أشتاق لحضنه وصوته.. يوم أيقنت أن أبي رحل ولن يعود

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/21 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/21 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش

كان كتوماً في كلّ شيء، في مشيته، في ضحكته، في أقاصيصه، في غربته، كتوماً كما لم يكن للكتمان صديق آخر غيره، فقط لم يكن كتوماً في مشاعره، لم يبخل بتلك المشاعر الفيّاضة التي تفتقدها اليوم وهي تتذكّر تلك الضحكة الجميلة، وتعتبرها اليوم أسمى لحظات العشق لديها.

كانت دوماً خطاه سريعة، وكلماته قليلة، لا يلقي بالاً لضوضاء حوله، كان فقط يحمل بين أوزاره حكاياته عن الغربة، وعن أوطان رحل إليها وتركها وتركته هي أيضاً.

هو ذاك الغريب، غريب أوطان، له أكثر من وطن، وأكثر من جذر، وفي كلّ وطن هو ذاك الغريب، ومع كلّ جذور هو غريب.

أحبّته رغم قسوة غربته، وعشقته كما لم تعشق رجلاً غيره، كانت تنتظر دوماً حقيبته تحطّ الرحال في بيتها، وتكره اليوم الذي يحزم فيه أمتعته ويشدّ رحاله نحو غربة جديدة، وتُلاحقه جدّتها بسرعة تسكب وراءه إناء الماء، فتراه يرسم بسمة خافتة على شفتيه، فهو ذاك الغريب الذّي يتعلّق بقشّة الخرافات الجميلة، فتراه تارةً يطرب لسكب الماء عند السفر، وتارة يعبس وجنتيه حين تسقط أعواد الكبريت ولا تستوي.

عشقت كلّ شيء فيه، وكانت أناقته تطربها وهي ترى الآخرين يعجبون بوسامته وأناقته، كان جميلَ الروح والمظهر.

ذلك هو عشقها، الذي عشقته طوال ثلاثين سنة، وبنت حبّه بين ضلوعها، هو يخطئ لا يصيب دوماً، تعلم ذلك جيّداً، وتعلم كم أخطأ وكم أصاب، وقد لا تعلم الكثير، ولكنّها أحبّته وأحبّت فيه الحبّ الذي يملكه لها، رغم كتمانه وغموضه أحبّته، فحبّه لم يكن اختياراً بل فرضاً، وأحبّت الفرض، وتقول في نفسها حتى ولو كان حبه اختياراً كانت ستحبه فرضاً واختياراً لا مفرّ.

تنحني فجأة إلى الوراء، تستجمع أنفاسها وتلاحق ذكرياتها الدفينة القريبة، شريط تتسارع كلماته، كلمات جميلة ترنّ في أذنيها، وتعلم جيداً أنها أبداً لن تسمع رنينها مرّة أخرى، عشقته وعشقت كلماته، لهجته ورائحته، تتواتر إليها اللحظات فلا تجد لحظة قاسية معه، فقد جعلها تطير حبّاً وعشقاً في تلك اللحظات القصيرة التي كان يهديها لها بين حين وآخر، نعم هو لم يترك لها ذكرى حزينة، ولم يُحزنها، فقط أحزنها رحيله المفاجئ، المقرر مذ حَمَلته جدّتها في بطنها.

تصمت وتريد أن تستجمع قواها لتبكي رحيله ولكنّها لم تستطِع، خارت لديها رغبتها في الحزن، رحيله فاجأها ولم يترك لها سبيلاً للحزن حتى، مبهمة هي مشاعرها، تبلّدت أحاسيسها وهي تراه يرحل دون حقيبة سفر، وعلمت أنه لن يعود، وهو أيضاً لم يعِدها بالعودة كما عوَّدها في كلِّ رحيل.

كانت دوماً تفضِّل أن تسمي غيابه رحيلاً لا سفراً، ففي السفر متعة وسياحة، وفي الرحيل قسوة وغربة كغربته، كانت تحسّ أنّ غربته مريرة كمرارة الطعم الذي كان ينفثه ليلاً ونهاراً وهي تحضنه بين الفينة والأخرى، تستنشق الطعم الغريب معه، فينهرها ابتعدي، لا يريدها أن تشكو المرارة مثله، مرارة جعلته يرحل في آخر المطاف، ولكن تعلم جيّداً أنّ تلك المرارة قد تكون سبباً نعم، ولكن رحيله كان مقرّراً لا مفرّ.

فجأة خطرت ببالها تلك الورقة التي كتبتها سنة 2004، والشمعة التي ظلّت تراقب ضوءها حتّى خَفتَ، أسرعت وأخرجتها من الرفوف السّرية، ولكنّها لم تقرأها، فقط أمسكتها، وخافت أن تسترجع تلك الكلمات ربّما رأت فيها كلمات بالية، أو تراها كلمات لا يمكنها أن تتحمّل قسوتها بعد الرحيل الأخير، كتبت حينها كلمات الوداع الأخيرة، وبكت تحت الضوء الخافت، وأيقنت أنّه رحل ولن يعود، كما قال الآخرون، وبكته يوم وفاة أحد الأقرباء، ولكنّه عاد وظلّ معها سنوات أخرى، وأيقنت أنّه عاد ولن يخذلها مجدّداً برحيل مفاجئ، وسيكونان دوماً على نفس العهد؛ عهدهما كان تلك الحقيبة التي تُفتشها دوماً غصباً، وتسرق منها بعض الهدايا البسيطة، فينهرها مازحاً تارةً وغاضباً تارة، نعم لم يخذلها هو مجدّداً، ولكن رحل فجأة مرّة أخرى.

في غمرة هذه الأسطر الحزينة تضحك، وتتمنّى لو تستطيع أن تعلو ضحكاتها فتصبح قهقهة، وهي تتذكّر يوم رجع من السفر ولم يأتِ بحقيبته، بل أتى بحقيبة مشابهة تعود لامرأة كانت ترافقه على الطائرة نفسها، ابتسمت وهي تتذكر حين فتحت الحقيبة واستقبلت يداها جوارب نسائية ممزقّة، فاستغربت وقالت هل جلب لها جورباً ممزّقاً هديّة؟ ولكن سرعان ما تزاحمت أغراض المرأة أمامها، وعلم حينها أنّه أخطأ وجلب حقيبة رفيقة السفر، فغضب وأصرّ أن يرجع إلى المطار حينها، رغم أنّ الساعة قد شارفت على الثانية عشرة ليلاً، قصّة طريفة تتذكّر تفاصيلها بدقّة، تحيلها إلى قصص أخرى أجمل وأطرف، تفتشّ في تابوت ذكرياتها علّها تجد ما يُحزنها فلا تجد منه سوى السعادة، نعم لقد أسعدها ببساطته وأسعدها بضحكته.

كان يغضب بسرعة جنونية، وكان غضبه يؤرّقها، وأحياناً تنفلت أعصابها، ولكن سرعان ما يضحكان مجدّداً، فغضبه كان قصير المدى، وانفلات أعصابها كان أقصر، وتعود حكايتهما إلى فصولها الجميلة.

كتبت مرّات وهي تطالع صورهما "نحن بخير، نستمر في حياتنا، نذهب إلى عمل جديد، نتناول الطعام، ننام، نتبادل أطراف الحديث، نمضي الوقت مع أحبائنا، نغني، نبتسم، نضحك، نقهقه… ولكن ليس كما في هذه الصور، ليس بقدر جمال هذه الصورة، اشتقنا إليك أيها الرجل الجميل، اشتقنا إليك".

هي تشتاق له دوماً رغم هروبها من التفكير في رحيله المفاجئ، وتلك اللحظة التي علمت الآن جيّداً انّها كانت اللحظة الفارقة في مسارها، كانت لحظة فارقة وهي تشاهده يرحل، ولم تكن تعلم أنّه يرحل، فهو لم يُمسك بيديه حقيبة الرحيل، ولم تسكب جدّتها وراءه إناء الماء، ولم تودّعه عند الزقاق الضيق على أمل اللقاء، ولم يلتفت هو عند آخر الزاوية ليلوّح بيديه ويختفي، كيف كانت ستعلم أنّه يرحل رحيله الأخير، هي لم تصدّق رحيله الأخير إلى اليوم، أو أنّها لم تصدّق أنّه رحل أمامها، كانت دوماً تعلم أنّه سيرحل ولكن في غيابها لا حضورها، ولكن شاء القدر أن يقف بطنه عن النزول والصعود أمامها، وهي تنظر بعجمة، ولم تعرف أنّه يرحل فعلاً إلى مثواه الأخير.

نعم تشتاقه وتشتاق حضنه، وذلك الأمان والدفء، وتشتاق عشقه لها وعشقها له، تشتاق كلّ شيء منه وفيه، ففي غمرة استمرارها في "حياتها" هي لم تعد تبكي رحيله اليوم، وهي لم تبكِه يوم رحل، نعم فاجأها رحيل مقرّر منذ بزوغه في رحم جدّتها، ودون حقيبة، ولكنّها أيقنت أنّه لا مفرّ من رحيله، رغم حزنها وقسوة الرحيل فإنّها فرحت لأنّه رحل وحطّ الرحال في وطن أخير، تتمنى ألّا يجد غربة فيه، ومقام تسأل الله أن يكون له الأفضل، الآن هو ترك كلّ الأوطان والجذور التي عرفها ومضاجع غربته ورحل، رحل ولم يترك لها سوى ذكريات جميلة، وما تؤثث به حزنها وصمتها.. الكتمان، والغربة وذكرى عن أجمل أب في الدنيا.

اللهم ارحم أبي وأسكنه الفردوس الأعلى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نهلة تحسين
كاتبة ومدونة مصرية
تحميل المزيد