في واحدة من أسوأ حلقات الاضطهاد الديني والتمييز على أساس العقيدة والحرمان من أبسط الحقوق، تعاني الأقليات المسلمة المنتشرة في العالم من الكثير من التمييز والتضييق، الذي وصل إلى حد التقتيل والإبادة والتهجير، حتى إن بعض الأقليات المسلمة صارت تُصنَّف "الأقلية الأكثر اضطهاداً في العالم".
تركستان الشرقية
وصلت الممارسات القمعية ضد الأقليات المسلمة إلى حد التخطيط والتفكير في طرق للحد من تزايد أعداد المسلمين في بعض المناطق، عبر وسائل طبية للتأثير على قدرة الإنجاب، بل إن هنالك تقارير حول ممارسة ذلك فعلياً في بعض المناطق؛ مما يذكّرنا بالوسائل النازية التي انتُهجت بحجة تحسين النسل في ظل الاختراع النازي المعروف بـ"علم تحسين الأنسال"، ومنع أجناس معينة من التكاثر؛ لأنها أجناس عديمة الفائدة والقيمة.
تفاقم مشكلة عدد من الأقليات المسلمة ليس بفعل الاضطهاد الديني فحسب؛ بل أيضاً بفعل تمركز المسلمين في عدد من الدول في المناطق الغنية بالثروات المعدنية والطاقوية والزراعية. مسلسل مأساة مسلمي إقليم "شينجيانغ" غربي الصين، الذي كان يُعرف -ولا يزال يعرف- بين المنادين باستقلاله باسم "تركستان الشرقية"، لا يمكن فصلها عن كون ذلك الإقليم قلب الموارد النابض للصين، سواء من حيث ما يتمتع به من ثروات، أو لكونه منطقة عبور و"ترانزيت" للواردات الصينية القادمة من جمهوريات آسيا الوسطى وخاصة الطاقوية منها.
يعد إقليم "تركستان الشرقية" من سلال الغذاء المهمة في الصين، بإنتاجه لأجود أنواع الحبوب خاصة القمح والخضار والفواكه، وتحول الإقليم إلى عصب الإنتاج الطاقوي الصيني باحتوائه على أعلى مخزونات النفط والغاز في الصين، ومساهمته بقسط كبير في الإنتاج المحلي الصيني من هذه المواد الحيوية.
وإذا علمنا مدى حساسية الصين تجاه قضية الأمن الطاقوي، وعملها بجميع السبل المتاحة على توفير احتياجاتها الطاقوية، وإلى جانب الإنتاج يعد الإقليم ممراً لا غنى عنه لأنابيب النفط والغاز القادمة من جمهوريات آسيا الوسطى نحو الصين، والتي تمر بعد ذلك نحو مناطق التصنيع الرئيسة خصوصاً في سواحل شرق البلاد، وذلك بحكم الموقع الجغرافي للإقليم المحاذي لجمهوريات آسيا الوسطى بشكل مباشر.
ناهيك عن المعادن المختلفة التي تزخر بها أعماق أراضي شينجيانغ والتي تساهم في استمرار النهضة الاقتصادية الصينية من جهة، ودعم التوجهات الاستراتيجية لبكين من جهة ثانية، لا سيما مع غنى الإقليم بمادتي التيتانيوم والراديوم.
هذه العوامل تزيد من تمسك الصين بالإقليم، وقمع أي محاولة لانفصاله، ولو تطلب ذلك انتهاك هوية الأغلبية المسلمة للإقليم، بشتى الوسائل، سواء كانت قمعية عبر الاعتقالات بتهمة الإرهاب، والتضييق على الممارسات الدينية، وفصل سكان الإقليم عن موروثهم الإسلامي، ومحاولة تغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم لجعل المسلمين أقلية هناك، وذلك عن طريق تشجيع الكثير من المواطنين الصينيين من قومية "الهان" بالخصوص على التوطن في "شينجيانغ" ومنحهم امتيازات خاصة حُرم منها سكان الإقليم الأصليون من المسلمين.
وكانت قضية المعتقلات التي حوّت ملايين المسلمين من سكان الإقليم، بحجة إعادة تأهيلهم واستئصال فكرهم المتطرف، واحدة من القضايا التي شغلت الرأي العام الدولي والإعلام العالمي، ولكن الصين نجحت بفعل نفوذها وقوتها الدبلوماسية وعلاقاتها المتشعبة بمختلف دول العالم، في ربح معركة تجاوز الضغط الدولي، ووصل تأثيرها حتى إلى عدد من الدول الإسلامية التي تغاضت عن الممارسات الصينية، وذلك على الرغم من أنه لا يمكن نفي جهود الصين لتنمية الإقليم وربطه بالاقتصاد المركزي، وتحسين البنية التحتية هناك، غير أن المسلمين هم الأقل استفادة من تلك الإنجازات.
الأقلية الأكثر اضطهاداً في العالم
غير بعيد جداً عن شينجيانغ يقع إقليم "راخين" واسمه القديم "أراكان" التابع لميانمار، والذي تقطنه الأقلية المسلمة في البلاد من الروهينغا، يكفي للتدليل على اضطهاد هذه الأقلية المسلمة، أن الأمم المتحدة صنفتها في أحد تقاريرها بأنها "الأقلية الأكثر اضطهاداً في العالم".
وليس خفياً مقدار المعاناة التي كابدها المسلمون هناك، بسبب السعي الممنهج من طرف سلطات ميانمار والقوى الدينية من المتعصبين البوذيين لتطهير البلاد من أي وجود للمسلمين، وارتكاب جرائم إبادة موثقة في حقهم، والهدف هو إخلاء الإقليم من قاطنيه وتحويله إلى فضاء بوذي خالص من جهة، وتجنب كل ما يمكنه تعكير صفو المطامع الاقتصادية التي تحرك سلطات ميانمار؛ لأن الإقليم هو موطن أكبر الاحتياطيات النفطية والغازية في البلاد، كما أن موقعه المطل على خليج البنغال مباشرة يتيح فرصاً واعدة لتصديره بسهولة.
ناهيك عن دخول الصين بقوة في استثمارات بمليارات الدولارات في حقول النفط والغاز هناك، وإشرافها على بناء أنابيب لنقل تلك الموارد نحو إقليم يونان الصيني بالخصوص، وهناك من يربط بين موجة الاضطهاد والتقتيل في حق مسلمي الروهينغا التي خلفت آلاف القتلى وأكثر من 700 ألف لاجئ نحو بنغلاديش، بسعي سلطات ميانمار لتطهير الإقليم الغني بثرواته من المسلمين، وذلك بغية تفادي كل ما من شأنه التأثير سلباً في خططها لتحويل الإقليم إلى قاطرة الإنعاش الاقتصادي، في دولة فقيرة رغم أنها معروفة بكونها تاريخياً من أقدم مناطق إنتاج النفط عالمياً، غير أن وقوعها تحت سيطرة طغمة عسكرية حاكمة منذ عقود جعل ثرواتها حكراً على قلة قليلة فقط.
"لابو لابو"
بعيداً وفي غياهب المحيط الهادئ؛ حيث تتناثر جزر أرخبيل الفلبين، التي سميت بذلك تكريماً للملك الإسباني "فيليب"؛ لتلك الجزر، وخصوصاً في جنوبها قصتها الطويلة مع الإسلام المليئة بمآثر الانتصارات تارة، ومآسي الانكسارات والاضطهاد تارة أخرى. إلى غاية القرن السادس عشر لم يكن للمسيحية وجود في تلك الجزر، حيث كان ينتشر الإسلام في بعض الأجزاء والوثنية في أجزاء أخرى، إلى غاية بداية الحملات الاستعمارية الإسبانية.
وكان من أشهرها الحملة التي قادها القائد والمبشر "ماجلان" البرتغالي الذي كان يعمل لصالح ملك إسبانيا آنذاك، والذي نجح في إخضاع العديد من الحكام الوثنيين في تلك الجزر، غير أنه اصطدم بصلابة القائد المسلم "لابو لابو"، الذي هزم الحملة الإسبانية وقتل بيده قائدها ماجلان، غير أن حملات أخرى نجحت في احتلال الأرخبيل وتنصير غالبية سكانه، وظلت فقط بعض الجزر في جنوب الأرخبيل على دينها الإسلامي، خاصة في "مينداناو".
وكان الإسبان قد أطلقوا على مسلمي الإقليم لقب "موروس"، وقد منح الله "مينداناو" ثروات برية وبحرية هي الأكبر في الفيليبين زراعياً ومعدنياً، ولكنَّ المسلمين هم الأقل استفادة منها، ذلك أنه يتم استجلاب ملاك وعمالة مسيحية كبيرة للعمل هناك، فيما يعيش السكان الأصليون للمنطقة ظروفاً اقتصادية مزرية، جعلت من مناطقهم الأقل حظاً من حيث مؤشرات التنمية.
ما زاد الطين بلةً هو تغلغل الشركات متعددة الجنسيات هناك واستغلالها لتلك الثروات بدعم من الحكومة المركزية في مانيلا، وهو ما قوى الشعور بالتهميش لدى مسلمي الإقليم وأطلق نزعة انفصالية منذ عقود، لم تنجح مختلف الجهود حتى الآن في احتوائها.
الخلاصة
إن اجتماع ثنائية الاضطهاد والتمييز الدينيين من جهة، وعدم التكافؤ الاقتصادي واحتكار الثروات وحرمان السكان المسلمين من خيرات مناطق سكنهم الأصلية من جهة أخرى، سواء كان ذلك في شينجيانغ في الصين، أو راخين في ميانمار، أو مينداناو في الفيليبين، جميعها عوامل تؤجج حالة الإحباط التي تتحول فيما بعد إلى مطالب انفصالية، وحتى حركات مسلحة تتبنى تلك لمطالب، فمع فشل السلطات المركزية في احتواء تلك الأقليات المسلمة، والاستمرار في نهب ثروات مناطق وجودها، فمن الطبيعي أن تتولد حالات الاستياء وحتى التمرد في أوساط تلك الأقليات، وهنا تكون من نصيبهم التهمة الجاهزة وعلى المقاس طبعاً "الإرهاب".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.