من اللحظات الفارقة في حياة الكثير من النساء لحظة الأمومة، فأنا لا أنسى أبداً ذلك الشعور الذي ذقته مع ولادة ابني البكر، لقد تناسيت آلامي في لحظة وكنت أشعر بفرحة غامرة حد البكاء.
ومن عادة مشفى الولادة الأكبر في البلد الذي أعيش فيه أن تضع الطفل بعد ولادته مباشرة في حضن أمه، وهنا أول لحظة لبدء مشاعر الأمومة، أول لمسة لجسد الطفل الوليد لتربيته على ظهره الغض، لسماع بكائه المتشنج، لرؤية وجهه المحمر وعينيه المغمضتين كقطة صغيرة.
وعندما نُقلت لغرفة الإفاقة، بدأت أستوعب هذه اللحظات الفارقة فقد انتهت حياة الدعة وبدأت مرحلة الجد، مرحلة جديدة في حياتي فتح هذا الصغير أبوابها لي، لقد أصبحت أماً؛ كأمي كخالتي، ككل الأمهات زميلاتي في الغرفة، كصديقاتي اللاتي أنجبن قبلي، أنا الآن لدي مسؤولية هذا الصغير الرقيق، ثم أنظر إليه وأتعجب كيف تكوَّن؟ فشعور أن أمسك جزءاً مني في صورة بشري صغير كان بالنسبة إلي وكأنه معجزة، وهي بالفعل معجزة فسبحان الخالق!
كنت أتأمل كل ما فيه بكل خلايا عيني، ألمس يديه الصغيرتين ووجهه الصغير وقدميه الدقيقتين وفمه المزموم، وأقبله بكل حنان وأهمس له "حبيب ماما".
بعد الولادة لم يعد كل شيء كسابقه، فقد تغير نظام النوم واليوم بأكمله، أمكث بالساعات حاملة هذا المشاغب الصغير، أهدهده حتى ينام، وقد أنام جالسة خشية إيقاظه إن وضعته في السرير.
أهرع لبكائه، ألاحظ نموه جيداً، أنضم إلى المنتديات النسائية علَّني أتعلم من خبرات العضوات، أبحث عن مواقع تقدم نصائح العناية بالأطفال للأمهات الجدد، وأصبح هذا الكائن الذي لا يزيد طوله عن ذراع، هو من يتحكم بي!
تمر الأيام ويرزقني الله ابناً ثم بنتاً، وبالتأكيد فشعور الأم ذات الطفل الواحد يختلف تماماً عن شعور الأم لأكثر من طفل، فما كنت أخشاه على ابني البكر قد تعلمت التعامل معاه في ولديّ الآخرين، لم يعد ذهابنا لطوارئ الأطفال مع كل نزلة برد أو ارتفاع حرارة، بل صار فقط مع الأمور التي لم يجد التعامل معها نفعاً!
مع الابن الأول يكون البيت هادئاً تتأملين حركاته وسكناته بشغف وحب بالغ، فهو تجربتك الأولى الحية في الأمومة تستمعين بكل لحظة، تصبرين على صراخه وبكائه؛ مع الطفل الثاني والثالث، تفقدين أعصابك، تتمنين لو تهربين من البيت بملابسك التي عليك حافية القدمين شعثاء الرأس، ثم تستعيذين بالله مفجرة غضبك على زوجك المسكين أو في قطعة شوكولاتة كبيرة الحجم!
وكلما كبر الأطفال آمنت بمقولة أمي "التربية تأديب وتهذيب"، فنحن نتغير معهم، يؤثرون هم فينا قبل أن نؤثر نحن فيهم، حتى إنني أصبحت أشك بالكلية بالفكرة التي مفادها أن الطفل كالعجينة التي يمكن للأم تشكيلها كيفما تشاء!
فقد لاحظت أن لكل من أبنائي شخصيته الفريدة التي ولد بها، مشاعره الخاصة وطريقته المختلفة في كل شيء، حتى في حب النوم وفي الغضب!
ومن المواقف التي أمر بها بشكل يومي، ذلك الغضب والوعيد الذي أكيله لابني الأوسط بالتحديد وما إن يأتي إلي خافضاً عينه بوجهه البريء معتذراً ومحيطاً بذراعيه الصغيرتين عنقي، إلا تهاوت صروح حنقي وأجدني فرحة بهذا الاعتذار أكثر منه فألثم خديه الدافئتين وأشم رائحته الحلوة، ونتصافى كأن شيئاً لم يكن وبعد قليل نتشاجر مجدداً وخاصة في معارك ما قبل الاختبارات!
أعشق الكلمات البسيطة التي يكتبها لي أبنائي في رسائلهم، أضحك على أخطائهم الإملائية، ومشاعرهم التي قد يعبرون عنها بالرسم فقد يرسموننا أنا وزوجي عندما نغضب عليهم وعلى وجهنا علامات الغضب، ويرسم ابني وابنتي نفسيهما وهما حزينان تتألق الدموع في مآقيهما فننفجر ضاحكين ونحن نرى شكلي وجهينا برسمهما البسيط المعبر.
وعندما يكون لديك ابنة، فلا بد أن تصبري على بعض النكد الأنثوي غير المبرر، فأحياناً تحزن ابنتي وتبكي وتبدأ في تذكر أشياء أخرى تجعل الوضع الدرامي متفاقماً!
ولكن هي صديقتي الصغيرة أشاورها أحياناً عندما أشتري شيئاً لنفسي، وتحب مشاهدة صور المجوهرات على التطبيقات معي، تحب الرسم مثلي، وهي كذلك سر أخيها، يقومان بعمل المصائب معاً، وفي لحظة صفاء خاصة تأتي وتخبرني مرة واحدة بما فعلاه، وتعتذر وتعانقني بينما أنا مصدومة من جرائمهما الصغيرة التي تتمثل غالباً في أكل بعض الحلوى سراً!
أندهش من نفسي كثيراً عندما يعتريني غضبٌ جامحٌ إذا ما أوذي أحد أبنائي، وأتحول لأسدٍ هصورٍ يحمي أشباله، وأنا من ترتبك في مواعيد المتابعة الصحية العادية والمحادثات الهاتفية، وأعجز عن أخذ حقي أمام من تتخابث في الكيد لي، فكيف يحدث لي هذا!
يكبر الأبناء وتكبر معهم همومهم، لكن بالتأكيد تظل السنوات الأولى هي الأكثر إرهاقاً بدنياً، ويمسح عنا هذا الجهد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك) متفق عليه، وزاد في مسلم: (ثم أدناك أدناك) .
فاللهم احفظ أبناءنا وأنبتهم نباتاً حسناً واجعلهم بارين صالحين مصلحين وارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
كانت هذه تجربتي مع الأمومة فماذا عنك صديقتي؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.