، وأخضر، فوقها مثلث أحمر متساوي الساقين، سنجد أن لهذا العلم حكاية غير عادية سبقت نكبة فلسطين وأحداثها المؤلمة بعشرات السنوات.
إذ بدأت الإرهاصات الأولى لعلم فلسطين تتشكل حينما اتخذت الثورة العربية الكبرى عام 1916م علماً يعبر عنها ويكون شعاراً لها، وكانت ألوانه من الأعلى للأسفل، على النحو التالي: أسود وأخضر وأبيض، مع المثلث الأحمر، وكان اللون الأسود هو رمز لراية العقاب؛ وهي بالمناسبة راية من الصوف الأسود كان يعقدها الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه في الغزوات، وكان اللون الأخضر هو شعار أهل البيت، وكان اللون الأبيض شعاراً للعرب، أما عن اللون الأخير الأحمر فكان شعاراً للأسرة الهاشمية في الحجاز.
وبعد نجاح الثورة العربية الكبرى أصبح علمها علم الدولة العربية الوليدة التي كانت تشمل وقتها الحجاز، وكل منطقة تم الاستيلاء عليها من العثمانيين في سوريا ولبنان، إذ رفع علمها في دمشق في 30 سبتمبر/أيلول 1918م على دار البلدية بدلاً عن العلم العثماني، ورفع كذلك علمها على أعالي المباني الحكومية والسيادية في كل من مدن سوريا ولبنان.
ورغم سقوط الدولة العربية في سوريا بعد معركة ميسلون في 24 يوليو/تموز 1920 على يد الفرنسيين، وزوال المملكة الهاشمية من الحجاز نهائياً في عام 1925 على يد الدولة السعودية، وعدم سماح بريطانيا لأبناء الشعب الفلسطيني برفع العلم العربي، إلا أن الشعب الفلسطيني تمسَّك بالعلم العربي؛ إذ رأى فيه رمزاً لأول حركة قومية عربية تحررية، فاتخذه بعد عام 1920 علماً خاصاً به يرفعه في كل الاحتفالات الدينية أو الاجتماعات القومية أو المهرجانات الوطنية، ومن جانب آخر لم يعترف الفلسطينيون لا شعبياً ولا رسمياً براية مدنية بريطانية (1920–1948)، والتي كانت باللون الأحمر وبداخلها دائرة بيضاء مع اسم ولاية فلسطين باللغة الإنجليزية.
وعلى الرغم من أن سلطات الانتداب البريطاني كانت تغض الطرف عن رفع العلم العربي في المهرجانات السياسية والاحتفالات الدينية، إلا أنها كانت تمنع رفعه أثناء التوترات السياسية وتنزله بالقوة، كما حدث في احتفالات عيد المولد النبوي بعكا عام 1928 إذ نزع العلم من المحتفلين، وفي إحدى المظاهرات بنابلس عام 1933 أطلق الرصاص على متظاهرين حاولوا رفع العلم العربي، وكذلك لم يتمكن مشيعو الشهيد عز الدين القسام ورفيقيه في حيفا عام 1935 من تكفينهم بالعلم العربي خشية تعرض سلطات الانتداب لهم، فلفوهم بأعلام دول عربية كالسعودية والعراق واليمن.داب
وبعد قيام دولة لإسرائيل عام 1948 وسقوط القسم الأكبر من فلسطين، استبدل العلم العربي بالعلم الأردني الذي رفع في أرجاء الضفة الغربية، وفي غزة التي كانت من نصيب مصر فرفع العلم العربي في الفترة الواقعة ما بين (مارس/آذار 1948-أواسط مايو/أيار 1948) أي ما بين انسحاب الجيش البريطاني ودخول الجيش المصري.
وعند إعلان قيام حكومة عموم فلسطين في 22 سبتمبر/أيلول عام 1948م في غزة برئاسة أحمد حلمي باشا، اتخذت الحكومة قراراً بجعل العلم العربي علماً لفلسطين، وكان ترتيب ألوانه الأخضر والأبيض والأسود فالأحمر، وبعد إلحاق غزة بمصر رسمياً رفع العلم المصري، أما علم فلسطين فكان يسمح برفعه في المناسبات غير الرسمية، وبعد ثورة 1952 سُمح برفع علم فلسطين إلى جانب العلم المصري في الاحتفالات والمهرجانات الوطنية، وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1957 قررت حكومة فلسطين التي أصبحت وقتها صورية في 15 مارس/أذار 1958 تشكيل لجنة خاصة للبحث بشأن العلم، فتم ترتيب ألوانه، كالتالي: أسود وأبيض وأخضر فأحمر.
وعلى مستوى الجامعة العربية ورغم اعتراف الدول العربية بحكومة عموم فلسطين باستثناء الأردن، إلا أن علم فلسطين لم يرفع على مبنى الجامعة بجوار أعلام الدول العربية في القاهرة، بل كان يظهر بشكل خجول في مطبوعات ومنشورات الجامعة العربية علم أبيض مكتوب عليه باللون الأحمر كلمة فلسطين.
وعند قيام منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني برئاسة أحمد الشقيري، سارعت اللجنة التنفيذية للمنظمة في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 1964 لوضع نظام وإحداثيات خاصة بعلم فلسطين، بحيث: (يقسم العلم أفقياً إلى ثلاث قطع متساوية متوازية، العليا السوداء، والوسطى بيضاء، والسفلى خضراء، مع مثلث أحمر من ناحية الساري، قاعدته مساوية لعرض العلم، وارتفاعه مساو لنصف قاعدة المثلث، على أن يرفع على مقر المنظمة ومكانتها ومراكز الجيش ومعسكراته يومياً، ويرفع على الأماكن العامة في الأعياد والمناسبات الوطنية، ولا يسمح برفع أي علم فوق مستوى العلم الفلسطيني).
بعد هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967م أعطت الدول العربية للثورة الفلسطينية وكياناتها المختلفة كحركة فتح والجبهة الشعبية وقتها حيزاً للعمل الفدائي ضد إسرائيل للتغطية على هزيمتها المدوية، ومن هنا خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من هيمنة الدولة العربية وعلى رأسها مصر، واستعاد علم فلسطين مكانته التي ناضل لأجلها الشعب الفلسطيني، وأصبح يرفع علم فلسطين في جميع المناسبات والاجتماعات والمهرجانات الوطنية الفلسطينية والعربية والعالمية دون الحاجة للحصول على إذن مسبق.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988م أصبح علم فلسطين علماً للدولة الفلسطينية التي أعلن عن قيامها ياسر عرفات من جانب واحد في الجزائر، وبعد اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول عام 1993م تم الاعتراف بعلم فلسطين رسمياً شعاراً للسلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية.
وانتهى الحال بعلم فلسطين بأن أصبح معترفاً به دولياً ورسمياً عندما وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2015 على رفع علم فلسطين في مقرها في نيويورك، إذ صوت للقرار 119 دولة وامتنعت 45 دولة بينما عارضت 8 دول، على رأسها: الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإسرائيل.
المصادر:
2- العلم
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.