المواجهة هي أحد المسارات المركزية التي يتحتم على أي نظام التحلي بها في المعترك السياسي، فلا لعب مع الكبار دون مواجهة، ولا صفة سوى المواجهة قادرة على تفكيك الأخطاء المتعاقبة المتراكمة.
ففي مقابل المواجهة، لا يعني الهروب سوى مقترحات تلفيقية، وخسارة الحلول البسيطة، وعُجالة الموت المحقق بالبلاد والعباد.
المواجهة تمنح الفرصة للبقاء على قيد الحياة.
متلازمة المحاصصة
عندما يدور الحديث حول الشأن اللبناني، فيجب على الفور استحضار ثلاثية متلازمة، وهي المحاصصة، بحكم أنه بلد متعدد الإثنيات والمذاهب، فالدستور الذي أخرجه المُحتل الفرنسي أحكم في نصوصه التقسيم السلطوي البنيوي في نظام الحكم للبنان.
ثانياً الاقتصاد والآلية التي يُدار بها من قِبَل النُظم المتعاقبة عليه، وثالثاً التدخلات الإقليمية التي بدورها تخلق حالات من الإرباك الداخلي، فإيران حاضرة بقوة مُمَثلة في الثنائي الشيعي، والثنائي الشيعي لديه حاضنة شعبية وشرعية برلمانية وتمثيل قوي على مستوى المؤسسات الأمنية والعسكرية، ليس هذا وحسب، بل يمتلك مقدراته التي جعلته لا يتأثر بأي انهيار يعتري الاقتصاد اللبناني، ولا نبالغ القول إن حزب الله يمتلك بعض التقنية العسكرية التي يتم صناعتها في معامله الخاصة في الجنوب اللبناني.
المحاصصة حاضرة بموجب الواقع اللبناني الذي تولد من ذاته ذات الشاكلة الطائفية، نُثِرَت بذوره قبل نزعه من الشام الكبير، ثم اتفاقية ونظام "القائمقامية" عام 1840، وتلاها المتصرفية في العام 1861 وباتفاق الدولة العثمانية آنذاك والجانب الأوروبي، وجدير بالذكر أن لحظة الاعتراف بالشعب اللبناني هي ذاتها اللحظة التي تم الاعتراف بالشعب اللبناني "كمجموعة طوائف" في المادة 24 من دستور 1926، وتمت ترجمته باتفاق عُرف بميثاق 1943، حيث تم تقسيم السلطات السياسية بين طوائفه الأكبر على نحوٍ يعطي رئاسة الوزراء لأحد ممثلي المسلمين السنة، ورئيس جمهورية ماروني، ورئيس مجلس نواب شيعي، وقد جاء قانون المحاكم الطائفية لعام 1962 ينظم الأحوال الشخصية للطوائف، ويحدد القانون المطبق بالنسبة لكل طائفة. وهذا ما ارتآه المنتصرون في الحرب العالمية في القرن المنصرم جرى على لبنان التقسيم كما جرى على سائر الجغرافيا العربية سواء فرزاً كان أو ضمًاً!
ثمة اتفاقية لعبت دوراً محوريًاً في التأصيل البنيوي للبنان المعاصر، وقد عُرِفت باتفاق "الطائف"، أو ما بات يُعرف لدى اللبنانيين بوثيقة "الوفاق الوطني اللبناني"، والتي صدق عليها مجلس النواب في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 1989، بُعيد الحرب الأهلية التي أكلت نارها الأخضر واليابس.
جاءت وثيقة "الاتفاق الوطني" لتعزيز التوازنات وفق خطة مرحلية تقضي بإلغاء الطائفية، بمعنى آخر إلغاء التمثيل الطائفي وإعطاء الأولوية للكفاءات في مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية على حد السواء، باستثناء الوظائف التي يُطلق عليها الفئة الأولى، مثل رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء توزع مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين.
تبقى علامات الاستفهام عالقة بالأذهان هل المشهد الراهن في لبنان يسير وفق توازنات دستور 1926 وما تبعه من تعديلات؟ وهل تم تفعيل ما بات يُعرف بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني؟ ومن الحاكم الفعلي ذو اليد الطولى في المنافذ والمعابر في لبنان؟
وهل الانقسام داخلي أم أن هناك وجوداً إقليمياً أجنبياً مباشراً وغير مباشر يقوم بدور إذا جاز التوصيف نائب الفاعل؟
اتفاق الطائف 1989 وبداية التدخل السعودي في لبنان
في الواقع جاء اتفاق الطائف بمباركة السعودية التي تدخلت في الشأن اللبناني بشكل مباشر وغير مباشر، فتساءل المهتمون والمختصون في لبنان، هل يمكن لغمدٍ واحد أن يتسع لسيفين؟
والواقع أن ثمة سيوف تسعى لولوج الغمد اللبناني، مما جعل هذا البلد الصغير يعيش ضمن تجاذبات إقليمية، سورية وإيرانية وسعودية، تُعرقل مسيرة استقلاله.
تجدُر الإشارة إلى أن إسناد الجانب السوري مسؤولية الإشراف على تطبيق اتفاق الطائف، أفقد الاتفاقية محتواها الرصين وموضوعية المعالجة لبلد أنهكته الصراعات الطائفية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لقد ساهم الإشراف السوري وقتئذ في تغوّل الثنائي الشيعي باستثنائه من نزع سلاحيهما تحت غطاء "سلاح مقاومة"، ومن ثَمَّ أصبح القول بأن "اتفاق الطائف" جاء ليحقق التوازنات، عبث ولا يؤدي إلى استقرار حقيقي، والحديث هنا عن "المحاصصة" سيصطدم حتماً بالمواجهة، وهذا ما نراه بين الفينة والأخرى في لبنان. رأيناه حينما نزلت الجماهير المناصرة لحزب الله إبان هبة السابع عشر من أكتوبر (تشرين أول)، كيف أنهم نزلوا مسلحين في شوارع بيروت بغية ترويع المتظاهرين الذين نزلوا الشوارع مطالبين بالإصلاح السياسي والاقتصادي، وفي مشهد آخر يتعلق بالتحقيقات في انفجار "مرفأ بيروت"، وكيف تدخل حزب الله وطالب بعزل القاضي المحقق، طارق البيطار، لاستدعاء الأخير وزير المالية علي حسن خليل وهو بالمناسبة ينتمي إلى "حركة أمل".
مدلولات تغول الثنائي الشيعي
لم يكتف حسن نصر الله بالمطالبة بعزل قاضي التحقيق طارق البيطار وحسب، بل وصفه بأنه سيئ مُسيس، برغم أن البيطار لم يكن معروفاً في أوساط وزارة العدل، ناهيك عن الوسط السياسي!
جدير بالذكر أن زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، قالها دون مواربة وعلى الملأ إن حزب الله لديه 100 ألف مقاتل كتهديد للأطراف السياسية الأخرى، هذا الإعلان يطرح علامات استفهام عديدة، ماذا يفعل سلاح المقاومة في بيروت؟ السلاح وجِدَ لمقاومة الكيان الإسرائيلي على حد تبريرات كلا الحزبين؛ حركة أمل وحزب الله، إذن فالجنوب اللبناني هو الجغرافيا المناسبة لوجود المقاومة وسلاحها، والخطاب الساخن والتباهي بالقدرة القتالية والتسليح أولى أن يوجه للكيان الإسرائيلي وليس للقرناء السياسيين الذين تجمعهم قبة برلمانية واحدة.
في الواقع القدرة العسكرية التي يمتلكها الثنائي الشيعي جعلت لهما وجوداً تجاوز الحدود اللبنانية، إلى الإقليمية وبوجهٍ خاص "حزب الله" لديه مليشيات في العراق وسوريا واليمن، ومن هنا تكمن الإشكالية التي تؤرق مضاجع الإصلاح المرجو وتقوض مبدأ التوازنات التي يمكن بها تقاسم السلطة بسلاسة وليس رهباً وطمعاً.
الكتلة السياسية للطائفة المارونية
الكتلة السياسية التي تمثل الطائفة المارونية، يأتي على رأسها رئيس لبنان بالإضافة إلى التمثيل البرلماني، ثم التمثيل على مستوى المؤسسات المدنية والعسكرية، ولدى هذه الكتلة تنسيق ضمني مع الثنائي الشيعي، وبوجهٍ خاص حزب الله اللبناني، فقط من باب الدبلوماسية نطلق عليه تنسيقاً، مع أنه يندرج تحت الإخضاع في غالب مستوياته في التعامل عند اتخاذ القرارات المحورية.
ومن الدلالات التي تدعم هذه المخرجات الموقف من تفجيرات مرفأ بيروت، كان موقف الرئيس عون أقل ما يُقال عنه إنه "سلبي"، وكان متوازياً ومتماثلاً في أحيانٍ كثيرة مع حزب الله بشأن التراخي في التحقيقات المتعلقة بتفجير مرفأ بيروت، إلى حد الاتهام بالسعي لطمس الحقائق.
لبنان ومعضلة النسيج الجغرافي والديموغرافي
لبنان أحد الأقطار التي جرى نسج جغرافيتها وديموغرافيتها على قاعدة "الطائفية"، التي يسهل معها ضرب وعرقلة أي مشروع يتمخض عنه استقرار حقيقي، وليس شكلياً كما كان يبدو منذ عودة الراحل رفيق الحريري من السعودية وفق معاهدة الطائف 1989 كزعيم للأغلبية السنية.
عند التحدث عن الأغلبية السنية يغلب الظن أنها الطائفة التي تتمتع ليس فقط بالحكم، بل بالسيطرة على المؤسسات المركزية المدنية منها والأمنية والعسكرية، وتستحوذ على امتيازات خاصة لا قِبَلَ لسواهم بها، قد نلمس هذا جلياً على جغرافيا وديموغرافيات أخرى كما هو الحال في أوروبا على سبيل المثال لا الحصر، لكن عند إسقاط هذا الواقع على منطقتنا العربية يتبدل المنطق وترى المفارقات التي أنبتها المحتل الأجنبي عن عمدٍ مُقدر ومدروس وفق استراتيجيات بعيدة المدى نلمح غبارها من حينٍ لآخر.
عندما جرى تنصيب الراحل رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف 1989 زعيماً للأغلبية السنية، ورئيساً للحكومة اللبنانية، ارتفع سقف آمال الطائفة السنية بشكلٍ خاص لسبب جوهري، وهو أن بيروت الغربية، وهي بالمناسبة منطقة سنية، من المناطق التي طالها الدمار الكلي إثر الحرب اللبنانية الأهلية، لكن الباعث للدهشة أن الراحل رفيق الحريري الذي كان يطوّقه حافظ الأسد وقتئذ، وبحكم أن النظام السوري كان المسؤول على تنفيذ "اتفاق الطائف" أضحى دوره- أي الحريري- دوراً وظيفياً بامتياز، ومُنفّذاً لتوصيات حافظ الأسد مما أحبط تطلع الطائفة السنية وبدد آمالها.
أنشأ الحريري عديد المشافي في مناطق ليست ذات أغلبية سنية، ولم يكن للسنة نصيب يذكر، كما أن جباية الضرائب جرى تنظيمها في عهد الحريري على أساس الأكثرية السنية التي تدفع القسط الأضخم من الضرائب، بينما لا تحصل على الخدمات الحكومية، وتُصرف لصالح الخدمات للأقليات الأخرى!
منذ عهد الحريري انحصرت الوظائف المنوط بها الطائفة السنية بلبنان، غالباً في الوظائف الدونية، مثل إمداد مؤسسة الجيش والأمن بالعنصر البشرى لشغل الرتب المتدنية، مع حفظ قيادة الأجهزة السيادية والمؤسسات للأقليات!
الانهيار الاقتصادي الفعلي في لبنان
إن لم يكن الإنتاج الربحي هو الآلية التي يعتمد عليها الاقتصاد فى دورة بنائه، فلا معنى لتوفير السلع أو الإقبال على الشراء في رحلة تعافي الاقتصاد من الوهن، ولا تُعد دلالة علمية على قوته، إن لم تكن هناك مشاريع محلية إنتاجية مرتبطة ليس فقط باحتياج الداخل، بل بما يحتاجه السوق الخارجي لتنتعش خزينة الدولة بالعملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الأمريكي.
لكي ينتقل الاقتصاد من كونه اقتصاداً ريعيًاً قائماً على القروض والفوائد، إلى اقتصاد إنتاجي ديناميكي ربحي ينبغي إنشاء مشاريع إنتاجية بخطط واضحة.
لقد فضح اعتماد لبنان على الريع اقتصاده فتهاوت الليرة إلى مستويات متدنية مرعبة عند أول انعطافة اقتصادية حقيقية وضعت الدولة وبنوكها ومودعي الأموال في مأزق حاد.
من هذا المُنطلق، يجدر بنا الإشارة إلى أن الاقتصاد اللبناني بدأ فعلياً في الانهيار منذ 2015، ويمكن القول بوادر الإفلاس، لكن، لأن الحكومات المتعاقبة لم تكن بالجدية بمكان لتلافي الأخطاء التي أدت للانهيار، أو لم يكن لديها نية الإصلاح، وأدمنت السير على حافة الهاوية، فكانت المآلات وخيمة؛ مما حرك جموع اللبنانيين فى انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ثم تبع ذلك انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، مما زاد الوضع تعقيداً على تعقيد.
اعتمدت النظم المتعاقبة على لبنان الحلول التلفيقية الآنية، فكانت البنوك تقرض وتداين من أموال المودعين البنك المركزي، والبنك المركزى يقرض ويداين الدولة، ولأن الدولة لم تكن لدى حكوماتها سياسات براغماتية وطنية، وتابعة لإملاءات الخارج بحكم المحاصصة، كما أن الحرص على مقعد السيادة المُحصّن ضد المساءلة والعقاب أغرى هذه الحكومات لملء خزائنهم الشخصية على حساب العمل لنمو المدخولات لخزانة الدولة، وهذا ليس زعماً مفرطاً ومغالاة، بل حقيقة، ومُثبتة علميًاً بدراسات جدية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.