لا يختلف اثنان على محورية الطائفة الدرزية في التاريخ اللبناني، وعلى أهمية آل جنبلاط في قيادة الجناح السياسي الأكبر من الطائفة، فمن تأسيس لبنان إلى قيادة الحركة الوطنية والجبهة الفلسطينية في وجه المعسكر المسيحي في الحرب الأهلية، ثبتت المختارة في هذه الحقبات التاريخية زعامة أوسع من قيادة طائفة؛ بل كانت زعامة إسلامية عريضة جعلت كمال جنبلاط يقود الشارع الإسلامي، بخاصة مع الامتداد العروبي الناصري، الذي كان الراحل كمال جنبلاط عموده الأساسي في لبنان.
لم يقُد جنبلاط مسلمي لبنان فحسب؛ بل كان له دور في قيادة جبهة مشتركة مع الفلسطينيين في لبنان ومع عبد الناصر في الإقليم، بخاصة للدور الذي كان يلعبه لبنان في المحيط في تلك الفترة.
بعد كمال جنبلاط
بعد اغتيال كمال جنبلاط وتسلّم ابنه وليد الراية من بعده، استمر الحضور، ولكنه ولاعتبارات الداخل والخارج بدأ بالتراجع. مع وصول الحريري بالدعم السعودي انكفأ جنبلاط تدريجياً نحو قيادة طائفته والأقضية؛ حيث يتواجد، بعد أن كان والده يقود مسلمي لبنان كافة في مرحلة من المراحل. ولكن جنبلاط الابن استفاد على الجانب الآخر من تحالفه مع الحريري وسوريا فغنم الدعم المادي والسياسي الكبير، بخاصة في ظل الغياب السياسي المسيحي.
حافظ جنبلاط على قيادته اللحظات المفصلية في لبنان من موقفه في اغتيال الحريري وخطاباته وتحركاته إبان خروج السوريين من لبنان وإشعاله شرارة 7 مايو/أيار، إلى ردته نحو سوريا والانقلاب عليها فيما بعد. كل ذلك وإن أكد مكانة جنبلاط وكتلته كان يخفي في طياته تراجعاً مفروضاً على جنبلاط للتغيرات الإقليمية والداخلية.
مع تسارع أحداث الداخل والخارج وتعاظم قوة التيار الوطني الحر بوصول عون للرئاسة واستعادة النظام السوري شيئاً من تماسكه، وتراجع الحضور العربي في لبنان لصالح الإيراني، تراجع دور جنبلاط في المعادلة اللبنانية؛ ليأتي قانون الانتخابات النسبي ليطوّق جنبلاط. امتص جنبلاط الصدمة وتماسك في انتخابات 2018 بالتعاون مع حلفائه من 14 آذار وحركة أمل، إلا أن الواقع اليوم أخطر.
انتخابات 2022
اعتكف تيار المستقبل قبيل الانتخابات، فشكل هذا الخبر صدمةً لكل محور ما تبقى من 14 آذار، بخاصة الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. حاول جنبلاط ثني الحريري عن قراره دون جدوى. فانكب جنبلاط يلملم ما يستطيع، فوضع هدفين أولهما عدم خسارة مقاعد درزية خاصة في الجبل، ثانياً، التقليل من الخسائر عامة.
حسابياً، يبدو الهدفان في مرمى النيران، وخاصة الصديقة منها. ففي بيروت، يعتبر مقعد النائب الدرزي الذي أعاد الاشتراكي ترشيحه، فيصل الصايغ، مهدداً بشكل جدي. فاللائحة التي ينضوي فيها الصايغ، المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة وتحمل شعار "بيروت تواجه" وتقود حملتها في مواجهة حزب الله، تتعرض لهجوم شرس من قيادات تيار المستقبل، وعلى رأسهم أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري منعاً لبروز أي زعامة سُنية في بيروت. عليه، فحواصل اللائحة مهددة، ففي الانتخابات السابقة حصلت لائحة الحريري شخصياً على 6 حواصل، فكان للصايغ أحدها، ولو حصل على 1800 صوت حينها كون الدروز أقلية في هذه الدائرة.
إلا أن هذه المرة لن تستطيع هذه اللائحة بالتأكيد الوصول لهذا العدد من الحواصل، بخاصة في ظل هجمة الحريري عليها، وهو ما يعني تهديداً جدياً لمقعد الصايغ من قِبَل الحريري.
أما في دائرة الجنوب الثالثة، وهي الدائرة التي يختار فيها الرئيس بري المرشح الدرزي بالتنسيق مع جنبلاط، اختار هذه المرة اسماً مستفزاً للاشتراكي، وهو المصرفي الشهير مروان خير الدين، صهر النائب طلال أرسلان، وهو ما يعد صفعة لجنبلاط أرغم على قبولها.
أما في دائرة جنبلاط الأم، الشوف-عاليه، فقد استطاع جنبلاط في الانتخابات السابقة بالتحالف مع القوات اللبنانية والمستقبل أن يحوز على 9 مقاعد من أصل 13، وهو عدد مميز بالنسبة للقانون الانتخابي الحالي.
في هذه الانتخابات تختلف الظروف، فتيار المستقبل (15000 صوت في انتخابات 2018) غائب عن المعركة، والنائب ناجي البستاني (5200 صوت) انتقل للائحة المقابلة، والجماعة الإسلامية حجبت دعمها عن الاشتراكي، والتيار الوطني الحر دعّم لائحته بالإضافة للبستاني بالوزير وئام وهاب (7340 صوتاً)، إضافة إلى أن جنبلاط يستشعر خطر المجتمع المدني بعد انتفاضة 17 تشرين، خاصة أن غالبية الثوريين يحملون خلفية مناصرة قوى 14 آذار.
عاد جنبلاط لمربّعه الأول مستذكراً أهدافه، فلحماية المقعد الدرزي من وئام وهاب لم يرشح جنبلاط النائب المسيحي نعمة طعمة ليوزع أصواته على المقاعد الدرزية لتحصين النائب مروان حمادة من الخرق. سلم جنبلاط بخسارة أحد المقاعد، ولكنه متخوف من خسارة ثانٍ أو أكثر!
بعد فشل التحالف مع الجماعة الإسلامية، يحاول جنبلاط الترويج في إقليم الخروب بأن مرشحه السُّني الثاني سعد الدين الخطيب هو مرشح الحريرية السياسية، إلا أنه ولحد اللحظة لم ينجح بإقناع جمهور تيار المستقبل بالاقتراع له. ففي هذه الدائرة كذلك تعتبر النيران الصديقة مسؤولة عن خسارة جنبلاط لحاصل أو أكثر، بخاصة كون المستقبل يحجب الدعم عن جنبلاط لحد اللحظة، ولم يضمن الأخير دعم حركة أمل في قرى الشوف وعاليه الشيعية.
في الدائرة نفسها تتواجد لائحة مجتمع مدني قوية لن يكون صعباً عليها المنافسة للوصول للحاصل، وهو ما يجعلها تدخل دائرة التنافس على الكسر الأعلى مع لائحة جنبلاط التي تنطلق من 7 مقاعد ولائحة أرسلان- وهاب- التيار التي تضمن 4 مقاعد.. عليه، يدرك جنبلاط أنه لن يستطيع الحصول على أي نائب مسيحي في الشوف إلا جورج عدوان (قوات لبنانية)، كما أنه يدرك أن المقعد السني الثاني -إن بقيت الأمور على حالها- سيكون من حصة بازار كسر الحواصل.
عليه، يتراجع نفوذ جنبلاط على باقي الطوائف بشكل كبير، وبشكل محدود داخل الطائفة، بسبب سياساته التي أخرجت من صلب حزبه شباباً غير راضين عن أدائه السياسي والمالي، وبسبب خطه السياسي الذي يتراجع حضوره في لبنان مع مرور الزمن، ويتقدم لديهم همّ "النكايات" والمصالح الشخصية على المصلحة العامة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.