أصبح من المعتاد في الفترة الأخيرة أن تطفو على السطح حالة من الجدل حول قضية فقهية تتضارب الآراء حولها بين علماء ومفتين، مما يسبب بلبلة وتشوشاً لدى عموم المسلمين حول سبب هذا التضارب وأهدافه، فهل للقرار السياسي دخل في هذا الأمر؟!
لعل أبرز ما ظهر على الساحة في الفترة الأخيرة مسألة العوائد المتحصلة من شهادات الاستثمار والودائع البنكية، حيث أكدت دار الإفتاء المصرية على لسان المفتي بجوازها، وسبق في ذلك المفتي الأسبق الشيخ محمد سيد طنطاوي قبل توليه مشيخة الأزهر، بل وأمعن الشيخ علي جمعة في التأكيد على أنه لا ربا في النقود المعاصرة أصلاً لأن الربا متعلق بالذهب والفضة والعملات الحالية لا ترتبط بهما!
وعلى جانب آخر كانت ردود العديد من مجامع الفقه الإسلامي والعلماء بتحريم ربا البنوك وفوائده، ومن بين ذلك كان تصريح شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب بأنه حتى الآن لم يتم الاتفاق على إباحة المعاملات البنكية الحديثة، فالبعض يرى أنها ربا والبعض يؤكد أنها حلال، وألمح إلى أن قضية المعاملات البنكية أصبحت "صراعاً فقهياً"، وقال: "أعتقد أن الله سبحانه سيحاسبنا يوم القيامة على الاضطراب الشديد في مجال الفتوى الذي يعاني منه المسلم الآن".
الفتوى.. أداةً سياسية
وليس الهدف من المقال بحث هذه القضية علمياً فهذا لا يمكن عرضه في مقال، ولكنني أهدف إلى لفت نظر القارئ الكريم إلى وجود أبعاد متشابكة تحيط بقضية الإفتاء وتخرجها عن كونها وسيلة لمعرفة الحكم الشرعي إلى كونها إحدى أدوات العمل السياسي في بعض الأحيان!
فتعتبر الفتوى ترجمة عملية لارتباط الدين بواقع المسلمين، وتعرّف الفتوى بأنها "بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه على غير وجه الإلزام"، حيث يفترض في الفتوى أن هناك من يوجه سؤالاً عن أمر ما ويطلب معرفة حكم الشرع فيه، أي تنزيل النصوص الشرعية ومقتضياتها على حدث حالي أو مستقبلي.
ونظراً لأهمية الفتوى اعتبرها العلماء إصداراً للأحكام الشرعية باسم الله، ولهذا سمى ابن القيم كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فكأن علماء الشريعة يصدرون الأحكام ويوقعونها باسم الله تعالى، لتكتسب قدسية الحكم الشرعي من حيث الاحترام والتوقير.
والإفتاء إجابة عن سؤال بصورة غير ملزمة، وهو بذلك يختلف عن القضاء الذي يكون حكمه ملزماً بمجرد صدوره، فالقاضي يلزم بسلطته أطراف الخصومة بحكمه الذي "يفترض فيه" أن يكون مستمداً من الشريعة الإسلامية ومتوافقاً مع أحكامها.
ويلاحظ هنا أن الفتوى لها بعد اجتماعي ونفسي أعمق من الحكم القضائي، حيث يفترض في الفتوى أن تحفز المستفتي على الاقتناع بالفتوى وتنفيذها، لأنها إجابة اختيارية التطبيق عن سؤال وجهه المستفتي للمفتي، ولا يلزم من الإجابة التزام المستفتي برأي المفتي بحال من الأحوال.
ولهذا السبب وغيره لم تكن مهمة الإفتاء سهلة يمكن لأي شخص أن يتولاها، فوضَعَ العلماء الكثير من الشروط التي تضمن كفاءة المفتي وقدرته على فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها بصورة سليمة، وكذلك تضمن السواء النفسي وعدم اتباع الأهواء أو الرغبة في الحصول على منافع شخصية أو الخضوع للضغوط، وفي هذا وضعت مؤلفات كثيرة منها أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (توفي 643هـ) وكتاب عقود رسم المفتي لابن عابدين (1252هـ) وهي كتب تنظر لعملية الفتوى وتحدد ضوابطها وأطرها النظرية والتطبيقية.
ويمكن أن يتساءل القارئ قائلاً: ما دامت الفتوى صورة من صور الاجتهاد "غير الملزم" فلماذا تحتل مكانة كبيرة تجعل الساسة ورجال الدولة يسعون للتأثير في مجرياتها وأحكامها؟
إن احتياج الحكام إلى المفتين ينبع من الرغبة في التأثير على الجماهير التي تريد الالتزام بأحكام الشرع، وتعتقد في المفتي أنه متجرد عن اتباع الهوى والرغبة في السلطة، لذا فما يقوله المفتي يحصل على مصداقية أكثر من قرارات الحاكم والقاضي، ومن ناحية أخرى نجد أن الإفتاء مهمة شديدة اللصوق بالمجتمع، حيث يتفاعل فيها السائل عن أمر يواجهه في حياته الواقعية أو يهمه معرفة حكمه مع المفتي الذي يجيبه عن "حكم الله" في المسألة، ويترك له الاختيار في الالتزام من عدمه، وهو ما يسهم في زيادة تأثير المفتي في المجتمع.
ويحتاج الساسة إلى السيطرة على المؤثرين في المجتمع، لأن السيطرة على المؤثرين وأدوات التأثير تضمن السيطرة على المجتمع وتوجيهه في المسار الذي يريده الحكام، لذا شهد التاريخ الإسلامي ضغوطاً متبادلة بين علماء الشريعة والحكام وصلت في بعض الأحيان إلى حد الصدام، ولعل من أبرز أمثلة ذلك مقتل سعيد بن جبير على يد الحجاج الثقفي، وإيذاء الإمام مالك والإمام أبي حنيفة بالضرب من طرف السلطة الحاكمة، وغيرها من الأمثلة التي كشفت عن رغبة قديمة في السيطرة على المؤثرين من أهل العلم حتى يتم استخدام الفتاوى الشرعية وسيلة للتوجيه السياسي أو على الأقل ضمان عدم وجود معارضة لمسار الحاكم وقراراته ولو خالفت الاجتهادات الفقهية.
وهنا لا يمكن فصل فتوى دار الإفتاء المصرية بجواز العوائد المستحقة عن شهادات الاستثمار وودائع البنوك عن هذا السياق، فالأنظمة المصرفية تحتاج إلى إيداعات نقدية كثيفة لتسيطر على التضخم في الأسواق، ولكن ما يحول بين الناس وبين إيداع المال في البنوك هو الخوف من الوقوع في الربا، وعليه تبقى الأموال في يد الناس بعيدة عن النظام المصرفي الذي يؤمن رقابة الدولة على الثروات من ناحية، ومن ناحية أخرى يبعد المال عن أيدي الناس وهو ما يساعد في خفض معدلات التضخم!
ولعل أبرز ما يؤكد على هذا ما ورد في فتوى دار الإفتاء على موقعها الرسمي أن السبب الثالث من أسباب هذه الفتوى هو "أنَّ هذا هو ما جرى عليه قانون البنوك المصري رقم 88 لسنة 2003م، ولائحته التنفيذية الصادرة عام 2004م، والقاعدة تقول أيضاً: "حكم الحاكم يرفع الخلاف في المسألة"!
نتائج التوظيف السياسي للفتوى
يؤدي التوظيف المكثف للفتوى من قِبل السلطة السياسية إلى فقدان الثقة تدريجياً في المؤسسات الدينية الرسمية، وهو ما يمهد السبيل إلى صعود مرجعيات ضعيفة على المستوى العلمي شاذة على الصعيد الفكري، كما يتسبب في انخفاض الرغبة العامة في الالتزام بالأحكام الشرعية أو التعامل مع الشريعة الإسلامية باعتبارها وجهة نظر يوجد فيها الشيء وعكسه ويتم الاختيار عن التعارض بين الأحكام على أساس الهوى المحض دون قواعد حاكمة أو أطر ضابطة.
إن التساؤل الأهم الذي يطرح نفسه هو كيف تعود الفتوى إلى اعتبارها مهمة شرعية وأمانة دينية لا وظيفة سياسية؟ وكيف يمكن إبعاد دور المفتي عن توغل السلطة السياسية أو على الأقل تحجيم تأثير التوجهات السياسية على رأي المفتي، وهو ما يحتاج إلى بحث جاد ومعمق تسبقه إرادة حقيقية من أجل تحرير الإفتاء من التبعية السياسية وإعادته إلى دوره العلمي الرصين باعتباره توقيعاً عن الله تعالى وليس إصدار فتاوى وفق مراد الحاكم بتوقيع من المفتي!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.