يحتل الأقصى والقدس وفلسطين كلها مكانة كبرى في قلب ونفس كل مسلم، لأنها قضية مركزية عند المسلم والعربي والإنسان الحر في هذا العالم، لأنها تمثل أكبر وأقدم قضية مظلومية لا يختلف عليها أي عاقل، وبخاصة كلما تجددت اعتداءات الكيان الصهيوني والتي لا تنتهي بطبيعتها.
أدلة المحرمين
هناك علماء يحرمون الزيارة للأقصى في ظل الاحتلال، وعلى رأس هؤلاء شيخنا العلامة يوسف القرضاوي، وعدد من الروابط العلمائية الشعبية، وقد بنوا فتواهم على أدلة، وعلى معلومات من الحركات والفصائل المقاومة، وأدلتهم في الموضوع هي أدلة عامة، لأنه لا يوجد دليل خاص بالموضوع، مثل قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة: 2، لكن لا يوجد دليل قاطع في الموضوع، وإلا لما كان هناك مجيز للزيارة ومانع لها.
وأهم ما يبني عليه المحرمون رأيهم: أن الزيارة تدعم الاحتلال، وذلك بالاعتراف به، ونيل الفيزا للدخول للأقصى عن طريق سفارته، والمرور على ضباطه ومطاره، ووضع خاتم الكيان الصهيوني على جواز السفر، إلى آخر الإجراءات التي تتعلق رسمياً ومالياً وسياسياً بالكيان، وأن ذلك كله يصب في صالحه، والأولى أن نقاطع ولا نزور، حتى لا يكون ذلك مدخلاً للتطبيع مع العدو.
أدلة المجيزين
أما من يجيزون، فقد بنوا رأيهم على أدلة أيضاً، وعلى معلومات أغلبها من الدوائر القريبة من السلطة، سواء في بلدانهم، أو في فلسطين المحتلة، وهو ما جعل الرأي محوطاً بالتوجس، ومحوطاً بالشبهات السياسية. إلا أن شيخنا الكبير الدكتور أحمد الريسوني وهو الآن رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خلفاً للقرضاوي، أفتى مؤخراً بالجواز، وأن ذلك لا يعد من التطبيع.
وما يستدل به المجيزون للزيارة، يرون أن الأمر فيه نفع للداخل الفلسطيني، من حيث النفع المادي والسياسي، والدعم المعنوي، ولا يعد ذلك تطبيعاً، بل عوناً وإسهاماً مع المظلومين من أهل الأقصى والقدس.
إعادة النظر في فتاوى الجواز والتحريم
والآن هناك مستجدات في الشأن الفلسطيني المقدسي تحديداً، فالخطر المحدق بالأقصى يزداد يوماً بعد يوم، فهناك تفكير يرى أنه لو أن باب الزيارة للأقصى مفتوح من حيث الفتوى، وكان هناك في اعتكاف المقدسيين بعض الجنسيات الأخرى، بحيث يصبح الموقف معبراً عن شعوب العالم الإسلامي وغيره، يعطي دعماً وسنداً للقضية أكثر.
وهناك مبررات أخرى تذكر في هذا السياق، أصبحت تذكر أكثر من ذي قبل، تتعلق بدعم الأقصى، ومن هذا الدعم ما يعد دعماً معنوياً، بحيث لا يكون في المواجهة مع الاحتلال أهل الأقصى وحدهم، بل هناك جنسيات أخرى تتضامن، وبخاصة من المسلمين ذوي الجنسيات القوية دولياً، كأهل أوروبا وأمريكا.
هذه بعض أفكار ومستجدات طرأت على فتاوى التحريم بزيارة الأقصى في ظل الاحتلال، وأعتقد أن ما نحتاجه اليوم هو إعادة النظر في هذه الفتاوى، سواء التحريم أو الجواز على حد سواء، فإني فيما أعلم لم تستند فتاوى المحرمين أو المجيزين على دراسات واقعية، أو استبانة ترفع لهم الواقع الحقيقي، هل يفيد القدس والأقصى مثل هذه الزيارات، أم يضرها؟
ولسنا نقصد هنا بالنفع للأقصى والقدس النفع المادي فقط، بل والمعنوي، فالقضية الفلسطينية وفي القلب منها الأقصى، ليست قضية بناء مادي، أو مسألة مادية فقط، بل الجزء الأكبر منها معنوي، لأنه يمثل مقدساً دينياً كبيراً للأمة، فالجانب المعنوي كبير، وهو ما لا بد أن يراعى في الفتوى التي تتناول الموضوع.
أما حجة المحرمين بأنه اعتراف بالكيان الصهيوني، فهو ليس اعترافاً حقيقياً لمن يحصل على تأشيرة دخول، لأن الاعتراف والإقرار هو أمر قلبي ولساني وواقعي، وهو ما يتنافى مع شعور وتصرف الكثيرين ممن يزورون الأقصى بنية نصرته، لا بنية التطبيع، ولا بنية أن ينضم للصهاينة العرب.
فجل المعابر التي تنفذ منها المعونات للفلسطينيين سواء في غزة أو غيرها، لا بد قبل وصولها من سماح الكيان الصهيوني بذلك، سواء تحت ضغوط أم بدونها، وحتى دول الطوق والجوار، لا تسمح بأي من ذلك إلا برضا معلن أو مخفي من الكيان.
ونحتاج لإعادة النظر في فتاوى الطرفين المحرم والمجيز على حد سواء، لأنها فتاوى تتعلق بأمر سياسي، وهو ليس من الثوابت، فمن يحرم الزيارة يعلم أنه محرم لغيره، وليس محرماً لذاته، فزيارة الأقصى ليست محرمة تحريماً أبدياً، بل هي تحريم لعلة وضعها تحت الاحتلال وفي سياق معين، وهو رأي يستند لأدلة بلا شك، لكنها ليست قضية ثابتة دينياً، فالحرام لذاته يحرم دائماً، لكن المحرم لغيره، هو ما حرم لعلة ما يكتنف الأمر من محرمات تحوط به، أو تنتج عنه، فإذا زالت أسباب التحريم زال التحريم نفسه، فالقاعدة تقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وانتفاء، يعني: الحكم الفقهي الذي كان لعلة، يظل باقياً ما بقيت العلة، فإذا انتفت العلة، وزالت العلة، زال الحكم، وتغير لحكم آخر.
ولا بد من إعادة النظر في الفتوى الفقهية هنا، نظراً جماعياً، لأنها قضية تتعلق بالأمة، وقضايا الأمة لا يفتي فيها الأفراد وحدهم، بل لا بد من النظر الجماعي، أو مؤسسات الفتوى الجماعية المعبرة عن الأمة بقدر الإمكان، وليس ذلك حجراً على الاجتهاد الفردي، بل تبدأ الفتوى الجماعية بتفكير فردي من بعض العلماء، ولكن تظل فتواه في إطار الفتوى الفردية مهما كان علمه وثقله، ومهما كانت فتواه قوية مدعمة بالأدلة، فلا بد أن يقويها بالعرض والنظر من بقية العلماء المعنيين بالشأن العام للأمة، المؤهلين للإفتاء فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.