"قال لي أحد معارفي الأتراك عندما عرف أنني في الطريق إلى أدرنة: لا تنسَ أن تزور السليمية "يقصد جامع السليمية"، أعرف أن أدرنة مدينة جوامع، ولكن لماذا السليمية؟ وقفت على مرتفع السليمية، وجدتني أرى بانوراما كاملة للمدينة، الواضح أن هناك مسجدين قريبين، أحدهما وهو الأكبر له منارتان، والآخر يبدو أصغر ومكانه أكثر انخفاضاً، أما على البُعد على الجانب الآخر من النهر فهناك مسجد رابع، إذن فنحن نقف على مرتفع أقيم عليه جامع السليمية الذي تراه أنَّى توجهت في أدرنة، والجامعان القريبان هما جامع أدرنة العظيم، الذي حمل بعد بناء جامع السليمية اسم إسكي جامع، أي الجامع القديم، والجامع المجاور له يسمى جامع الشرفات الثلاث، وأما الجامع الذي يطل من الجهة الأخرى من النهر فهو جامع السلطان بايزيد الثاني، الذي سُمي بالولي بايزيد لتقواه وحبه لعمل الخير.
جامع السليمية هو تحفة معمارية تضاف إلى منجزات المعماري سنان، وهو سنان أغا، ويسميه البعض سنان الثاني تمييزاً عن عتيق سنان، أو سنان الأول، الذي كان مهندس جامع الفاتح. وقد تم تجنيده صغيراً عندما كان في قيصرية، وحين خلا منصب كبير المهندسين رشحه لطفي باشا للسلطان، وكان قبلها عضواً في الحرس السلطاني.
إذن فإن جامع السليمية منسوب إلى بانيه السلطان سليم الثاني، وهذا غير سليم الأول، الذي دُعي بالياووز سليم لشدته، سليم الأول هو الذي ضم سوريا ومصر إلى الدولة العثمانية، ولُقب بخادم الحرمين، هناك جامع يافوز سليم المقام في إسطنبول، والذي يطل على القرن الذهبي. وهذا الجامع شارك المعماري سنان في بنائه، ولكنه لم يكن وحده. جامع السليمية هو جامع السلطان سليم الثاني، ابن سليمان القانوني من زوجته هرم (روكسلانة). و كعادة كل سلطان فإنه يخلد نفسه ببناء مسجد، ولما كان بناء مسجد آخر في إسطنبول لن يلفت أنظار كثيرين فقد ارتأى أن يقيمه في أدرنة، العاصمة التي سبقت إسطنبول، حيث بقيت عاصمة مدة ثلاثة أرباع قرن.
يكتب سنان أن سيده سليم قد اختار أدرنة مكاناً لمسجده، لعشقه لهذه المدينة، وطلب إليه أن يكون بناؤه جاذباً لأنظار كل من يمر بأدرنة.
روعة المساجد العثمانية تكمن في قبابها، وحتى يتفادى المهندس حمل القباب على أعمدة تقطع صفوف المصلين فإنه يقوم بعمل مجموعة قباب صغيرة بجانب القبة الرئيسة، كما هو الحال في مسجد أدرنة القديم، ومع الوقت استعاضوا عن ذلك بأربعة أنصاف قباب تساعد على حمل القبة الرئيسية، كما نرى في مسجد الفاتح.
ثم حمل سنان قبة جامع السليمانية على نصفي قبتين، ولكنه في السليمية طور الأمر ليصل إلى بناء قبة هائلة الحجم، محمولة على أعمدة تشكل جزءاً من الحوائط ولا تدخل بين المصلين، وحولت مدرسة الحديث الملحقة بالمسجد إلى متحف إسلامي، فيه الكثير عن سنان، يذكر سنان أنه طاف العالم الإسلامي في خدمة السلطان، ودرس كل القباب التي رأها، وكذلك عرف كيف بُني كل ركن من أركانها، وجاء يطبق ما تعلّمه في هذه المساجد، وفي المتحف صورة لختمه باسم الفقير الحقير سنان، يبدو أنه كان يتمتع بأخلاق الموظفين من الدرجة الرفيعة، التي تحولهم إلى شيء يشبه العبيد، وربما كان تواضعاً أخفقت في فهمه.
لكن سنان يكتب راجياً من كل ذي قلب نقي وشفوق -يرى أعماله التي استفرغ فيها جهده وفنه- أن يدعو له في صلاته، لم أتأكد من المعلومة التي أوردتها أليف شفق في روايتها "لقيطة إسطنبول"، عن سنان، فذكرت أنه من أصل أرمني.
علماً أن سنان كان أحد أبطال روايتها العظيمة "المعلم والفتى اليتيم"، وفي تلك الرواية تربط بين المعمار العثماني وتحفة المعمار في الهند "تاج محل".
لفت نظري في المتحف باب جميل من الخشب المنقوش، مكتوب عليه العبارة الصوفية (حسنات الأبرار سيئات المتقين). وكمعظم المساجد العثمانية نُقش اسم الله، واسم رسوله، وأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، واسما الحسن والحسين في زوايا القبة. ألحق المتحف الإثنوغرافي بالمتحف الإسلامي، وفيه تفاصيل أخرى عن السكان والحيوانات والنباتات التي وُجدت في أحافير المنطقة، كما أن هناك جزءاً مفتوحاً من المتحف يحوي نماذج للأحجار التي كانت تتخذ منها شواهد القبور.
المسجد القديم لا يقل أُبّهة عن مسجد السليمية، إلا في أن موقعه منخفض قليلاً، تحتاج لساعات لتتأمل زخرفات ونقوش قبابه الكثيرة.
ينفرد المسجد بين المساجد العثمانية التي رأيتها في نقشه أسماء باقي المبشرين بالجنة من الصحابة على الجدران، كما يضاف إليهم اسم الصحابي بلال الحبشي، مثله في ذلك مثل مسجد أبي أيوب الأنصاري. بني هذا المسجد وكذلك مسجد الشرفات الثلاث في القرن الخامس عشر، يوم كانت أدرنة هي عاصمة السلطنة، وقد استغرق بناؤه عهد سليمان جلبي وموسى جلبي ومحمود جلبي، وهؤلاء هم أبناء بايزيد الأول، المعروف ببايزيد الصاعقة، وكان بايزيد قد فقد ملكه لصالح المغولي تيمورلنك، وتقاتل أبناؤه على العرش، ويقول البعض إن موسى جلبي هو المؤسس الثاني للدولة العثمانية. في المسجد شيء يشار له بالركن اليماني، قرأته في اللوحة التي تشرح عن المسجد، وتقول إن هناك حجراً أسود بجانب المنبر، هو حجر جُلب من مكة، مما كان من حجارة الكعبة.
حاولت أن أجده فلم أنجح، وإن كنت مستغرباً، ففي فترة بناء المسجد، أي في القرن الخامس عشر الميلادي لم تكن مكة تابعة لبني عثمان.
ثالث المساجد يُطلق عليه مسجد الشرفات الثلاث، والمعروف أن المساجد العثمانية تحوي أكثر من منارة، وكل منارة فيها عدد من الشرفات، واحدة أو اثنتان على الأغلب، ولكن هناك واحدة من مآذنه الأربع لها ثلاث شرفات، فسُمي المسجد على اسمها، يخلو المسجد من أسماء الصحابة، العجيب أن ما يدعم القبة الكبيرة أربعة أجزاء من قبة لا يبلغ أي منها حجم ربع قبة.
مال قلبي إلى هذا المسجد أكثر من سابقيه، مسجد بناه مجهولون، ولذا لم يحمل إلا هذا الاسم غير المألوف، فلعل بانوه من الأتقياء الأخفياء الذين يُستسقي بهم الغمام.
في مجمع المساجد الثلاثة هذا مبنى يتبع البلديه، مكتوب على شاهده بالعربية إنه قد أقيم في سنة ١٣١٨ هجرية، هذا يحمل ذكرى طيبة، حملت طيبها ومضت علَّها تعود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.