"الدولة هي مجموعة من الموظفين هدفهم تقديم أكثر سعادة ممكنة لأكبر عدد من الناس"، من كتاب الجمهورية لأفلاطون.
عندما وصل الإنسان القديم لفكرة المجتمع المنظم كان أساس ذلك هو الحاجة للتنظيم والإدارة، واستندت هذه الفكرة إلى التنازل عن جزء من الحرية لصالح الأمن والنظام والعدل، فتنازل الإنسان الأول عن حقه المطلق بالقتل وحمل السلاح والصراع لأجل البقاء، لكي يقوم المجتمع بحماية الضعيف من القوي تحت مظلة هيئة حاكمة، قال عنها أرسطو "أفضل وأكفأ مجموعة من عموم المجتمع".
لكن الطبيعة البشرية تعصف بها غرائزها، ومن أكبر هذه الغرائز الكامنة في عمق النفس البشرية "عقدة الإله"، حيث قال الفلاسفة الطبيعيون "إن في داخل كل إنسان إله يحاول الخروج إلى العلن".
وهنا مع الوقت تحولت هذه الهيئات الحاكمة إلى طبقة جديدة من الآلهة، وخرجت من أعماق نفوسها شهوة السيطرة المحمومة إلى العلن، وبدأ الحكام منذ العهد القديم اتخاذ صفات الآلهة، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان من ضمن ألقاب "كسرى" لقب "الإله ابن الإله"، والإمبراطور الروماني "كاليجولا" أعلن عن نفسه إلهاً، وأمر الناس بعبادة تمثاله في المعابد، والسلالة الحاكمة في اليابان تعتبر من نسل الآلهة الأولى التي خلقت العالم، ثم جاء فرعون موسى بعبارته الأشهر "أنا ربكم الأعلى".
إذاً هي شهوة التحكم المطلق والتحكم الكامل بالبشر، هذه الغريزة التي تخرج للعلن مع الحكم المطلق، ولتكريس هذه الألوهية كان لا بد من السيطرة المطلقة وهندسة المجتمع ليلائم حاجة السيطرة المطلقة لطبقة الآلهة الجديدة، فكان القمع الدموي والسيطرة باستخدام الدين وغيره.
في العصر الحديث كان لا بد من السيطرة على ملايين البشر وجعلهم عبيداً بالمعنى الحرفي، وهنا كان لا بد من هندسة المجتمع ليصبح طيّعاً سهلَ الانقياد سلس الطاعة.
لجأ الطغاة الجدد إلى صناعة الإنسان "الزومبي"، والزومي -للتوضيح- هو عبارة عن ميت عاد إلى الحياة بطريقة سحرية، يكون مفرغاً من الوعي وإدراك الذات، حيوان على هيئة بشر، يلتهم اللحم الآدمي ولا يدرك ما يدور حوله.
الزومبي كان فكرة نموذجية لتكريس حكم الآلهة الجدد، فهو كائن فردي لا طموح له ولا غاية من وجوده، هو موجود وكفى، موجود لمجرد الوجود العدمي، بلا أي غاية سوى مجرد الوجود البيولوجي البحت.
وصناعة الزومبي تتم من خلال خطوتين فقط.
الأولى هي هدم الثقة المجتمعية وتفكيك المجتمع وجعله في حالة صراع مستمر، ونشر قيم العداء المتبادل ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، [القصص:4].
معنى كلمة "شِيَعاً": طوائف متناحرة، ويستخدم طائفة أو طوائف منها في قمع البقية، بالتالي يتقوقع كل فرد حول نفسه، فلا ثقة في بقية أفراد المجتمع في جو من القمع البوليسي، لينتقل المجتمع إلى الرقابة الذاتية، لتكون نفس كل شخص هي شُرطيّه ومخبره وجلّاده الذي يستتر بين جنبيه، يعيش المجتمع في أسوأ بيئة من "العزلة الجماعية"، وهي أن الناس في ظاهر الأمر موجودون مع بعضهم البعض، لكن في حقيقة الأمر كل واحد منهم هو جزيرة جدباء منعزلة، في حالة غياب كامل للتكاتف الاجتماعي، الذي هو أساس قوة المجتمع في وجه الطغيان.
الخطوة الثانية هي تعطيل العقل البشري، والعقل البشري هو أساس الحرية، وإدارك الذات هو أصل الوجود البشري، فالإنسان عندما أدرك ذاته سعى للحرية وحرية الاختيار، والمفاضلة بين حال الحرية وحال العبودية، فيدفعه العقل والفكر صوب الحرية، لذا كان لا بد من تفكيك البنية العقلية وإغراق العقل بسفاسف الأمور والتفاهات، وهذا يعني خلق "الإنسان الصفري"، هذا الإنسان المسطح البسيط، الذي لا يعبأ إلا بوجوده البيولوجي البحت، المنفصل عن كافة قضايا الحقوق والكرامة الإنسانية، مقتنع بأنه صفر لا يمكن أن يغير الواقع، أو أن يكون قادراً على بناء واقع صالح للحياة الآدمية، قانعاً بحياته الحيوانية في مزرعة الأسياد السعيدة، وذلك من خلال هدم منهجيّ لبنيته العقلية والنفسية، وهذا يكون من خلال تفريغ التعليم من محتواه، ليقتصر دور التعليم على صناعة "الموظف العبد"، المربوط بساقية المكتب أو الوظيفة، الغارق في البيروقراطية القاتلة للروح والعقل، وتدريب الطالب منذ نعومة أظفاره على الحفظ والبصم وتلقي الأوامر وتنفيذها، وخنق كل إرادة ذاتيه حرة، وكل روح للتمرد من شأنها أن تكون محركاً لتغيير الواقع.
الحاكم البرغوث، الذي يقتات على دماء شعبه لا بد أن يُهندِس المجتمع ليكون مجتمع زومبيّ حيواني بحت، يرضى بعشرات آلاف البراغيث البشرية، التي تقتاتُ على جِلده ودمه وروحه وتتعاظم وتتعملق.
وهي تمتص عُصارة وجوده، أما الإنسان الواعي النظيف فهو ببساطة يغسلها بطوفان ماء لا يُبقي ولا يذر، ويصنع وجوداً نظيفاً يستحق البقاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.