تمدّد "الشهابي" في يومه الأخير على سريره بقرب شباك مفتوح على مشهد دمشقي فريد، جال بنظرته الدامعة على المعالم المتألقة قبالته على مد البصر، وافترّت شفتاه عن همسة خافتة: "شكراً دمشق، صديقتي الأثيرة التي جعلت لحياتي معنى سامياً، وطعماً أرقّ وأعذب".
سكنه عشقُ دمشقَ فقدم لها بالصورة والريشة أجمل هداياه، ووقف عمره كله في خدمة العشق الدمشقي العتيق، حين وثق حارات الشام القديمة بالصور الفوتوغرافية، أو بلوحة رسمها لتحكي عنها.
إنه الدكتور قتيبة الشهابي، طبيب الأسنان الذي أسدى لمهنته وهواياته الفنية الكثير، فتجلى ذلك بالكتب التي ألَّفها، والصور التي التقطها، والرسومات التي عبَّر من خلالها عن حب الشام.
تقول عنه زوجته: "هو الرسام قبل أن يكون طبيباً، صوّر دمشق بعين فنان، ومارس مهنة الطب بكل إخلاص، كان مؤرخاً ومصوراً مبدعاً، وهو مثال الإنسان الذي نذر نفسه للعلم والمعرفة".
وُلد قتيبة الشهابي في دمشق عام 1934، وكان والده الأمير أحمد الشهابي أحد دعائم الثورة السورية الكبرى في غوطة دمشق، ضد الاحتلال الفرنسي.
وكما دافع عنها أبوه من قبله بسلاحه فقد دافع الراحل قتيبة الشهابي عن دمشق وتاريخها بقلمه وفنه وروحه ووهب كل منهما نفسه لدمشق، دمشق التاريخ، دمشق المجد، لتقرأ تاريخ الشام ومجدها في كتبه، مصورَيْن بكاميرته، موثقَيْن بريشته.
لم يكن "الشهابي" عاشقاً يحجب محبوبته خلف أسوار عالية، بل عمد إلى نشر نظرة المحب لدمشق وأبنيتها وآثارها في كتبه وصوره، وحاول أن يشرح بالكلمة والصورة ما نعرفه جميعاً بالفطرة "لماذا يتحول كل قاطن أو زائر أو مار بدمشق إلى عاشق لها؟".
قتيبة الشهابي هو أحد مبدعي الشام، وما يزال بعد سنوات من رحيله باقياً بيننا بعطائه المتجسّد في مؤلفاته عن التراث الإنساني لأم العواصم، دمشق، المتمثل بوفائه لكل ما هو أصيل في مدينته الأغلى، سواء في معالمها، أو طبيعتها، أو رجالاتها الأخيار.
لقد أخذ عليه هذا العمل مجامع فكره وجوارحه، فكان رائد توثيق معالم دمشق، فجمع كل ما يقع تحت يده من مؤلفات قديمة وصور تاريخية وخرائط ومخطوطات وسجلات.
بداية الرحلة
بدأت رحلته بالبحث التاريخي لدمشق والتوثيق بالصور عام 1985، فواجه العديد من الصعوبات في البحث بسبب قلة المصادر وقلة التوثيقات الخاصة بالأحداث التاريخية التي مرت بها المدينة.
فنزل الشهابي إلى قلب المدينة القديمة، واشتمل أول إصداراته "دمشق تاريخ وصور" على أكثر من 500 صورة لمعالم دمشق، قديمها وحديثها، وأكثر من عشرين خريطة لها، وصور لشخصيات وطنية وأجنبية ولأنشطة الحياة اليومية والاجتماعية، وقد عُدّ الكتاب يومها "بيبلوغرافيا" مصورة تعيد النبض والألق للقسمات الدمشقية الجميلة.
وظهور هذا الكتاب مثّل تفجّر ينبوع لا يكف عن التدفق، فإذا بمؤلفاته الدمشقية تتوالى فيتلقفها الناس، وخصوصاً الباحثين والمؤلفين، ويرون فيها مصادر موثقة تعرّفهم بالمرافق والمشيدات العمرانية الباذخة في دمشق بين حي وسوق وحارة وزقاق وجامع وكنيسة ومدرسة ومكتبة تراث وسبيل ماء ومقهى وخان وحمّام.
وقد جعل المؤلف الصورة أساساً رئيسياً في العمل بحسبان أن المؤرخ كما يذكر "الشهابي" قد يُخطئ أو يسهو أو يمر عابراً على نقطة أو فاصلة في لوحة أو شريحة من آبدة متهالكة، لكن الصورة تبقى شاهداً ودليلاً أميناً.
فاعتمد على الكاميرا في توثيق المعالم الدمشقية وربطها بعبق التاريخ وأصالة الماضي العتيد، وكان لا يثق كثيراً بالمراجع التاريخية؛ لأنه يعتقد أن الكاميرا أصدق من الكتاب، "فالكاميرا لا تخطئ والكتاب ليس محايداً".
عمل دؤوب وجهد جبار
قتيبة الشهابي الفنان الذي تلهَّى بطب الأسنان كان أستاذاً أكاديمياً متميزاً في كليتي الفنون الجميلة وطب الأسنان، وكان المؤرخ الذي وثق لصمود دمشق أمام الغزاة في كتابه "صمود دمشق أمام الحملات الصليبية" ولغنى دمشق الديني ووحدتها الوطنية في كتابيه "مآذن دمشق تاريخ وطراز" و"أديرة وكنائس دمشق وريفها".
كما استحضر أصوات أهل الشام في كتابه "طريف النداء في دمشق الفيحاء" وعيون الرحالة الذين زاروها في كتابه "دمشق الشام في نصوص الرحالين والجغرافيين والبلدانيين العرب والمسلمين".
كان الشهابي يغيب شهوراً يمضيها في الطواف بمكتبات الأسواق والمدارس والجوامع، لينبش في رفوفها الكتب المهترئة، والمخطوطات المنسية فيهذّبها وينفض عنها الغبار ويعكف عليها بحثاً وتنقيباً، وصوّر ذلك كله وسجّله بطريقة علمية وفنية، ثم شرع في مرحلة ثانية من البحث جال فيها على طائفة من المعمّرين ودوّن رواياتهم المخزونة في الذاكرة، وانطلق متأبطاً "كاميرته" إلى الأوابد والمعالم العمرانية بدمشق، وأخذ طوال شهور يصوّر الأسواق والحارات الضيقة والبيوت الدمشقية، التقط بعينه الفاحصة وعدسته الأمينة كل التفاصيل الجميلة.
لم يترك ركناً الا ونقل دقائقه وسجلها كلمة وزخرفة وتاريخاً، ثم عاد فراجعها وناقشها مع المتخصصين والمهتمين، فما هي غير سنوات قليلة حتى غدا مخزونه مجموعات نادرة توالى صدورها عاماً بعد عام لتصبح المحصلة بيدر مؤلفات مدهشة نافت على العشرين كتاباً، مثّلت في الواقع موسوعة متكاملة أمينة ترى فيها الأجيال قسمات المدينة الخالدة، وتستعيد فيها صور الماضي العريق في المشيدات التاريخية الراقية.
رغم مزاولة الراحل مهنة الطبّ، فإنه كان أيضاً مؤرّخاً ورساماً وشاعراً وترك للمكتبة العربية إرثاً غنياً فضلاً عن كونه من أكفأ المختصين في علم الحاسوب واستخداماته في الرسم والطباعة.
لقد كان الشهابي طبيباً ورساماً ومصوراً وباحثاً ومحققاً، وكل واحد في هذه المجالات عالم قائم بذاته، لقد كان وحده، بجهده وبحثه، مؤسسة فكرية بكل مكوناتها.
كما كان من أوائل المستقبلين للسياح الذين يزورون دمشق، يزرع هوى الشام في قلوبهم، يأخذ بأيديهم وقلوبهم ويطوف بهم في ربوع دمشق، يزورون أوابدها التاريخية وروائعها المعمارية، يمشون في أسواقها، يقرؤون النقوش المكتوبة على آثارها المعمارية.
ويتأملون معاً جمال طراز مساجدها ومآذنها، يستمعون إلى القداديس والتراتيل من كنائسها وأديرتها، يلتقطون الصور التي توثق عرى الحب والعشق بين المدينة وأبنائها وزائريها، كان دليلاً متطوعاً، مثقفاً، يشرح باللغات الحية كل ما يهم السياح أن يعرفوه عن دمشق الشام.
مناصب ومؤلفات
درّس في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق أكثر من ثلاثين عاماً 1963م- 1994م، وكان عضو الهيئة التعليمية في كلية طب الأسنان في جامعة دمشق، وأستاذاً للتشريح الفني في كلية الفنون الجميلة، وعضو نقابة الفنون الجميلة بدمشق، وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعضو لجنة تسميات الشوارع في دمشق.
كما اختص بالتصوير الضوئي من لندن، وكان خبيراً ثقافياً في وزارة السياحة ومستشار وزير السياحة (2000- 2007)، وعضواً في هيئة تحرير مجلة دليل السائح.
وللراحل الشهابي 27 مؤلفاً مطبوعاً، ستة منها مؤلفات علمية تتضمن أربعة كتب جامعية تدرس في كلية طب الأسنان في جامعة دمشق بالإضافة إلى معجمين إنجليزي- عربي عن مصطلحات طب الأسنان والمصطلحات الطبية.
أما كتبه في التاريخ والتراث والآثار فهي: دمشق تاريخ وصور، هنا بدأت الحضارة (سورية تاريخ وصور)، أسواق دمشق القديمة ومشيداتها التاريخية، مآذن دمشق تاريخ وطراز، معجم ألقاب أرباب السلطان في الدول الإسلامية، مشيدات دمشق ذوات الأضرحة وعناصرها الجمالية، معالم دمشق التاريخية، أبواب دمشق وأحداثها التاريخية.
كما أصدر: زخارف العمارة الإسلامية في دمشق، النقوش الكتابية في أوابد دمشق، دمشق الشام في نصوص الرحالين والجغرافيين والبلدانيين العرب والمسلمين، طريف النداء في دمشق الفيحاء، صمود دمشق أمام الحملات الصليبية، معجم دمشق التاريخي (ثلاثة أجزاء)، الطيران ورواده في التاريخ الإسلامي، نقود الشام، عباقرة وأباطرة من بلاد الشام، أديرة وكنائس دمشق وريفها، أضرحة آل البيت والمقامات الشريفة في سوريا (بالعربية والفارسية)، معجم المواقع الأثرية في سوريا، تاريخ ما أهمله التاريخ.
مات الطبيب وبقي المؤرخ
في الشهور الأخيرة من رحلته دخل "الشهابي" في صراع مع المرض، فأصبح وقد أحسّ بدنوه من خط النهاية مقاوماً فذّاً، يواجه مواجعه بابتسامة ساخرة، ويعلن تحدّيه لتقهقر صحته وسلاحه عمل مضاعف وسهر بلا كلل.
وقبل يوم من رحيله يقول: "أنا لا أخشى الموت، أنا أقهره بالعطاء والإبداع، وكل إنجاز جديد لي يعطيني يوماً جديداً آخر، ولقد مشيتُ في طريق اخترته بكل رضاي، وكانت شجرتي خصبة وأعتز بثمارها".
فقدت دمشق يوم الأحد 17 شباط/فبراير من سنة 2008 أحد أهم عشاقها ومؤرخيها ورواتها وأدلائها وأطبائها، إذ غيب الموت "قتيبة الشهابي"، وقد خلّف وراءه عِلماً ثَرَّاً لا ينضب معينه وأوابد علمية وفنية نفاخر بها الدنيا، لنذكر اليوم، بعد أربعة عشر عاماً على رحيله، قوله "لا تتذكرون المبدع إلا حين يموت".
لقد دلّنا قتيبة الشهابي على مفاتيح دمشق الشام ووقف بنا عند أبوابها التاريخية العظيمة، وأرشدنا إلى محاريب مساجدها العتيقة، وطاف بنا على كنائسها القديمة، ورسم صورة حية لن تموت بموت صاحبها.
ما زال الدكتور قتيبة الشهابي حياً بعلمه، يمشي بين ظهرانينا، يتنقل بين رفوف المكتبات ويحاضر على منصات الجامعات، معطاء بلا حدود، وكاميرته فوق أكتاف دمشق، ويرسم بريشته صورة الشام التي في قلبه، قائلاً لنا من وراء السنين الطوال: "الكاميرا لا تخطئ والكتاب ليس محايداً".
يأتي الحديث اليوم عن قتيبة الشهابي في أُولى حلْقات سلسلة "صفحات مشرقة" لنسلط الضوء فيها على شخصيات وأماكن وأحداث من تاريخنا، غابت عن أذهاننا، أو غُيِّبت، عن عمد أو عن جهل، لعلها تعين السائر ويهتدي بها الحائر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.